لِفتا جارة القدس.. سجل شعب

لم تحظَ قرية فلسطينية عانت إرهاب الإحتلال الإسرائيلي الإحلالي/ الاستيطاني، بكتابات وحملات لحماية ما تبقى من هويتها، كما حظيت قرية لفتا الفلسطينية، والسبب "أنها لا تشبه غيرها من القرى الفلسطينية المدمرة والمهجرة. فشكلها البديع على طريق القدس – يافا يستفز كل المارة".

لماذا لِفتا؟ وكيف تمكن أبناؤها (من خلال هيئة حماية الموروث الثقافي لبلدة لفتا – القدس) بعنادهم ومثابرتهم وإصرارهم من منع جرافات الاحتلال الإسرائيلي من إلتهام الباقي من بيوتها الفريدة بطرازها المعماري، وكيف استطاعوا، برغم الاحتلال، إنجاز خطوات مهمة – حتى الآن – ومنها: إلغاء بيع أراضي القرية، تعطيل مخطط تهويدها، الاعتراف بالتراث الفلسطيني، إنجاز عملية المسح والرفع الهندسيين لـ 74 مبنىً تقع في جذر القرية، توثيق التاريخ الشفوي للحياة في لفتا الخ.. ولكن، لم تنته معركة لفتا بعد، وهناك مجال واسع لكسبها، ولكن شرط أن يكون أهلها عصب هذه التحركات، ومن خلفهم أهل القدس..

لماذا لفتا أيضاً؟ ولماذا القدس؟

جغرافياً، تقع لفتا إلى الشمال الغربي من مدينة القدس القديمة، فوق هضبة مرتفعة نسبياً، وقد أحاطها الإسرائيلي بسلسلة من الطرق السريعة والمستوطنات، وكانت شهدت مع مرور الوقت، نشوء مجموعة من الأحياء العربية والمستعمرات الصهيونية المبكرة على أراضيها، بسبب اتساع هذه الأراضي والتصاقها بالقدس.. ويمكن القول إن أحياء القدس الجديدة (خارج الأسوار) بدأت تقترب بالتدريج من لفتا.. ومن هذه الأحياء: حي وادي الجوز، حي الشيخ جراح (على بُعد مائتي متر من باب العمود، وفيه شُيدت مبانٍ حكومية وقنصليات أجنبية ومؤسسات رسمية إسرائيلية، والهستدروت، والمنظمة الصهيونية “غوش إيمونيم” التي أنشئت بعد احتلال العام 1967 لمنع عودة الأراضي إلى الفلسطينيين، وشكلت الدافع الأساس إلى استعمار الضفة الغربية الخ)، وأيضاً حي الشيخ بدر إلى الجهة الغربية من القدس (في هذا الحي أقام الإسرائيليون مباني الكنيست، ووزارتي المالية والخارجية، والمحكمة العليا، ومتحف إسرائيل، والجامعة العبرية الجديدة)، إلى أحياء باب العمود، وباب الساهرة والمصرارة الخ..

لقد حظيت لفتا بقسط وافر من الكتابات (تقاربها جارتها قرية دير ياسين والمجزرة التي حلّت بها)، واهتمام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، و”صُوّرَت في بيوتها مجموعة من الأغاني الوطنية”. هنا، يمكننا أن  نتوقف ـ إلى جانب الكتاب الذي بين أيدينا ـ عند كتاب الباحثة الفلسطينية الدكتورة عايدة النجار وعنوانه “لفتا يا أصيلة: خريفية قرية”، الصادر عام 2015 بالحجم الكبير (415 صفحة)، وتطرق إلى كل شيء في لفتا، من التاريخ الشفوي، إلى المزج بين المعلومات والتوصيف ليشكل مادة دراسية أنثروبولوجية. وقد سبق لكاتبة هذا المقال أن تناولت كتاب عايدة النجار في مقالة منشورة في “ملحق فلسطين” (عدد شباط/فبراير 2016) الذي كان يصدر عن صحيفة “السفير” اللبنانية وتوقف عن الصدور، كما الصحيفة، في نهاية العام نفسه.

في هذا السياق، صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، إصدار جديد بعنوان “لفتا: سجلّ شعب – التاريخ والتراث الثقافي والنضال” لأستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت الباحث نظمي الجعبة، بمساهمة من المهندس المعماري خلدون بشارة، الأستاذ المساعد في دائرة التاريخ في جامعة بير زيت رنا بركات، إبن لفتا الناشط في حركة القوميين العرب والأسير بمؤبدات ثم تحرير العام 1985 في صفقة التبادل، والمتخصص بقضايا حقوق الانسان المناضل يعقوب عودة.

ويتميز الكتاب الجدي بأناقته، طباعة وحجما وتنسيق مواد وغزارة مصادر ومراجع عربية وأجنبية وعبرية وصورا ملونة تروي أدق تفاصيل القرية، وتاريخها وتراثها، وموقعها الاستراتيجي (360 صفحة بما فيها قائمة اللوحات والمخططات والخرائط والجداول ومخططات المباني من إعداد رواق – مركز المعمار الشعبي، رام الله)، فضلاً عن تمايز الإهداء/ الوعد “إلى كل المهجرين والمقتلعين من بيوتهم.. سيأتي اليوم”.

لعل في النتاج الأدبي الفلسطيني ما يوثّق الوجع اللصيق للوجه المدمّى بجروح النكبة، والمجازر، والحق بالعودة، والتطلع إلى الشمس إلى حين شروقها وغروبها ما بين بحر ونهر.. ولعل، هذا ما نجده في الكتاب بين أيدينا، حيث تتساقط الحروف على كل حبة تراب من قرية صغيرة شاء موقعها كبوابة للقدس أن تحمل تاريخ فلسطين الممتد من جذور أربعة آلاف عام

يذكر نظمي الجعبة أن جزءاً مهماً من قرية لفتا نجا من المصير الذي واجهته أكثر من 450 قرية وبلدة فلسطينية بعد نكبة العام 1948، وأن هذه المساهمة هدفها توثيق المكان الذي عاش فيه الفلسطيني قبل اقتلاعه، ووضع لفتا في إطار نظري ضمن علاقة الإنسان بوطنه، وأهمية توثيقها كجزء من النكبة وتطور علاقة اللاجئ الفلسطيني بوطنه المسلوب.

ويأتي عرض نظمي الجعبة لتاريخ لفتا الحضري، بدءاً بالعصر البرونزي، مع شواهد من العصور البيزنطية، الرومانية، الأموية، المملوكية، الأيوبية والعثمانية، ثم يعرض نتائج الأبحاث والحفريات الأثرية، ويناقش الروايات التوراتية المتعددة التي تربط لفتا بها، ويتتبّع المعلومات المتوفرة في المصادر والمراجع منذ الفترة الرومانية حتى سنة 1948 حين نُكِبت القرية. واعتمد الجعبة أيضاً على الوثائق العثمانية، وخصوصاً المتعلقة بالأوقاف الإسلامية.. وصولاً إلى المخططات الإسرائيلية والتي لا تختلف عن كل المخطط الصهيوني بتهويد الأرض واستمرار طرد السكان الفلسطينيين، الأمر الذي يحصره الجعبة هنا بما يخطط لقرية لفتا فيشير إلى أن “هناك هجمة ضد لفتا تحاول من خلالها مختلف أذرع السلطات الإسرائيلية وخصوصاً البلدية وسلطة أراضي إسرائيل ومؤسسات صهيونية أخرى، محو ذاكرة الحجارة الباقية في القرية، وتغريب ما تبقى منها سواء بالهدم أو بالتهميش، أو بأساليب أخرى لن تبقي على لفتا الشاهدة، وستحول بعضها إلى متحف طبيعي وتاريخي تقوم من خلاله باستخدامها شاهدة على الرواية التوراتية، وعلى حياة اليهود في “فترة الهيكل الأول” و”فترة الهيكل الثاني”، وهو أمر ورد  في أبحاث إسرائيلية أثرية ومعمارية مقارنة بـ”فترة التوراة ولفتا”.

إقرأ على موقع 180  غزة تُطلق شرارة حرب الجامعات.. والقيم

كما لا يمكن إغفال البعد الاقتصادي للمافيا المالية الإسرائيلية، ومحاولة اقتناصها الفرص الاستثمارية ضمن مشروع بوابة القدس الغربية، وهذه المافيا مؤلفة من مجموعة من شركات البناء في إسرائيل وأصبح لها ثقل وازن في صنع القرار السياسي الإسرائيلي، وكذلك لدور بلدية القدس في تكليفها مكتبين هندسيين مشهورين في إسرائيل تحضير مخطط لمنطقة لفتا عُرف بالرقم 6036 واشتمل على اقتراح إنشاء حي تجاري وسكني فاخر جداً مخصص لليهود فقط، مع هدم مباني القرية، مع ما يحمل ذلك من طمس للذاكرة الفلسطينية، وإبراز التراث التوراتي.

إذاً، هي “معركة بين الحروب”. معركة مع احتلال ونكبة واستيطان ومعركة مع محاولات شطب ذاكرة بطمس كل شواهدها. في المقابل، ثمة إصرار ودأب وتضحيات وشعب بقدرات معنوية ولحم حي ونبض حر.. ولعل في النتاج الأدبي الفلسطيني ما يوثّق الوجع اللصيق للوجه المدمّى بجروح النكبة، والمجازر، والحق بالعودة، والتطلع إلى الشمس إلى حين شروقها وغروبها ما بين بحر ونهر.. ولعل، هذا ما نجده في الكتاب بين أيدينا، حيث تتساقط الحروف على كل حبة تراب من قرية صغيرة شاء موقعها كبوابة للقدس أن تحمل تاريخ فلسطين الممتد من جذور أربعة آلاف عام..

في هذا الكتاب الجميل، ثمة حفر بإزميل الكلمة؛ إثبات بالحق؛ طرْق بالتثبيت بكل ما للمعنى الدال على الحجر والبشر والشجر والحضر في تطوره المتعاقب على أزمان مرت، ثم اصطدمت باحتلال/إحلالي/ لا يفتأ يتمادى في إرهابه، وما سعيه لطرد سكان حي الشيخ جراح مراراً، وآخرها في تموز/يوليو الفائت إلا جزءاً من هذه المحاولات، فكان ما كان مما يذكره ونذكره من معركة “سيف القدس”.. والصمود الأسطوري لشعب فلسطين.

قد لا تفي هذه الأسطر بالجهد العلمي والعملي لما يتضمنه هذا المؤلف، المميز بمنهجية إعداده، وتباين أقسامه، وتفاصيل التفاصيل الواردة بين طياته.. وكلها لخدمة قرية لفتا جارة القدس.. خدمة لقضية فلسطين.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  غزة تُطلق شرارة حرب الجامعات.. والقيم