السعودية وإيران من التناطح إلى التقارب.. ماذا بعد؟

ملف العلاقات السعودية ـ الإيرانية تشوبه تعقيدات عديدة، تطرق إليها موقع "فورين أفيرز" في تقرير هام أعده كل من الخبير الإيراني الأميركي فالي نصر والخبيرة ماريا فانتابي من مركز الحوار الإنساني (تاريخ 3 آب/ أغسطس) وتضمن الآتي:

“لا يمكن إنكار التحول الحاصل اليوم في واشنطن: لم تعد منطقة الشرق الأوسط تشكل الأولوية القصوى بالنسبة للولايات المتحدة. تقهقر الولايات المتحدة في المنطقة يتجلى من خلال مغادرة القوات الأميركية أفغانستان، خفض الالتزامات العسكرية تجاه العراق والأردن والكويت والسعودية، إلى جانب التركيز المتزايد على كل من الصين وروسيا.

هناك أسباب ايجابية وجيهة لهذا التحول في الإستراتيجية (الأميركية)، لا سيما إذا ما نظرنا إلى التاريخ الحديث الحزين والمثير للشفقة للتدخل الأميركي في المنطقة. لكن لهذا التحول مخاطره الخاصة أيضاً. على سبيل المثال، لقد مهد الإنسحاب المتسرع للولايات المتحدة من العراق، في عام 2011، الطريق لصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتوسيع التأثير الإيراني في الإقليم. ولتجنب حدوث ضرر مماثل هذه المرة، يجب على واشنطن أن تجد طريقة للجمع بين قرار خفض التزاماتها العسكرية وبين مكاسب قد تجنيها فيما لو عمَّ الإستقرار الإقليم. واحدة من أفضل الفرص لتحقيق هذه المكاسب تكمن في المحادثات الناشئة بين الخصمين الأكثر أهمية في المنطقة: إيران والسعودية.

حتى في الوقت الذي تتخلى فيه الولايات المتحدة عن التزاماتها، فإن الصراع في الشرق الأوسط قد دخل مرحلة جديدة وخطيرة: إيران وإسرائيل تخوضان ما يمكن وصفها بـ”حرب الظل”. فهما يتبادلان أشكالاً من النزاع في حالة لا هي حرب ولا هي سلم، وكل منهما يستخدم جهات وأدوات مختلفة وفاعلة لتحقيق أهدافهما، وقد تكون أبرزها في هذه المرحلة هي الهجمات الإلكترونية والاغتيالات المبرمجة والتخريب. ومن ناحية أخرى، تقدم كل من روسيا وتركيا “الدعم بالوكالة” للقوات شبه العسكرية في ليبيا وسوريا (وكذلك في القوقاز). أضف إلى ذلك أن تقنيات القذائف والصواريخ التكنولوجية الحديثة والمتطورة تجد طريقها بسهولة إلى أيدي الجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك حركة حماس في غزة والجماعات شبه العسكرية في العراق والحوثيين في اليمن. كما أن تركيا وإيران قد حققتا قفزات مفاجئة في قدراتهما لاستخدام حرب الطائرات من دون طيار (الدرون)، ما أدى إلى تغيير جذري في ميزان القوة العسكري. فقد نجحت “الدرون” التركية في الدفاع عن إدلب في سوريا، وهزمت مقاتلي خليفة حفتر المدعومين من العرب وروسيا في ليبيا، في حين استخدمت إيران طائراتها “الدرون” المتطورة لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة وضرب أهداف حرجة داخل السعودية. ومع انتشار مثل هذه التقنيات في جميع أنحاء المنطقة، ستصبح النزاعات أكثر خطورة ولا يمكن التنبؤ بعواقبها. وكلما زاد احتمال خروج الصراعات عن السيطرة، زاد احتمال أن تضطر الولايات المتحدة إلى العودة إلى المنطقة للتعامل مع العواقب المرتقبة.

سقوط مأرب في أيدي الحوثيين سيطيل أمد الحرب في اليمن، ويدفع جميع الأطراف إلى التصعيد، وسيجلب المزيد من الضغط الدولي على إيران

تنافس وتطاحن في اليمن 

التنافس الأكثر خطورة في المنطقة – وهو التنافس بين إيران والسعودية – بدأ من بلاد الشام إلى خليج فارس (الخليج العربي)، ما أدَّى إلى استقطاب المنطقة على طول خطوط الصدع (الشيعي – السني) و(العربي- الفارسي).

هذا التنافس الطويل الأمد بين الطرفين (إيران والسعودية) بدأ يتصاعد مع بداية الحرب في العراق في عام 2003، ثم مع اندلاع الحروب الأهلية في كل من سوريا واليمن، ومن ثم بعد ذلك الاتفاق النووي الإيراني عام 2015. ووصلت التوترات بينهما إلى نقطة خطيرة بشكل خاص في عام 2019، عندما شنَّت إيران هجوماً عسكرياً معقداً ومتطوراً ضد منشآت نفط سعودية (الهجوم على حقل بقيق أكبر الحقول النفطية في المملكة).

واليوم، يواصل الخصمان “التنافس والتناطح” في اليمن، ويتسابقان على تسجيل نقاط وحجز مواقع في كل من العراق ولبنان، ويمكن أن يكونا مستعدين لتجديد المنافسة بينهما في أفغانستان مع انسحاب الولايات المتحدة من هناك واستيلاء حركة طالبان على معظم الإقليم.

لكن، وبالرغم من كل هذا وذاك، إلتقى مسؤولون عسكريون واستخباراتيون كبار، سعوديون وإيرانيون، في بغداد في نيسان (ابريل) الماضي، وذلك في أعقاب فترة مكثفة من الهجمات الصاروخية وهجمات نفذتها طائرات بدون طيار (درون) انطلقت من اليمن والعراق. وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي هو من جمع الجانبين، مستفيداً من علاقاته مع كل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وطهران. ولم يمض وقت طويل حتى أطلق بن سلمان لهجة تصالحية نادرة، قائلاً إنه يريد “علاقات جيدة” مع إيران، وأعرب في الوقت نفسه عن انفتاحه على الحوار مع الحوثيين الذين تدعمهم إيران في اليمن.

وبدوره، أبدى المتحدث باسم الحكومة الإيرانية تفاؤلاً مماثلاً بشأن حدوث انفراجة في العلاقات الثنائية. وتتوقع الصحافة الإيرانية استئنافاً وشيكاً للعلاقات الدبلوماسية (يشارك وفد سعودي اليوم في حفل تنصيب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران).

وبالفعل، منذ نيسان (ابريل) الماضي، عُقدت اجتماعات إضافية تحت إشراف مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى من كلا الجانبين، بمن فيهم قائد فيلق القدس الإيراني؛ وذلك بعد توقف مؤقت لمناسبة الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ومن المقرر أن تُستأنف المحادثات مرة أخرى بعد تولي الرئيس إبراهيم رئيسي منصبه رسمياً.

تدرك إيران أن المشاركة الإقليمية ضرورية للتوصل إلى صفقة نهائية وثابتة مع واشنطن

أمام كل من إيران والسعودية مسافة ما لا بد من قطعها إذا أرادا إصلاح ما تضرر وتسوية خلافاتهما المزمنة، لكن التقارب الناشئ بينهما حالياً يوفر أفضل فرصة أُتيحت منذ سنوات للعودة إلى الإستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط. وستستفيد الولايات المتحدة بشكل كبير من الدبلوماسية المستمرة التي تحرك الجانبين في الاتجاه الصحيح. وبرغم أن واشنطن ليست على طاولة المفاوضات، لكن بإمكانها تقديم دعم حاسم للعملية وذلك من خلال تزويد المملكة بمزيج صحيح من “التشجيع والطمأنينة” – حتى تضمن ألا يُفضي تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط إلى كارثة في المنطقة.

هواجس بخصوص الالتزام

ثمة سبب للتساؤل عمَّا إذا كانت السعودية ملتزمة بصدق وإخلاص بموضوع إجراء محادثات جادة مع إيران. قد تستخدم الرياض الحوار لتهدئة واشنطن وكسب ثقتها من خلال تقديم نفسها كلاعب إقليمي بنَّاء، أو لكسب الوقت لتعزيز موقعها والتوصل إلى طرق لمواجهة الطائرات بدون طيار الإيرانية. ومع ذلك، لدى الرياض سبب وجيه لدفن الأحقاد مع طهران.

يريد القادة السعوديون إنهاء حربهم المُكلفة في اليمن فوراً، وهذا يتطلب من طهران الضغط على الحوثيين لوقف هجماتهم والدخول في مفاوضات جادّة. فلم يعد بإمكان السعودية الاعتماد على الدعم الأميركي الثابت على المدى الطويل، وقد توترت علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة بسبب نزاعات حول إنتاج النفط. ومع اشتداد المنافسة بين إيران وإسرائيل وتركيا، فقد يسمح خفض التصعيد مع إيران للمملكة بتوسيع نفوذها من خلال لعب دور متوازن في الساحات المتنازع عليها في كل من العراق ولبنان وسوريا.

إقرأ على موقع 180  إلى "يساريي" لبنان: هل تبنينا "إعادة التوزيع" ونسينا "التوزيع"؟ (1)

إن الرياض تفتقر إلى قدرة الإقناع باستراتيجيتها، وتفتقر أيضاً للموارد اللازمة لتنفيذها. وهي تعلم ذلك: فهي عالقة في مستنقع اليمن، وعرضة لهجمات الطائرات بدون طيار الإيرانية. تراجعت في لبنان. خسرت في الحرب السورية، وها هي أسيرة دور التابع في العراق منذ عام 2003 (لم تنجز أي تقدم خاص بها).

على النقيض من ذلك، فإن النفوذ الإيراني راسخ بقوة في بلاد الشام. وبفضل مناورة الرياض المشؤومة لعام 2017 لعزل قطر، استطاعت طهران أيضاً توسيع نفوذها إلى الشواطئ الجنوبية للخليج العربي.

التقارب الناشئ بين السعودية وإيران أفضل فرصة منذ سنوات لعودة الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط

وأكثر ما يخشاه المسؤولون السعوديون هو أن لا يؤدي الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة إلا إلى تعزيز ثقة إيران بنفسها، وينهي عزلتها الدولية، ويسمح لاقتصادها وتجارتها الإقليمية بالتوسع.

لكن المحادثات الناجحة تصب في مصلحة إيران أيضاً. فالأخيرة تُخفي مخاوف صاخبة بشأن تكلفة تنافسها الإقليمي غير المنضبط مع الرياض، وقد تُحبط التوترات الإقليمية المستمرة رغبة الحكومة الإيرانية في تقليص الوجود الأميركي.

تود إيران كذلك أن تنهي السعودية دعمها للقوات الانفصالية في إيران، وأن توقف تمويلها لوسائل الإعلام (الإيرانية) الناشطة في المنفى والتي تشجع على تغيير النظام في طهران.

بعد الإعلان عن الاتفاق النووي لعام 2015، قلَّلت إيران من قدرة خصومها على تقويض الاتفاقية. هذه المرة، ترى أن المشاركة الإقليمية ضرورية للتوصل إلى اتفاق نهائي وثابت مع واشنطن، وبالتالي الحفاظ عليه. وبينما تضع المنافسة مع إسرائيل وتركيا في الاعتبار، فإنها تريد في الوقت نفسه منع السعودية من تقديم الدعم لهؤلاء المنافسين.

“الأمر كله يتعلق بمأرب”

ركَّزت المحادثات السعودية الإيرانية حتى الآن على القضايا الأمنية الضيقة، وخاصة الحرب في اليمن – حيث تتعلق الأسئلة الأكثر إلحاحاً وإثارة للجدل بمحافظة مأرب الغنية بالنفط. (كما قال لنا أحد المسؤولين السعوديين، “الأمر كله يتعلق بمأرب”). تريد طهران من الرياض إنهاء حصارها الاقتصادي للمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، ووقف الضربات الجوية على مواقعهم، بما في ذلك محيط مأرب. ومن شأن مثل هذا الاتفاق أن يضمن انتصاراً للحوثيين في مأرب يسمح لطهران بإملاء التسوية النهائية في اليمن مع الاستمرار في تهديد السعودية بشن هجمات بالصواريخ وبطائرات من دون طيار.

من جانبها، تحاول السعودية كسب الوقت بينما تُعزز أنظمة دفاعها الجوي وتضغط من أجل وقف الهجمات التي تشنها الميليشيات من العراق بدعم من إيران (تمكنت ثلاثة منها مؤخراً من اصابة قصر ملكي في الرياض).

في نهاية المطاف، تريد إيران والسعودية أشياء مختلفة من المحادثات. تأمل طهران في أن يؤدي ذلك إلى تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية، بينما تريد الرياض معالجة مخاوفها الأمنية على وجه التحديد، وايجاد حلّ سريع في اليمن، ووضع حدّ للهجمات عبر الحدود. وبناء على ذلك، فإن المفاوضين السعوديين يتمسكون بالتطبيع حتى يحصلوا على تنازلات حقيقية، بينما يقاوم المفاوضون الإيرانيون الاتفاقات المحدودة بشأن العراق واليمن لأن مثل هذه الصفقات ستعالج المخاوف السعودية دون تغيير العلاقة بشكل عام .

وما يزيد من تعقيد هذه الديناميات حقيقة أنه على الرغم من أن إيران تعرف ما تريد، إلا أن المسؤولين السعوديين يعوقهم عدم اليقين حول توجه السياسة الأميركية – بشأن تفاصيل الصفقة الإيرانية (الاتفاق النووي)، ووجود القوات الأميركية في العراق، والسياسة الأميركية الأوسع نطاقاً في المنطقة. إن مثل هذا الغموض يقوّض حالة عدم الثقة وحالة عدم اليقين اللتين يحتاجهما المسؤولون السعوديون للانخراط في عقد صفقات جادة.

يخشى السعوديون أن لا يؤدي الاتفاق النووي فقط إلى تعزيز ثقة إيران بنفسها، وينهي عزلتها الدولية، ويسمح لاقتصادها وتجارتها الإقليمية بالتوسع

الضمانات الصحيحة

يمكن لواشنطن أن تساعد في تعزيز الثقة لدى السعوديين، وبالتالي تشجيعهم على إحراز تقدم حقيقي في المحادثات مع الإيرانيين، وذلك من خلال تزويد الرياض بضمانة واضحة بأنها (واشنطن) ستدافع عن المملكة عند أي هجوم إيراني محتمل قد تتعرض له.

يمكن للولايات المتحدة كذلك المساعدة من خلال التأكيد لإيران أنه على عكس الانسحاب الأميركي غير المشروط من أفغانستان، فإن تخفيض القوات في المنطقة سيعتمد على اتفاقية أمنية مُستدامة بين إيران وجيرانها العرب، وكذلك على إنهاء الهجمات على الأصول والأراضي السعودية.

وسيكون من المفيد أيضاً وجود التزام أميركي صريح بمحاولة منع سقوط مأرب في أيدي الحوثيين – وهي نتيجة لن تؤدي إلَّا إلى إطالة أمد الحرب في اليمن، وستدفع جميع الأطراف إلى التصعيد وبطرق خطيرة – وسيكون هناك المزيد من الضغط الدولي على إيران إذا تابع الحوثيون مسيرتهم في مأرب.

وفوق كل شيء، يمكن للولايات المتحدة أن تساعد من خلال إقناع كل من إيران والسعودية بأن أفضل ما يخدم مصالحهما الأمنية هو المحادثات الناجحة. يجب على كل جانب أن يرى التقدم على أنه أمر حاسم لما يريده قادته: ضمانات أمنية أميركية في حالة الرياض، وتواجد عسكري أميركي أقل في المنطقة في حالة طهران.

الهدفان لا يتعارضان: فالولايات المتحدة لديها وجود عسكري واسع النطاق في المنطقة من دون التزامات أمنية محدَّدة إزاء السعودية، وهو ترتيب اتضحت عيوبه بوضوح عندما هاجمت إيران منشآت النفط السعودية ولم يكن هناك أي ردّ أميركي.

بدلاً من ذلك، ينبغي على واشنطن أن تسعى لتقليص تواجدها العسكري، ولكن مع تقديم التزامات محدَّدة تجاه الأمن السعودي. ويمكن لمثل هذه الجهود أن تُحفز بالضبط أنواع الخطوات التي من شأنها، مع مرور الوقت، توليد الزخم وبناء الثقة وخلق حقائق جديدة على الأرض- ويمكن بدورها أن تكون “اللبنات” الأساسية لهيكل الأمن الإقليمي الذي يمكن أن ينجو من الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط”.

(*) الترجمة بتصرف نقلاً عن “فورين أفيرز

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "درون" لإستهداف السفارة الأميركية في عوكر.. بتوقيع "داعش"