“مرّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بمرحلة تفجُّر جديدة في نيسان/أبريل – أيار/مايو 2021 بحيث انتشر من القدس الشرقية إلى الضفة الغربية المحتلة والمناطق المختلطة في إسرائيل، وأيضاً إلى قطاع غزة، حيث اشتبكت إسرائيل وحماس للمرة الرابعة خلال أربعة عشر عاماً في حرب استمرت أحد عشر يوماً، أحدثت أضراراً بشرية ومادية كبيرة.
لماذا حدث ذلك؟
طمأن غياب عملية سلام ناجحة وتنامي فقدان الأمل بتسوية قابلة للتطبيق القادة الإسرائيليين إلى أنهم ضمنوا قبول الفلسطينيين بواقعهم الجائر، في حين شعر الفلسطينيون بأن ليس لديهم الكثير مما يخسروه في المواجهة المباشرة مع إسرائيل.
ما أهمية ذلك؟
لقد رسخ نطاق الاضطرابات، التي شارك فيها الفلسطينيون من سائر مناطق إسرائيل – فلسطين، وشراسة العنف، فكرة أن الوضع لم يعد مستداماً، لذا ينبغي اتباع مقاربة جديدة، لكن في هذه الأثناء، ثمة حاجة لخطوات فورية لوقف النزيف.
ما الذي ينبغي فعله؟
ينبغي على القوى العالمية المعنية السعي للتوصل إلى هدنة طويلة الأمد في قطاع غزة، ودعوة إسرائيل لوقف عمليات طرد فلسطينيي القدس الشرقية؛ وتشجيع احترام الترتيبات القائمة في الأماكن المقدسة في القدس؛ ودعم الفلسطينيين في تجديد قيادتهم السياسية – وكل ذلك جزء من فتح مسار نحو مقاربة لتسوية الصراع تقوم على الحقوق.
الملخص التنفيذي
بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالأثر الكامل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فإن الوضع لم يعد يحتمل، لكن الأمر كان بحاجة لاضطرابات كبرى في القدس، والضفة الغربية والمدن الإسرائيلية، وحرب أخرى في غزة، لترسيخ قناعة في أذهان الجميع بأن الوضع الراهن يتداعى. لم يعد من الممكن الأمل بأن المفاوضات ستفضي إلى السلام، ولا حتى بالنسبة للساخرين، وبأن محاولات إعادة تفعيل عملية السلام ستخفي واقع عدم نفع هذه العملية أساساً. لقد تخلت فعلياً سلسلة متعاقبة من الحكومات الإسرائيلية اليمينية عن المحادثات، في حين فقد كثير من الفلسطينيين إيمانهم بإمكانية حل الدولتين، المتلاشي. إن التقدم الحقيقي يتطلب نقلة منهجية في التعامل تعطي الصدارة للحاجة لاحترام حقوق الشعبين بالتساوي، لكن التغيير سيستغرق وقتاً. أما في الوقت الراهن، فثمة حاجة لاتخاذ خطوات لتخفيض درجة الحرارة وربما لاستكشاف مسارات جديدة نحو معالجة الصراع. وينبغي على الجهات الفاعلة الخارجية أن تتيح المجال لإجراء انتخابات ومصالحة فلسطينية، وفي الوقت نفسه الضغط للوصول إلى هدنة طويلة الأمد في غزة، وبالنسبة لإسرائيل أن توقف طرد الفلسطينيين في القدس الشرقية والعودة إلى الترتيبات التي كانت سائدة قبلاً في الحرم الشريف.
عبثية الحل العسكري
أحدث الاشتعال الأخير في الصراع تحولاً مهماً في الوضع الراهن. فقد كشف عن عبثية الحل العسكري وأكد على الضرورة المطلقة والملحة لوجود مقاربة سياسية. كما عرّى إفلاس عملية السلام كما كانت موجودة قبل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة ومحاولة إدارته فرض سلام أحادي تمليه إسرائيل على الفلسطينيين، وقوّض طمأنينة إسرائيل التي اعتقد العديد من قادتها بأنهم أخضعوا الفلسطينيين وأزالوهم كعقبة في وجه تطور وتوسع دولتهم. كما نزع قناع أسطورة التعايش السلمي بين العرب واليهود في إسرائيل، وعرّى الديناميكيات غير المتوازنة الكامنة تحته. وقد يكون الأمر الأكثر أهمية هو أنه أبرز فكرة أن الفلسطينيين رغم انقسامهم الجغرافي المفروض وتنوعهم الواضح، فإنهم يظلون شعباً واحداً يتطلع إلى الحصول على حقوقه الجماعية.
المواجهة الأخيرة التي تسببت بها سلسلة أحداث في القدس الشرقية، انتشرت إلى جميع المناطق في إسرائيل – فلسطين وأشعلت فتيل أكثر الأعمال القتالية حدّة واستدامة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة منذ عام 2014. بعد أحد عشر يوماً، وافق الطرفان على وقف لإطلاق النار وأعلنا الانتصار، قالت إسرائيل إن عمليتها “حارس الأسوار” كانت قد حققت أهدافها؛ فقد أضعفت القدرات الهجومية لخصومها بشكل كبير وأعادتهم إلى الصندوق الذي يُضرب به المثل. ونجت حماس من الهجوم، وأرعبت إسرائيل بهجماتها الصاروخية وادعت بأنها باتت تقود الحركة الوطنية الفلسطينية عبر جعل الحاجة إلى تغيير سلوك إسرائيل في القدس الشرقية مطلبها المحوري.
موقف فلسطيني موحد
أما الحقيقة فتكمن في مكان آخر. إذ حتى في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أعلن البعض انتصار حركة حماس مشيرين إلى نفس العوامل التي شكلت الأرضية لتبجح تلك الحركة بالانتصار، فقد فوجئت إسرائيل وكشفت نقاط ضعفها مع وجود النظام الدفاعي، “القبة الحديدية”، المضاد للصواريخ الذي عمل بنجاح لكنه لم يتمكن من منع جميع الصواريخ من الوصول إلى إسرائيل، إلا أن نصر حماس كان أجوفاً، ليس فقط بسبب استنزاف مواردها بل بسبب الخسائر البشرية والمادية التي أحدثتها الحرب على سكان غزة العاديين حيث كان قرارها إعلان الحرب إشكالياً داخل الحركة نفسها، حتى لو أن العديد من الفلسطينيين أثنوا عليها وحثوها على مواصلة القتال، وفي الوقت نفسه، فإن القيادة الفلسطينية القائمة تلقت ضربة خطيرة لمكانتها بين الفلسطينيين، حيث لم تتعدَ كونها متفرجاً خلال الصراع. كثيرون أيضاً اعتبروها مساهماً في الجهاز القمعي الإسرائيلي في الضفة الغربية. بالنسبة للفلسطينيين بشكل عام، فإن صوتهم الموحد، وإن لم يكن منظماً، ارتفع عالياً وواضحاً في سائر الأراضي الواقعة بين النهر والبحر، مؤكداً على المواضيع الرئيسية التاريخية المتمثلة في انتزاع الملكيات المادية والمعنوية والقمع، وعلى أن القدس جوهر القضية.
ما الذي يجب أن يحدث تالياً؟
لقد وفّر النظام الدفاعي الإسرائيلي، “القبة الحديدية”، بوليصة تأمين حققت لها ترف عدم إيجاد طريقة أفضل للتعامل مع حماس. وقد حاول القادة الإسرائيليون الاحتفاظ بقوة ردع غير مضمونة والاكتفاء بما يسمّونه “قص عشب المرج” كل بضع سنوات. إلا أن هذه المقاربة أدت ليس إلى احتواء حماس، بل إلى تحدٍ مهلك أكثر لم يعد يقتصر على حماس والتنظيمات المماثلة لها. إن حقيقة أن قوة عسكرية إقليمية كبرى وجدت صعوبة بتوفير دفاع وأمن أساسيين لمواطنيها يعود بشكل أساسي إلى إفلاس استراتيجية سياسية تنطوي على تفتيت الضفة الغربية، والإحاطة بالقدس الشرقية من الخارج وملئها بالمستوطنين اليهود من الداخل، ومحاربة حماس في قطاع غزة كل بضع سنوات عند الضرورة. البديل المتمثل في العودة إلى عملية السلام القديمة لم يعد موجوداً، وبالتأكيد ليس مع إسرائيل وقد تحوّل مركز ثقلها، حتى مع حكومة ما بعد بنيامين نتنياهو، نحو اليمين لدرجة أنها عطلت طريق مخرجها الدبلوماسي.
وفي حين أن المناسبة تتطلب تحولاً منهجياً، فإن الأولوية القصوى يجب أن تكون وقف النزيف. قد تكون الحرب في قطاع غزة انتهت، لكن كما تُبرز الاشتعالات القصيرة التي تلت، فإن وقف إطلاق النار يبقى هشاً، وفي أمكنة أخرى – في الضفة الغربية، والقدس الشرقية وداخل إسرائيل – تستمر الدولة بقمع الفلسطينيين.
حتى الآن لا يشير أي شيء قالته الحكومة الإسرائيلية الجديدة أو فعلته إلى أنه من المرجح أن تبتعد عن نهجها القديم، لكن بات لديها خيارات أضعف يمكن على الأقل أن تقلص من احتمالات حدوث اشتعال آخر لا يمكنها تحمل كلفته، بالنظر إلى أن المزيد من القتال سيعرّض ائتلافاً متصدعاً إلى مزيد من الضغوط. في قطاع غزة، ينبغي على إسرائيل تثبيت هدنة طويلة الأمد، ورفع الحصار مقابل وقف كلي لإطلاق الصواريخ من القطاع، وفي الحرم الشريف، ينبغي أن تعود إلى إطار العمل القائم المعروف بالوضع الراهن، والذي التزمت به منذ عام 1967 والذي حافظ على السلام هناك، ولو بدرجة متناقصة باستمرار مؤخراً. أما في القدس الشرقية، فينبغي على السلطات الإسرائيلية إلغاء الأوامر بطرد سكان الشيخ جراح الفلسطينيين والامتناع بشكل عام عن طرد الفلسطينيين من ذلك الجزء من المدينة، كما ينبغي على إسرائيل أن تعالج الانقسامات العميقة داخل مجتمعها التي تسبب بها التمييز المؤسساتي ضد المواطنين الفلسطينيين.
قيادة فلسطينية فعالة
بالنسبة للفلسطينيين، فإن الأحداث الأخيرة تظهر مدى حاجتهم إلى قيادة يمكنها التفاوض بفعالية وتنسيق الجهود نيابة عنهم. الانتخابات، التي ألغاها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في نيسان/أبريل – جزئياً بسبب القيود التي فرضتها إسرائيل على الاقتراع في القدس الشرقية – ينبغي أن تجري، رغم أن إدارتها قد لا تكون مثالية في ظل الظروف الراهنة. إن التجدد السياسي أمر حاسم، وقد أوضح الناس أنهم يريدون أن يقترعوا. وينبغي أن يكون الهدف الأوسع هو الحوار الداخلي والمصالحة السياسية والعودة إلى مؤسسات وطنية تمثيلية تتجسد في منظمة التحرير الفلسطينية وتوفير السلطة الفلسطينية لحوكمة خاضعة للمساءلة.
من غير المرجح لأي من هذه التدابير أن يحدث في غياب جهد دولي أكثر حزماً. فإضافة إلى الضغط من أجل التوصل إلى هدنة طويلة الأمد في قطاع غزة، والعودة إلى الوضع الراهن في الحرم الشريف ووقف أوامر الإخلاء في القدس الشرقية، يمكن للقوى الخارجية اتخاذ خطوات أخرى. إذ ينبغي أن تدعم إجراء انتخابات فلسطينية في ظل أكثر الظروف المتاحة حرية ونزاهة، بما في ذلك مشاركة فلسطينيي القدس الشرقية. كما ينبغي أن تراجع الشروط التي فرضتها الرباعية (الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي وروسيا) على حماس على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية – الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف والقبول بجميع الاتفاقات الإسرائيلية – الفلسطينية السابقة – بطريقة تسمح للحركة على الأقل بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية، على سبيل المثال بترشيح وزراء ليسوا أعضاء مباشرين في حركة حماس. قد لا يشعر السياسيون الغربيون بالرغبة بتغيير مسارهم الآن وقد أصبحت حماس أكثر قوة في أعقاب أزمة نيسان/أبريل – أيار/مايو. إلا أن السياسة الحالية غير حكيمة أصلاً وقد حققت هدفاً في مرماها منذ وقت طويل تمثَّل في تمكين حماس، وعرقلة المصالحة الفلسطينية وعملية التجديد السياسي التي يدّعي اللاعبون الدوليون أنهم يدعمونها.
مثالياً، يمكن للقوى الخارجية أن تمضي أبعد من ذلك أيضاً؛ إذ يمكنها أن تعترف بأن التجلي الراهن للصراع بات غير مستدام على نحو متزايد؛ وأن حرمان الشعب الفلسطيني من صوت وطني موحد عن طريق تقسيمه لن يؤدي لا إلى السلام ولا إلى الاستسلام؛ وأن لا اليهود ولا الفلسطينيين يتفردون في امتلاك حق تقرير المصير؛ وأن الطريق إلى الأمام ينبغي أن يستند إلى المبدأ الأساسي المتمثل في احترام القانون الدولي وحماية حقوق الناس في إسرائيل – فلسطين (خصوصاً أولئك الذين تحظى حقوقهم بأقل درجة من الاحترام، أي الفلسطينيين، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون كلاجئين خارج مناطقهم)، وبصرف النظر عن الشكل الذي يتخذه الحل السياسي. وينبغي أن تفعل المزيد لإخضاع الطرفين للمساءلة – حماس عن هجماتها التي لا تميز بين مدني وعسكري؛ وإسرائيل عن سياساتها في التمييز الممنهج، والتجريد من كل الممتلكات المادية والمعنوية والضم بحكم الأمر الواقع، والسلطة عن إجراءاتها القمعية التي تستهدف الأفراد والجماعات التي تنتقدها. ثمة حاجة ملحة لاتخاذ إجراءات مؤقتة، إلا أن الموجة الأخيرة من القتال تشكل دليلاً إضافياً على أن إعادة النظر في مجمل الصرح المسمى عملية السلام ضرورية وكان ينبغي إجراؤها منذ وقت طويل”.(المصدر: مجموعة الأزمات الدولية).