في أفغانستان، نشأت دول كالسامانيين والغزنويين وظهرت فيها أول المدارس في الاسلام ومنها انتشرت إلى بلدان أخرى. تأقلم شعبها مع معظم الحضارات عبر التاريخ، حتّى تلك التي جاءته غازية. وحدها الحضارة الغربية لم تجد لها مطرحاً هناك.
يجب ألا ننسى بَلْخ، وتاريخها المجيد في البوذية والاسلام وازدهار علم الطب فيها، كما التصوف وعلم الكلام، وأنّ البرامكة انطقلوا منها إلى بغداد ليؤسّسوا ركائز الدولة العباسيّة ويطلقوا عصر الترجمة. فيها وُلد الفيلسوف والطبيب والعالم أحمد بن سهل البلخي (ت. 934) صاحب كتاب “مصالح الأبدان والأنفس”، ومنها أيضاً جاء أهم رجال التصوف في أول بداياته: شقيق البخلي (ت. 810).
يجب ألا ننسى هرات وشهرتها في صناعة النحاس وتنميق الأواني المعدنية (أنظر صورة الدلو النحاسي أعلاه من صنع هرات سنة 1163 ومعروف الآن يإسم Bobrinsky Bucket وموجود في متحف الهرمتاج في سانت بيترسبورغ في روسيا).
في أفغانستان عاش الصوفي الشهير الملاّ عبد الرحمن جامي (ت. 1492) وكتب كثير من شعره، كديوانه في فلسفة التصوف “هفت اورنگ” (أي العروش السبعة، والتي ترمز إلى النجوم السبعة التي تؤلّف الجزء الأكثر لمعةً في برج الدب؛ أنظر الصورة أدناه).
يجب ألا ننسى أن أفغانستان كانت نقطة وصل في قلب آسيا. أنتجت الجغرافيا واقعاً استفاد منه أهلها وساعدهم في خلق مجتمع متحضر في وقته واقتصاد غني وقوي.
يجب ألا ننسى أن طريق الحرير (Silk Road) مرّت بها فعظمت عبرها التجارة. ازدهرت أفغانستان وازدهر جوارها معها.. ونتيجة صعوبة تضاريس وسط آسيا (تحديداً جبال البامير وهندو- كوش والهمالايا وثيان – شان)، كان هناك خيار شبه وحيد للعبور من الصين غرباً باتّجاه إيران والعراق وبعد ذلك بلاد الشام والبحر المتوسّط: الوديان والواحات التي تربط غرب الصين بشرق إيران عبر ما يعرف الآن بأفغانستان ودول أسيا الوسطى، والتي كانت تعرف قبل القرن الثامن عشر بخراسان. كذلك، العبور من وسط آسيا إلى جنوبها كان يحتّم المرور بأفغانستان. هذا العامل الجغرافي مكّن أفغانستان في الماضي من لعب دور في تاريخ القارة الآسيوية (وتاريخ العالم أيضاً). لكن منذ القرن التاسع عشر أصبح ذلك مستحيلاً، إذ أن صراع المصالح بين الدول العظمى – وتحديداً بريطانيا وروسيا – حوّل أفغانستان إلى دولة ليس فقط فاشلة بل ليس لها حق أن تُبنى على ركائز ثابتة ودائمة. أصبحت ديكتاتورية الجغرافيا لعنة على أفغانستان.
يجب ألا ننسى، استطراداً، أن هذا الموقع الجغرافي كان أيضاً في الماضي مصدر بلاء على أهل أفغانستان، حين تعرض هذا البلد للاجتياح على يد الإغريق، والساسانيين، والعرب، والسلاجقة، والمغول، الخ. لكن كل من اجتاح أفغانستان في الماضي البعيد أحبها واستوطنها؛ حتّى المغول الذين دمّروا بعض مدنها (كبلخ) عادوا ليبنوا تلك المدن عندما أدركوا أهمية أفغانستان (لعل أهم حقبة في تاريخ أفغانستان هي فترة حكم التيموريين).
يجب ألا ننسى اجتياح الإنكليز لأفغانستان في سنة 1838. وبدل التعلم من فشل تجربتهم، أعادوا الكرّة أكثر من مرّة وفشلوا (كان هدفهم وضع حد لتمدد الإمبراطورية الروسية والسيطرة على ثروات وسط آسيا). رفض الاستسلام للمشروع البريطاني كان جوابه جعل أفغانستان ساحة صراع مرير وقوده أهلها وآلاف من الجنود الذين رمتهم دولهم في آتون الموت في ربوعها. ثمّ جاء السوفيات في سنة 1979 وفشلوا أيضاً. ما لم يفعلوه هم أكمله الغرب عبر تحويل المجتمع الأفغاني إلى مجتمع حرب وموت.
يجب ألا ننسى أن قلة قليلة تتعلّم من التاريخ، وعندما زعمت الولايات المتحدة في سنة 2001 أنها عازمة على “محاربة الارهاب” (الذي بنته هي باستراتيجيتها وسلاحها وأموال الخليج العربي)، قامت باجتياح أفغانستان لتؤسس فيه ارهاباً من نوع آخر.
يجب ألا ننسى أن هذا الصراع الطاحن (الذي يجري أيضاً في أماكن أخرى من العالم مع تغيير طفيف في الأدوار والمواقع) هدفه تسخير البشريّة والطبيعة في خدمة حضارة معينة ممنوع أن تنوجد إلى جانبها أي حضارة أخرى. حاولت أميركا “بناء دولة في أفغانستان”، كما قال رئيسها الأسبق جورج بوش الإبن، لكن رئيسها الحالي جو بايدن، شطب تلك المهمة وحصرها بعدم جعل هذه الأرض منطلقاً لأي إستهداف للولايات المتحدة ومصالحها!
يجب ألا ننسى، استطراداً، أن هذا الموقع الجغرافي كان أيضاً في الماضي مصدر بلاء على أهل أفغانستان، حين تعرض هذا البلد للاجتياح على يد الإغريق، والساسانيين، والعرب، والسلاجقة، والمغول، الخ. لكن كل من اجتاح أفغانستان في الماضي البعيد أحبها واستوطنها؛ حتّى المغول الذين دمّروا بعض مدنها (كبلخ) عادوا ليبنوا تلك المدن عندما أدركوا أهمية أفغانستان
المؤسف أنه بعد عشرين عاماً رجع “الارهاب” و”فشل” الأميركيون كما كان نصيب من سبقهم. جلّ ما حقّقوه هو قتل المزيد من الأفغان الأبرياء وبناء طبقة سياسية فاسدة تحتمي بالاحتلال الاميركي لتمتص ما بقي من دم الشعب الأفغاني.
يجب ألا ننسى أن التدمير الممنهج لأفغانستان أصبح كاملاً وشاملاً.
يجب ألا ننسى أن من جاء تحت شعار تحرير المرأة الأفغانية واعطائها حريتها – وهذا من أعظم أنواع النفاق – حوّل الكثير من نساء أفغانستان إلى عاهرات لاشباع رغبات مئات الآلاف من جنوده وجنرالاته ودبلوماسييه ومخابراته وجحافل متعهدي خدماته.
يجب ألا ننسى أن زراعة المخدرات بأنواعها كافة وتجارتها وتهريبها إزدهرت كلها تحت أعين جنود ومخابرات الاحتلال الاميركي، وأن مردودها ذهب بمعظمه إلى حثالة من السياسيين الأفغان الذين احتموا بالاحتلال لجمع أكبر ثروة، ليعبروا من خلالها إلى عالم “الحرية والإنفتاح” الغربي، تاركين وراءهم مجتمعاً ممزّقاً وبلداً ينخر فيه العنف والادمان والفساد.
يجب ألا ننسى أن تاريخ أفغانستان يشير إلى أن أهلها قادرون أن يكونوا أصحاب حضارة، كغيرهم من البشر. وأنهم قادرون أن يكونوا غوغاء، كغيرهم من البشر. لكن طالما الشيء الوحيد المتوفر للأفغان هو السلاح ليقتلوا بعضهم البعض في صراعات هدفها تحويلهم إلى وقود لمصالح أكبر منهم، من المستحيل أن يتعايشوا مع بعضهم البعض، أو أن ينتجوا دولة تجمعهم بدل ان تقمعهم، ومن المستحيل أن يكون هناك منتصر طالما أنّه يُراد لهذا البلد أن يكون مركز صراعات بدل أن يكون ملتقى حضارات..
يجب ألا ننسى أنه عندما إحتلت أميركا هذا البلد قبل عقدين من الزمن، لم يكن أكثر من نصف الشعب الأفغاني قد وُلد بعد وأن بلداً أكثر من ثلثي شعبه تحت سن الـ 25 سنة، أي لم يعرف إلا تجربة الإحتلال.. ها هو يقع اليوم في أحضان طالبان.
يجب ألا ننسى أن الشعب الأمريكي مسكين. هزيمته في أفغانستان أليمة، لكنها أعادته إلى حماقات وجرائم ارتكبتها إداراته المتعاقبة في فيتنام وكوبا وأماكن كثيرة. لكن عنجهية من يصنع القرار في أميركا تجعله يؤمن أن الخطأ في السياسة لا يُصحّح، بل تعاد التجربة إلى ما لا نهاية حتّى يصبح الخطأ هو الصحّ أو يتناسى الناس أنّه خطأ ويعتادون عليه، أو تنتقل محاولة التجربة إلى مكان آخر!
يجب ألا ننسى أنه بعد أفغانستان، سيكون هناك بلدان أخرى سيُجرّب فيها ما جُرّب في أفغانستان وقبل أفغانستان. وليس مستبعداً أن يأتينا بعد حين من يريد تكرار التجربة في أفغانستان!
يجب ألا ننسى أن هناك حالة واحدة تجعل من الخطأ فضيلة: إذا استفدنا منه لفهم الأمور بشكل أفضل حتّى لا نعيد ارتكاب الخطأ ذاته.
يجب ألا ننسى أن هذا هو “الزمن الاميركي”.. وأن الامل في “الزمن الاميركي” مجرد وهم وسراب.