تأملات فى إنتفاضات وثورات يناير
People crowd the streets and rooftops of Egypt's capital to catch a glimpse of the visiting military leader, Anwar al-Sadat. (Photo by © Hulton-Deutsch Collection/CORBIS/Corbis via Getty Images)

كانت التظاهرات التى عمّت الجامعات المصرية في كانون الثاني/ يناير (١٩٧٢) بحجمها وأثرها إعلانا مدويا عن ميلاد جيل جديد.

ارتبطت لحظة الميلاد مع نداء استعادة الأراضى المحتلة بقوة السلاح ورفض المماطلة فى اتخاذ قرار الحرب.
كان الرئيس «أنور السادات» قد تعهد بأن يكون (١٩٧١) هو «عام الحسم»، لكنه تراجع وأطلق عليه «عام الضباب»، حيث الرؤية احتجبت خلف ضباب الحرب الهندية ــ الباكستانية.
بعد يومين من «خطاب الضباب» ــ (١٥) كانون الثاني/ يناير ــ تصاعدت الاحتجاجات والاعتصامات فى الجامعات المصرية وسرت روح عامة غاضبة.
بدت الانتفاضة قوية ومباغتة، كأن غضبا مكتوما قد انفجر.
ما كان ساكنا فى الحياة العامة أخذ يزمجر بالرفض لأية «حلول سلمية»، يؤجل باسمها قرار الحرب.
صدرت بيانات دعم وتأييد من النقابات المهنية الرئيسية «الصحفيين» و«المحامين» و«المعلمين» ثم «المهندسين»، ونقابات أخرى تتابعت دعوتها لـ«حرب تحرير شاملة».
وصف «السادات» محركى الانتفاضة الطلابية بـ«القلة المندسة»، التى تضلل «القاعدة السليمة»، وهو تعبير شاع على نطاق واسع فى الخطاب الرسمى، واعتمد لسنوات طويلة عند أية أحداث مماثلة حتى استهلك تماما.
برغم الرقابة على الصحف، إلا أن رياح الغضب وسعت مساحات التضامن مع الحركة الشابة بما يمكن نشره.
تحوّلت جامعة القاهرة، فى ذلك الوقت، إلى مزار لكل من يبحث عن أمل فى المستقبل، أو يريد أن يطل عليه بنفسه.
ولم يكن اقتحام قوات الأمن المركزى للقاعة الرئيسية فى جامعة القاهرة لفض الاعتصام بالقوة، والقبض على أعداد كبيرة من القيادات الطلابية كلمة النهاية فى انتفاضة (١٩٧٢).
فى كانون الثاني/ يناير من العام التالى (١٩٧٣) تحركت فى جامعة القاهرة انتفاضة طلابية جديدة، كما لو أنها استئناف لانتفاضة (١٩٧٢).
انتقلت الانتفاضة الجديدة بأجوائها إلى الجامعات المصرية الأخرى تحت نفس المطالب: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة فى صنع القرار ورفض أى مشروعات تسوية سياسية.
جرت تظاهرات واعتصامات وتكرر سيناريو اقتحام قاعة الاحتفالات الكبرى بقوة الأمن المركزى واعتقال أعداد كبيرة من القيادات الطلابية، سرعان ما كان يجرى الإفراج عنهم ــ كما جرت العادة فى تلك الأيام.

كان النشر بالخارج رسالة سلبية لمستوى حرية التعبير، الذى ضاق عن نشر بيان وقّعت عليه نخبتها الثقافية ــ كما استخلص الدكتور «غالى شكرى» فى كتابه «الثورة المضادة فى مصر»

فى أجواء انتفاضة (١٩٧٣) حدث تطور دراماتيكى هز أركان الحكم واستدعى تساؤلات جوهرية حول المعركة والمشاركة السياسية وحرية الفكر والنقاش العام.
بصورة لا تناسب شخصيته الحذرة كتب «توفيق الحكيم» متأثرا بحركة الشبان بيانا تمت صياغته على عجل، كأنه سحب ورقة من على مكتبه وضع عليها ما يفكر فيه.
«…. لما كان الشباب هو الجزء الحساس فى الأمة، وهو الذى يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يرى أمامه إلا الغد الكئيب، فهو يجتهد فى دراسته ليحصل على شهاداته النهائية فإذا هى شهادة القذف به فى رمال الجبهة لينسى ما تعلمه ولا يجد عدوا يقاتله، وهذا أيضا هو الضياع».
«وهذا يقتضى النظر فى تغيير بعض الإجراءات التى تسير عليها الدولة اليوم، ومنها حرية الرأى والفكر وحرية المناقشة والعرض لإلقاء الضوء على كل شىء حتى تتضح الرؤية».
«إن فى ذلك مصلحتها، وصيانة لها أمام التاريخ».
بحجم ثقله وتأثيره وقّع معه على هذا البيان كُتابٌ ومثقفون كبار من بينهم «نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» والدكتور «لويس عوض».
وجد بيان كبار المثقفين طريقه إلى النشر فى صحيفة «الأنوار» اللبنانية.
كان النشر بالخارج رسالة سلبية لمستوى حرية التعبير، الذى ضاق عن نشر بيان وقّعت عليه نخبتها الثقافية ــ كما استخلص الدكتور «غالى شكرى» فى كتابه «الثورة المضادة فى مصر».
جاءت ردة الفعل عنيفة تأنيبا وترهيبا لبعض الكُتاب ونقلا تعسفيا لـ(٦٤) صحفيا إلى مؤسسات عامة لا علاقة لها بالصحافة من قريب أو بعيد ــ كأنه نفى إجبارى.
ولد جيل السبعينيات وسط تساؤلات المستقبل ــ خياراته ومعاركه.
تصدر معركة، لكنه لم يخضها وحده.
كانت الوطنية المصرية الجريحة حجر الأساس فى بناء وعيه ووجدانه.
تعددت المدارس الفكرية التى انتسب إليها، لكن جمعت بينها قاعدة واحدة: طلب تحرير سيناء المحتلة والاستعداد لخوض حرب محتمة.
فى عنفوان التمرد والثورة تبلورت عند جيل السبعينيات ضرورات بناء نظام ديمقراطى يتسع للتنوع السياسى.
لأول مرة منذ خمسينيات القرن الماضى طرحت على المجال العام قضية التنظيم الحزبى المستقل.
فى أول كانون الثاني/ يناير (١٩٧٥) جرت إضرابات عمالية فى مجمع الحديد والصلب انتقلت إلى ميدان التحرير، وارتفع معدل الاحتجاج الاجتماعى على الإجراءات الاقتصادية المتبعة التى تعرف باسم «الانفتاح الاقتصادى».
كان ذلك تمهيدا لما جرى بعد عامين فى (18) و(19) كانون الثاني/ يناير (1977) فيما عرفت بـ«انتفاضة الخبز».
بأحجام من شاركوا فيها واتساع أحداثها فإنها تكاد تضاهى ثورة «يناير» (2011)، غير أن مطالبها تحددت فى إلغاء قرارات رفع أسعار السلع الرئيسية.
عندما ألغيت القرارات توقف الحدث كله، لكن آثاره تحكمت فيما بعده.

بحكم السن فإن (٦٠٪) من المصريين تحت الخامسة والثلاثين. هذا يستدعى الحوار لا الصدام، التفهم لا التعالى

كان «السادات» هو «الرئيس الأوحد فى العالم الذى وصف شعبه بالحرامية».. و«معارضيه بالحقد».
وهو الذى قال: «من لم يغتنى فى عهدى لن يغتنى أبدا»، كأنه يؤسس للنهب العام كما توصل عدد كبير من المفكرين والشخصيات العامة فى ذلك الوقت.
بعد شهور قليلة أقدم «السادات» على زيارة الكنيست الإسرائيلى.
لم يكن التوقيت مصادفة بقدر ما كان هروبا للأمام.
عندما نزل الجيش لضبط الشوارع إثر انتفاضة الخبز كانت هذه المرة الثانية التى يضطر فيها للعب هذا الدور بعد حريق القاهرة يوم (٢٦) كانون الثاني/ يناير (١٩٥٢).
حسب شهادة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» قرر «السادات» أن يهرب تاركا وراءه أوراقا رسمية بدون توقيع، وكانت المفاجأة الحسنة بالنسبة له أن وزير دفاعه المشير «عبدالغنى الجمسى»، وهو ضابط محترف ومنضبط، أعاد السلطة إليه.
لم تكن اتفاقيتا «كامب ديفيد»، ولا نوع الصلح الذى جرى، منعزلا عن الأوضاع الداخلية الجديدة فى مصر وسياسة الانفتاح الاقتصادى، التى وصفها الكاتب «احمد بهاء الدين» بـ«السداح مداح».
تجرع جيل السبعينيات الهزيمة فى تطلعاته ورهاناته، غير أنه لم ينكسر ولا رفع الرايات البيضاء.
عارض «السادات» فى خياراته الرئيسية من الإدارة السياسية لحرب أكتوبر إلى الانفتاح الاقتصادى، وتفكيك القطاع العام، حتى «كامب ديفيد» والصلح المنفرد مع إسرائيل.
خسر الرجل الذى تحمل مسئولية قرار الحرب شعبيته وكاد أن يطيحه شعبه بعد أكثر قليلا من ثلاث سنوات من نصر أكتوبر، لولا إلغاء قرارات رفع أسعار الخبز وبعض السلع الأساسية الأخرى التى أفضت إلى الغضب.
الشعبية رصيد يؤخذ منه ويضاف إليه.
عندما داست السياسات الاقتصادية على الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا لصالح «القطط السمان»، حدث ما حدث.
لكل جيل قضية تلهم مخيلته، رغم أى إحباطات.
الحرية قضية جيل يناير (2011).
كانت مشكلة الجيل الجديد أن الثورة التى تصدر مشاهدها المهيبة سبقت تجربته، وشعاراتها غلبت مبادئها.
على عكس جيلى الأربعينيات والسبعينيات افتقد إلى أى بنية فكرية تحدد ما يقصده من حرية وعدل اجتماعى، فأصبح ممكنا لكل من يطلب خطف الثورة أن يفعلها بسهولة كاملة.
كأى جيل آخر فهو يحتاج إلى وقت تنضج فيها الأفكار، وخبرة تساعده على تجنب المطبات.
قصة الجيل الجديد بالكاد بدأت.
بحكم السن فإن (٦٠٪) من المصريين تحت الخامسة والثلاثين.
هذا يستدعى الحوار لا الصدام، التفهم لا التعالى.
برغم انكسار ثورة «يناير» فإن ما خلفته تحت الجلد السياسى يستحيل تجاوزه.
بالتعريف: «يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة فى الفضاء بلا أرض تقف عليها.
وبالأثر: فإنها ــ كأى ثورة أخرى فى التاريخ ــ ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل.
وبالتراكم: فإنها تنتسب إلى إرث طويل من الثورات والانتقاضات، التى عملت على نقل البلد كله إلى مستقبل يستحقه شعبه.

إقرأ على موقع 180  معنى أن تعبر في زمن عبدالناصر

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  هل تنجح مطرقة LAGEVRIO في ضرب كورونا؟