النفط الأميركي… ما وراء “السقوط الحر”

انتهى التداول في بورصة "نايمكس" الأميركية بانخفاض هائل في أسعار النفط. للمرة الأولى في التاريخ أصبح السعر سالباً، وبلغت قيمة العقد لتوريد نفط خام غرب تكساس 40.32 (-) دولاراً للبرميل، في ما يعدّ الحد الأدنى التاريخي المطلق، بعدما فاضت مخازن التخزين، ليضطر معها البائعون إلى دفع مبالغ للمشترين!

 

الانهيار التاريخي في أسعار الخام الأميركي لم يطل سوى عقود شهر أيار/مايو، أي تلك التي تنتهي في 21 نيسان/أبريل، في حين بقيت أسعار عقود شهر حزيران/يونيو قريبة من مستوى 21 دولاراً للبرميل.

مع ذلك، فإنّ ما حدث بالأمس كان كارثة لقطاع النفط الأميركي بكل المقاييس. يكفي رصد ردود الأفعال على انخفاض “بسيط” حدث في بداية “الاثنين الأسود”، حين هوت الأسعار من 18 إلى 10 دولارات للبرميل الواحد، قبل أن تتخذ مساراً انحدارياً حاداً اقترب بداية من الصفر، بواقع 10 سنتات للبرميل، قبل أن يتهاوى دونه إلى 40.32 (-) دولاراً للبرميل.

يعني ذلك، بكل بساطة، أن البائع يدفع الآن مقابل كل برميل، في ظاهرة لم يسبق أن سجل تاريخ النفط في العالم مثيلاً لها، حتى في أسوأ أزماته.

السقوط الكبير لم يقتصر على الخام الأميركي. بحسب وكالة “رويترز” أسعار النفط في السوق الفورية الأوروبية أصبحت سلبية أيضاً، ولو بمستوى أقل، حيث  انخفض خام الأورال الروسي في العقود الآنية إلى ناقص 3 دولارات للبرميل، وخام برنت بحر الشمال إلى ناقص 3.5 دولارات للبرميل.

يعزى انخفاض أسعار النفط إلى انخفاض الطلب على المواد الخام بسبب إجراءات الحجر الصحي المتخذة في جميع أنحاء العالم لوقف انتشار فيروس “كورونا”.

ووفقاً لتوقعات وكالة الطاقة الدولية، سيبلغ المعروض النفطي الفائض في نيسان/أبريل نحو 29 مليون برميل يومياً، وفي المتوسط بنحو 9.3 مليون برميل يومياً خلال العام 2020، وهي تقريباً الكمية ذاتها التي اتفقت دول “أوبك +” على سحبها من السوق في الاتفاق الأخير الذي تم التوصل إليه للجم التراجع القياسي في الأسعار العالمية.

كان واضحاً منذ الدقائق الأولى التي تلت التوافق بين مكوّنات “أوبك +”، أن السوق النفطية ظلت حذرة، لا سيما في ظل مخاوف متزايدة من أن الركود في الاقتصاد الأميركي قد يكون أقوى من المتوقع، ما يعني أن انخفاض الطلب على النفط قد يكون أكبر بكثير مما هو متوقع.

على وجه الخصوص، تم نشر بيانات الأسبوع الماضي عن الإنتاج الصناعي الأميركي، الذي انخفض في آذار/مارس بنسبة 5.4 في المئة، متجاوزاً التوقعات السابقة التي تحدثت عن انخفاض بنسبة 4 في  المئة، وهو ما انسحب على مبيعات التجزئة التي انخفضت بنسبة 8.7 في المئة، أي أكثر بـ0.7 في المئة مما كان متوقعاً.

سبب آخر أدى إلى تفاقم الوضع، وهو أن مخازن النفط امتلأت بسرعة كبيرة، فبحسب معطيات وزارة الطاقة الأميركية، نما احتياطي النفط في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي بواقع 19.25 مليون برميل، متجاوزا توقعات المحللين بمرة ونصف، فيما انخفض الحجم اليومي لتكرير النفط في المصافي للأسبوع الثاني على التوالي بنسبة 7.1 في المئة ليصل حجمه إلى 970 ألف برميل يومياً.

ووفقاً لما نقلت صحيفة “كومرسانت” الروسية عن الخبير في شركة “ألفا كابتيال” ارتيم كوبيلوف فإنّ الصدمة في الأسواق كان سببها أيضاً البيانات الخاصة بحجم النفط في الناقلات العائمة، والتي وصلت إلى 160 مليون برميل.

ما سبق جعل أسواق النفط تتعرض لضغوط كبيرة من حيث الطلب والعرض في آن واحد، وهو أمر نادر الحدوث، ما يعني أن أسعار النفط ستبقى تحت رحمة التراجع الكبير للطلب، خاصة من الصين أكبر مستهلك للخام في العالم بسبب تداعيات فيروس كورونا على النشاط الاقتصادي العالمي من جهة، ومن وجود مخزون كبير سواء في البر أو الناقلات التي تطفو فوق البحار، بالإضافة إلى انعدام الطلب من قبل مصافي التكرير.

أسواق النفط تتعرض لضغوط كبيرة من حيث الطلب والعرض في آن واحد، وهو أمر نادر الحدوث

لكن السؤال: هل يكفي ذلك لدفع أسعار النفط الأميركي إلى “السقوط الحر” إلى ما دون الصفر؟

أخذاً في الحسبان التوقيت الدقيق للانهيار، وحقيقة أن انخفاض عقود النفط الآجلة لشهر أيار/مايو هوت إلى 40 دولاراً تحت الصفر، في مقابل استقرار عقود شهر حزيران/يونيو عند مستوى 20 دولاراً للبرميل، فإنّ ما حدث بالأمس هو مسألة تقنية بحتة، يُصطلح  على تسميتها بـ”البراميل الورقية”.

لتبسيط الفكرة، فإنّ انخفاض اسعار النفط بسبب “كورونا” و”حرب الأسعار” بين روسيا والسعودية أغرت المضاربين على تكثيف الشراء لعقود أيار/مايو، التي تنتهي في 21 نيسان/ابريل (اليوم)، ولكنهم لم يجدوا مشترين لها، فباتوا مضطرين إلى أخذ النفط وتخزينه، في حين أن أماكن التخزين تفيض، والمصافى ممتلئة بالكامل، بسبب انخفاض الطلب، وهو ما دفعهم إلى البيع بأرخص سعر عشية انتهاء العقد، حتى وصلت بهم الحال إلى دفع مبالغ للمشترين من أجل البيع.

بعبارات أخرى، فإنّ سعر السلعة لا قيمة له بشكل فعال إن لم يوجد مكان لوضعها، وهو ما يدفع المشترين إلى التخلص منها، ما جعل المضاربين يحاولون الخروج من عقد أيار/مايو بأقل الخسائر في الوقت المتبقي، ويعني ذلك، لمزيد من التبسيط، أن انهيار الأمس طال عقود النفط وليس اسعاره.

إقرأ على موقع 180  قليل من الكحول في سياسة بايدن تجاه أوروبا والعالم

ووفقا لرئيس قسم خبراء سوق الأوراق المالية في شركة “بي سي أس” فاسيلي كاربونين، لو كانت أماكن للتخزين متوافرة لما حدث هذا الانخفاض في العقود القريبة. ويوضح لـ “كومرسانت” الروسية أنه في الظروف العادية يتم شراء النفط في أقرب العقود الآجلة، ثم تخزينه، ثم بيعه بثمن أعلى في غضون بضعة أشهر. ولكن الآن لا توجد خزائن مجانية، وديناميات السوق فريدة من نوعها، ومن أهم عناصرها أن العقود الآجلة للنفط أخذت في الحسبان صفقة “أوبك +” والانتعاش المتحمل في الطلب في حال جرى تخفيف إجراءات الاغلاق بسبب فيروس كورونا، وباتت بالتالي أسعارها أعلى بكثير من العقود الآنية.

المؤشرات السلبية للنفط الأميركي قد تدفع الشركات المنتجة إلى تخفيض انتاجها تلقائياً، على نحو قد يقود إلى إعادة التوازن في الأسعار

هذا ما يدفع بالمراقبين إلى القول إنّ الوضع مؤقت، خصوصاً أن عقود شهر حزيران/يونيو ما زالت فوق العشرين دولاراً، وبأن لا تأثير محتملاً على الأسعار المستقبلية، متوقعين بأن يعود الوضع إلى طبيعته اليوم، لا بل أن البعض يرى في ما جرى بالأمس تحركاً مقصوداً لدفع الأسعار صعوداً، وهو ما  يفسر كيف أن العقود الآجلة للنفط تستمر في تحدي الجاذبية وتغازل الآن المنطقة اللحظية السلبية.

تكمن المعادلة هنا في أن المؤشرات السلبية للنفط الأميركي قد تدفع الشركات المنتجة إلى تخفيض انتاجها تلقائياً، على نحو قد يقود إلى إعادة التوازن في الأسعار في موازاة الخطوة الأخيرة التي اتخذتها مجموعة “أوبك+” القادرة على تحديد سقف الانتاج بقرارات سيادية، بخلاف ما هي الحال في الولايات المتحدة حيث لا يمكن بموجب القانون الفدرالي تقييد نشاط الشركات النفطية ما جعلها تواصل ضح النفط في اتجاه معاكس لانخفاض الطلب وامتلاء الخزانات.

ضمن هذا السياق، يمكن توقع أن الشركات الصخرية الأميركية هي الوحيدة التي ستشعر بالألم الحقيقي، بالرغم من الدعم الذي حظيت به من الرئيس دونالد ترامب، التي توسط قبل أيام للتوصل إلى اتفاق “أوبك +” وتعهد يوم أمس بدراسة امكانية إضافة 75 مليون برميل من النفط إلى الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي، رغم أن خطوة كهذه ما زالت تواجه بمعارضة شرسة في الكونغرس.

ولعلّ ما حدث يجعل منتجي النفط الصخري الأميركيين الذين كانوا حتى يوم أمس “متعجرفين بما فيه الكفاية”، بحسب توصيف مجلة “ايكونوميست”، لرفض خفض الانتاج، مضطرين للقبول بهذا الخيار الوحيد المتبقي أمامهم.

وبالرغم من دول “اوبك” تلقفت بهدوء، وربما بسعادة الأنباء الواردة من “نايمكس”، إلا أن “الاثنين الأسود” يبقى مؤشراً إلى أن أسواق النفط قد تكون مقبلة على مزيد من المفاجآت خلال الفترة المقبلة، في حال استمرت حالة الاستنفار الصحية حول العالم، والتوقعات القاتمة حول مستقبل الاقتصاد العالمي، والتي لخصتها كريستالينا جورجيفا مديرة صندوق النقد الدولي يوم أمس بالقول إن الأزمة التي أوقد شرارتها انتشار فيروس كورونا المستجد هي الأسوأ منذ الكساد العظيم، وإن تداعيات الفيروس ستفضي إلى انكماش اقتصادات 170 دولة في أنحاء العالم هذا العام.

هذا ما يعبر عنه، على سبيل المثال، مايكل لينش، رئيس شركة “ستراتيجيك إنرجي”، الذي قال لصحيفة “لوس انجلس تايمز” الأميركية إنه بسبب الهبوط الكبير هناك حالة من القلق مع مخزون كبير، ولن يكون هناك حل على المدى القريب، وستبرز حالة من الركود حيث يحاول المنتجون التخلص من النفط، ولكن لا يوجد مشترين.

في هذا السياق، يقول مايكل تران، المدير الإداري في مؤسسة “كابيتال ماركتس” لصحيفة “لوس أنجلس تايمز” إنه لا توجد إجراءات يمكن القيام بها لمنع السوق من الهبوط على المدى القريب، وذلك لأن المصافي ترفض تكرير المزيد من براميل النفط، موضحا أن ارتفاع مستويات التخزين الأميركية سيستمر الهبوط حتى يبلغ منتهاه أو ينتهي وباء كورونا.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بعد بوتين.. ثلاثة مرشحين