تحت عنوان “وعندها أتت الشرارة”، يقول رونين بيرغمان ان ياسر عرفات و”أبو جهاد” كانا قد قررا، (غداة خروجهما من بيروت ثم مدينة طرابلس اللبنانية في مطلع الثمانينيات الماضية) استئناف “الاعمال المعادية لإسرائيل” في أوروبا، بعد توقف دام منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي. لكن بيرغمان عجز ان ذكر عملية واحدة لاي فصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ضد أي هدف عسكري او أمنى او دبلوماسي “إسرائيلي” في أوروبا، بينما يقول الضابط الفلسطيني يوسف الشرقاوي وكان من المقربين جدا من “ابو جهاد” إن قرار تصفية خليل الوزير جاء بعد تمكن مجموعة فدائية من “فتح” في العام 1988 من خطف حافلة تقل عاملين في معمل ديمونا “الإسرائيلي” وتوجهها إلى المعمل نفسه، وهي العملية التي أحبطها الجيش “الإسرائيلي” لكنها أدت إلى مقتل عشرات “الإسرائيليين” وأبطال العملية الثلاثة.
يروي رونين بيرغمان أنه في مقر قيادة “أبو جهاد” في منطقة شاطئ الحمامات التونسية، بدأ 28 مقاتلاً من قوات النخبة تدريباً متواصلاً على هجوم نوعي ينطلق بموجبه المتدربون من على متن باخرة من احد الشواطئ الجزائرية باتجاه تل ابيب وعندما تصل الباخرة الى منطقة قريبة من المياه الإقليمية يتوزع المهاجمون على زوارق سريعة لينطلقوا بها باتجاه شاطئ “بات يام”، وهي ضاحية في جنوب تل ابيب حيث يصلونها مع اول بزوغ ضوء النهار ويخطفون حافلة او اثنتين ويجبرون السائقين على أخذهم الى مقر قيادة أركان “جيش الدفاع الإسرائيلي” في مجمع “كيريا” في تل ابيب، وعندما يصلون الى هناك يقتلون الحراس ويقتحمون المجمع مندفعين الى مكاتب رئيس الأركان ووزير الدفاع وفي الطريق الى هذه المكاتب يقتلون ما امكن قتله من جنود، وبعدها يتحصنون في مبنى او يقفلون المدخل والمخرج الى احد الشوارع المؤدية الى المجمع ويأخذون ما امكن من رهائن ويهددون بقتلهم ان لم تطلق “إسرائيل” سراح عدد من رفاقهم الاسرى في سجونها.
ويضيف بيرغمان ان موعد تنفيذ هذا الهجوم كان يفترض ان يكون في 20 ابريل/نيسان 1985 بعد يومين من احياء “ذكرى الهولوكوست” وقبل أربعة أيام من احياء “يوم الذكرى”، وقد أراد “أبو جهاد” ان يقدم لـ”إسرائيل” شيئاً جديداً للحزن عليه” فقال للمقاتلين الذين سينفذون العملية قبل آخر لقاء معهم “نريد ان نحول ضوء النهار في تل ابيب الى عتمة ليل، وبعون الله فان يوم السبت هذا سيكون يوماً اسود في تاريخ تل ابيب وكذلك سيكون يوم الاحد، ففي هذا اليوم ستغلق كل تل ابيب التي ستشهد انهاراً من الدماء والخراب والدمار”. ونشر “أبو جهاد” خريطة على الطاولة تظهر شواطئ تل ابيب وقد رسم عليها ثلاثة اسهم تشير الى أماكن رسو الزوارق السريعة التي ستقل المقاتلين، وقال لهم “بعون الله سنهاجم مقر قيادتهم وسنغلق الشوارع، وفي احد الشوارع على سبيل المثال سنحتجز 500 شخص، نعم 500 شخص في الوقت نفسه وسيكون بإمكاننا ان نستخدم هؤلاء ورقة للتفاوض، وأريد ان اخبركم ان القيادة العسكرية العليا للشعب الفلسطيني حددت هدفاً واضحاً لمقاتليها بعون الله. الله سيرسل لنا شارون أيضاً وطبعاً نحن نعرف كيف يبدو شارون”، فأجابه احد المقاتلين “يملك كرشاً متدلياً امامه”، فرد “أبو جهاد” “صحيح كرشه متدلٍ امامه، فأي شخص يجيد التصويب يستطيع اصابته او فلتسقط قنبلة على رأسه بعون الله فان الله يمكنه ان يفعلها يا شباب فهو على كل شيء قدير”.
يقول بيرغمان ان “أبو جهاد” اكثر شخصية فلسطينية نفذت هجمات ضد الإسرائيليين وانه كان يرغب ان يظهر لتل أبيب ان منظمة التحرير وان كانت قد انكسرت في غزو لبنان (1982)، لكنها لم تنتهِ ولا يزال باستطاعتها شن هجمات
يضيف بيرغمان ان “أبو جهاد” بالتأكيد كان يعلم ان رغبته في قتل شارون هي رغبة عقيمة لأنه بالتأكيد يعلم ان شارون كان قد اخرج من وزارة الدفاع قبل عامين (إثر صدور تقرير لجنة التحقيق (كاهانا) في مجازر صبرا وشاتيلا)، وبالتالي كانت فرص وجوده في مقر قيادة الأركان في ذلك الوقت معدومة، ولكن لان شارون كان يجسد الشر المطلق في عيون الفلسطينيين، قرر “أبو جهاد” استخدام هذا الإسم لتشجيع مقاتليه!
كان “أبو جهاد” قد انتقل مع كل قيادات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982 إثر الغزو “الإسرائيلي” للبنان، واستقر في العاصمة التونسية حيث كان يعيش في فيلا بحرية مستأجرة على بعد حوالي 40 كيلومترا من المواقع الاثرية لمدينة قرطاج التاريخية، وكانت الاستخبارات “الإسرائيلية” تبقي عينها مفتوحة عليه وتتبعه عندما كان يسافر الى كل من سوريا والأردن ودول أخرى في الشرق الأوسط لإعطاء الأوامر والتنظيم ولتشجيع مقاتليه وللتخطيط لهجمات ضد “إسرائيل”.
يقول بيرغمان ان “أبو جهاد” اكثر شخصية فلسطينية نفذت هجمات ضد الإسرائيليين وانه كان يرغب ان يظهر لتل أبيب ان منظمة التحرير وان كانت قد انكسرت في غزو لبنان (1982)، لكنها لم تنتهِ ولا يزال باستطاعتها شن هجمات. لذلك، قرر إعادة التخطيط لهجمات في الدول الغربية وبالتحديد في أوروبا بعدما كان هو وعرفات جمدا العمليات هناك منذ النصف الأول من السبعينيات. ركز “أبو جهاد” جهوده اما على العمليات البحرية واما على السفن او التي تنفذ بالسفن او على مقربة من الشواطئ، ولتحقيق ذلك، نشر “القوة 17” (وحدة النخبة من المقاتلين المرافقين لعرفات) الى جانب وحدة العمليات الخاصة لديه المسماة “القطاع الغربي” و”القوة البحرية” في فتح.
عند هذه النقطة، يبدأ بيرغمان في سرد تفاصيل سلسلة من عمليات الاغتيال لقادة ونشطاء فلسطينيين في أوروبا تحت ذريعة انهم من مساعدي “أبو جهاد” ولكن في كل سرده لم يذكر بيرغمان اي عملية نفذها هؤلاء او غيرهم من الفلسطينيين ضد اهداف إسرائيلية في أوروبا وبالتالي فان كل عمليات الاغتيال التي نفذها “الموساد” كانت عبارة عن “محاسبة على النوايا”، وهنا يذكر بيرغمان ان أولى الأوامر في “الموساد” لقتل “أبو جهاد” صدرت قبل عشرين عاماً من ذلك التاريخ، وانه منذ ذلك الحين وحتى العام 1983 كانت خطط قتله تتقدم وتتراجع لأسباب ميدانية لكن “الموساد” خطّط ونفذ عدداً من عمليات الاغتيال لمساعدي “أبو جهاد” بعد رصد عودة النشاطات العملياتية لفتح في أوروبا (من دون ذكر أي من هذه العمليات المزعومة)، كما استأنف “الموساد” عملياته ضد منظمة التحرير في القارة الأوروبية. اذ أنه بعد كارثة عملية ليلهامر (قتل مواطن مغربي في أحد المنتجعات ظناً انه القائد الفلسطيني أبو حسن سلامة في مدينة ليلهامر النروجية)، انكبت وحدة “قيساريا” في “الموساد” الى إعادة بناء وحدة القتلة المحترفين لديها المسماة “الحربة”، وقد أطلق رئيس “قيساريا” مايك هراري قبل تقاعده عام 1980 وصف “سن السيف” على إعادة البناء هذه. وقد غاب عن قيادة “وحدة الحربة” الجديدة كل أولئك الذين كانوا من الناجين من الهولوكوست وكل الذين شاركوا في العمل السري ضد الإنكليز ليحل محلهم خريجو “جيش الدفاع الإسرائيلي” الذين كانوا يتمتعون بخبرة قتالية عالية يضاف اليها كم كبير من الشجاعة والاستعداد ان لم نقل الشغف بالضغط على الزناد. وأصبح المدعو “كارلوس” هو قائد هذه الوحدة، بعدما وصل الى وحدة “قيساريا” في “الموساد” قادماً من العمليات القتالية التي خاضها الى جانب شارون في اللواء المجوقل، وينقل عنه زملاؤه انه كان يقتل بمنهجية وبدم بارد من دون يرف له جفن.
ويتابع بيرغمان، أنه في شهر أغسطس/اب عام 1983 ارسل “أبو جهاد” نائب قائد الوحدة البحرية لديه مأمون مرعش الى اليونان لشراء باخرة واسلحة لاستخدامها في هجوم على مدينة حيفا وما ان توصل مرعش للحصول على صفقة لهذا الموضوع وفيما كانت سيارته تقف عند الشارة الضوئية لاحد شوارع مدينة اثينا، توقفت قربه دراجة نارية واخرج الراكب الجالس خلف السائق، (“كارلوس” شخصيا)، مسدساً مزوداً بكاتم للصوت وامطر جسد مرعش برصاصاته حتى تأكد من مقتله امام اطفاله الثلاثة الذين كانوا معه في السيارة وكانت أعمارهم 4 و9 و13 عاماً.
بعد أربعة أيام اعترف الاسرى بتفاصيل خطة “أبو جهاد” الهادفة لاحتلال مقر قيادة الأركان واخذ وزير الدفاع ورئيس الأركان كرهائن. ويستنتج بيرغمان انه لولا الاستخبارات الدقيقة لجهاز “امان” لكانت حصلت كارثة على مستوى واسع
ينتقل بيرغمان الى عملية اغتيال أخرى في مدينة مدريد الاسبانية، فيقول انه في 16 أغسطس/اب عام 1984 وصل زكي الحلو، عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان يقودها جورج حبش الى مدريد قادماً بالجو من بيروت، وكان “الموساد” يعتقد انه في اسبانيا بهدف تنفيذ مهمة ما بأمر من “أبو جهاد” الذي كان قد أدرجه في إطار خططه في أوروبا وبعد يوم واحد من وصوله وفيما كان يسير في شارع وسط مدريد مرت قربه دراجة نارية فأطلق الراكب الجالس خلف السائق عدة طلقات عليه من مسدسه، نجا الحلو من الموت لكنه فقد القدرة على السير. (ملاحظة من المترجم: الحلو عضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهذا يعني انه لا يمكن أن ييتلقى أوامر “أبو جهاد” القائد في حركة فتح وبالتالي فان اغتياله كان لمجرد كونه عضواً في الجبهة الشعبية وليس لاي سبب اخر).
ويروي بيرغمان عملية اغتيال أخرى ضد الفلسطينيين بنفس الذرائع السابقة وهي الزعم بانهم ينوون تنفيذ هجمات ضد “الإسرائيليين” فيقول ان منذر أبو غزالة، قائد الذراع البحرية لحركة فتح، كان هدفاً لعدة محاولات اغتيال نفذها القتلة المحترفون في وحدة “الحربة” ولكن في 21 أكتوبر/تشرين الأول عام 1986 كان أبو غزالة قد ركن سيارته في احدى ضواحي العاصمة اليونانية أثينا تاركاً وقتاً كافياً للقاتل المحترف “ايلي” للقيام بعمله، فقد انزلق الأخير تحت السيارة والصق بأسفلها عبوة ناسفة كان قد اعدها بنفسه، وما ان عاد أبو غزالة وركب السيارة حتى قام ايلي ومن مسافة آمنة بالضغط على زر في آلة صغيرة لديه ففجّر السيارة ومن كان فيها.
حسب رونين بيرغمان، “إفشال عمليات فدائية ضد الإسرائيليين في أوروبا، قبل حصولها، عبر رشوة رجال شرطة محلية (أوروبيين)، جعل “أبو جهاد” يستنتج ان “الإسرائيليين” تمكنوا من خرق شبكته الأوروبية، لذلك قرر العمل على عملية فدائية بحرية تدار بالكامل من داخل مقر قيادته في تونس وباستخدام قاعدة تدريب سرية جداً في الجزائر، والهدف احتلال مقر قيادة “الجيش الإسرائيلي” واخذ ما امكن من رهائن”.
ويتابع بيرغمان، أنه في ربيع العام 1985 ركب مقاتلو “أبو جهاد” باخرة نقل مستأجرة ترفع العمل “البانامي” وتحمل اسم “اتافيروس”، وقد خطط “أبو جهاد” لرحلة طويلة لهذه الباخرة اذ تنطلق من منطقة “اوران” الجزائرية غرباً نحو المحيط الأطلسي لتتجه جنوباً وتلتف حول رأس الرجاء الصالح وتتجه الى الساحل الشرقي لافريقيا لتمر في مضيق باب المندب عند البحر الأحمر ومن هناك كان يأمل ان تتمكن الباخرة من التسلل بين قوافل السفن التجارية في عبورها قناة السويس ومنها الى المياه الإقليمية “الإسرائيلية”، ولكن ما لم يعرفه “أبو جهاد” ان “الوحدة 504” التابعة لجهاز “امان” كان لديها عملاء داخل “وحدة العمليات الخاصة” لديه التي تحمل اسم “القطاع الغربي”. وكان لدى “إسرائيل” معلومات منذ ما يقارب العام ان “أبو جهاد” يخطّط لعمل ما سيتم تنفيذه في “يوم الذكرى”، أي في 24 ابريل/نيسان. لذلك أبحرت وحدة مهمات خاصة مؤلفة من أربعة زوارق سريعة على متنها 13 من رجال الكوماندوس من وحدة “فلوتيلا” لمسافة 1800 ميل وفجرت باخرة تم استئجارها لتنفيذ عملية “أبو جهاد” (المزعومة) وكانت تدعى “موون لايت” (ضوء القمر) عندما كانت فارغة ومتوقفة عند احد الشواطئ الجزائرية، وعندما وصلت الباخرة “اتافيروس” الى شواطئ البحر الأبيض المتوسط كان بانتظارها على بعد ثلاثين ميلاً من ميناء بورسعيد المصري زورقان سريعان و13 رجلاً من رجال كوماندوس بحري من وحدة “فلوتيلا”. رفض المقاتلون الذين كانوا على متن السفينة دعوات “الإسرائيليين” للاستسلام وقرروا فتح نيران رشاشاتهم على الزوارق “الإسرائيلية”، فردت القوة “الإسرائيلية” على النار بالنار واغرقت السفينة بعد قتل عشرين من ركابها واسر ثمانية تم إقتيادهم الى معسكر تحقيق تابع لوحدة “فلوتيلا” يعرف باسم “مخيم 1391” شمال تل ابيب.
يقول بيرغمان انه في معسكر التحقيق هذا جرت تعرية المعتقلين الثمانية من ملابسهم وتمت تغطية رؤوسهم بالأكياس وربطوا الى الحائط مع موسيقى صاخبة تلعب طوال الليل في زنزاناتهم ما يجعل من المستحيل عليهم النوم كما كان هؤلاء الاسرى يتعرضون بين الفينة والفينة للضرب. بعد أربعة أيام اعترف الاسرى بتفاصيل خطة “أبو جهاد” الهادفة لاحتلال مقر قيادة الأركان واخذ وزير الدفاع ورئيس الأركان كرهائن. ويستنتج بيرغمان انه لولا الاستخبارات الدقيقة لجهاز “امان” لكانت حصلت كارثة على مستوى واسع.