يقول رونين بيرغمان إن وزير الدفاع حينها اسحق رابين اقرّ في اجتماع الحكومة الإئتلافية المصغرة برئاسة شيمون بيريز إطلاق عملية “الساق الخشبية” لإغتيال الرجل الثاني في حركة فتح خليل الوزير (أبو جهاد) وقائد “القوة 17” في فتح أبو الطيب من خلال تنفيذ غارات جوية على مقرات “وحدة القطاع الغربي” في حركة فتح ومقر قيادة “القوة 17” في تونس. فقط عازرا وايزمان الوزير بلا حقيبة (اصبح لاحقا رئيسا للدولة العبرية) في الحكومة والذي كان سابقا قائدا لسلاح الجو رفض هذا القرار، وقد كان وايزمان حينها يجري محادثات سرية غير مرخص بها مع منظمة التحرير، وخلال هذا الاجتماع كان العاهل الأردني حسين بن عبدالله والرئيس المصري حسني مبارك في الولايات المتحدة الامريكية، فقال وايزمان في الاجتماع “هناك جهود تبذل حاليا لتقدم عملية السلام لذلك اعتقد ان توقيت هذه الغارة خطأ”، فرد عليه شيمون بيريز ساخراً “يعني بعد أسبوع او أسبوعين سيكون التوقيت صحيحاً”؟
وهكذا بدأت التحضيرات لشن الغارات فور الانتهاء من اجتماع الحكومة المصغرة. وبالفعل، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1985، حلقت عشر طائرات من طراز اف 15 في الجو متوجهة الى تونس وهي تحمل قنابل موجهة عن بعد من طراز GBU 15 كما كان حلقت في الجو الى جانبها طائرتان من نوع بوينغ 707 لتزويد الطائرات المقاتلة بالوقود مرتين خلال رحلتي الذهاب الى تونس والعودة الى تل ابيب، كما كانت طائرة أخرى من طراز بوينغ تحلق في الجو وهي عبارة عن غرفة عمليات ميدانية تتضمن أجهزة سيطرة واتصالات. كما كانت هناك طائرتا تجسس من طراز هوكي وظيفتهما تعطيل أجهزة الرادار الجوي في كل من تونس والجزائر وليبيا.
قبل عودتها إلى تل أبيب، القت المقاتلات الحربية حمولتها من القنابل على الأهداف المحددة لها ومن ضمنها مكاتب “وحدة القطاع الغربي” التابعة لخليل الوزير (ابو جهاد) ومقر قيادة “القوة 17″، ما أدى الى مقتل حوالي 60 شخصا بينهم عناصر في منظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن عمال تونسيين كما جرح في الغارة سبعون شخصا. وينقل بيرغمان عن أحد الطيارين قوله: “عندما استدرنا لكي نعود ادراجنا، كنا نشعر بكثير من الراحة وقد أطلقت صرخة عالية في كابينة الطيار لأخرج كل ما في داخلي من ضغط نفسي وعندما رأيت الشواطئ “الإسرائيلية” شعرت وكأنها مختلفة عما كانت عليه دائماً. لقد شعرت بفرح لم اشعر به سابقا”. وينقل الكاتب عن بيريز قوله في احدى المدارس الثانوية التي كان يزورها بعد تلقيه التقارير الأولية عن الغارة “لا حصانة لمقر قيادة الإرهابيين، لدينا الحق ان نهاجمهم ولا يمكن ان نسمح للذين يقتلون بدم بارد ان ينجوا بفعلتهم لان كل عمل يقوم به هؤلاء وراءه ايادٍ تقود وتنظم”.
بقيت خطط اغتيال أبو جهاد عالقة عند سؤال هل يجب ان يكون للجيش “الإسرائيلي” دور فيها ام لا، وهذا ما خلق حالة من التوتر الشديد بين الجيش و”الموساد”، ولكن القرار النهائي كان للسياسيين
وينقل الكاتب من الجانب الاخر قول الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بعد تفقده حطام الأبنية الذي خلفته الغارة “لقد نجوت مجدداً بأعجوبة من موت محتم، لقد كنت في طريقي الى المقر في حمامات الشط الذي يبعد مسافة ربع ساعة.. فقلت للسائق ان يستدير ويغير الطريق للذهاب الى مقر قيادي اخر، وعندما وصلنا الى المقر الآخر سمعت بخبر الغارة، فأجريت على الفور اتصالات هاتفية مع كل من عمان والقاهرة وابلغتهم أننى لم أصب واني سأواصل النضال”. لكن المعلومات التي كانت متوفرة لـ”الإسرائيليين” تفيد ان عرفات لم يكن يفترض ان يكون في المقر الذي تم تدميره. وينقل الكاتب عن المسؤول في جهاز “امان” يوني كورين قوله “كنا نعرف اين هو مقر عرفات وكان قرارنا انه لن يكون هو الهدف في هذه العملية كما لم نقترح للحكومة قصف مقره”.
ومع ذلك، يضيف الكاتب، ان الشعور بالبهجة في إسرائيل كان مشوبا بالمرارة، اذ لم يكن أحد من قادة منظمة التحرير الفلسطينية في المقر الذي تم قصفه، وحتى أبو اياد الذي كان قائد “منظمة أيلول الأسود” منفذة عملية الألعاب الأولمبية في ميونيخ والذي كان اسمه في اعلى لائحة المطلوبين للقتل عند “الإسرائيليين” قام بمرافقة عرفات خلال تفقده الموقع وكأنه يريد ان يزيد من غيظ “الإسرائيليين”. وكان المسؤول الرفيع الوحيد الذي قتل هو نور علي الذي كان يعتبر متوسط المستوى في المسؤولية، وفي الحقيقة، كان نور علي على تواصل سري مع “الإسرائيليين” بشأن عملية تبادل أسرى وسبق له ان أجرى محادثات سرية مع وزير الدفاع عازرا وايزمان، اما أبو جهاد فقد كان خلال الغارة يعقد اجتماعا في منزله الذي يقع على مسافة بعيدة جدا ولكنه سمع صوت الانفجارات.
يتابع بيرغمان ان فشل عملية تصفية قادة منظمة التحرير الفلسطينية قاد “الموساد” الى اطلاق عملية خاصة لتحديد مواقع هؤلاء القادة وهي نوع من العمليات التي اصطلح العاملون في “الموساد” على تسميتها “المعاملة السلبية”، وهي بتعبير آخر عملية القتل المتعمد وكان الهدف تطبيق هذه العملية على أبو جهاد في تونس، وامضت وحدة “قيساريا” للاغتيال اكثر من عام كامل تبحث عن خطط وأفكار لقتل خليل الوزير، ومن ضمن هذه الأفكار إطلاق صاروخ موجه عن بعد او ارسال سيارة مفخخة له عبر عميل مزدوج، او ارسال قناص الى وسط تونس لاصطياده فيما هو على الطريق الى عمله، ولكن تم استبعاد كل هذه الأفكار إما بسبب المخاطر التي قد تهدد حياة العديد من المدنيين او بسبب المخاطر التي قد تهدد العملاء الذين سينفذونها.
وفي ذلك الحين، يضيف بيرغمان، كانت تونس تعتبر “بلدا هدفا”، مما يتطلب اتخاذ اقصى تدابير الأمان والحذر لعملاء وحدة “قيساريا” العاملين على الأرض، وذلك يعني انه بعد تنفيذ عملية قتل متعمد لن يكون من السهل اخراج المنفذين من هناك. لذلك، قرر قائد الوحدة انه سيكون بحاجة الى القوة النارية للجيش “الإسرائيلي” بالإضافة الى قدرات النقل المتوفرة لدى الجيش، فطلب جهاز “الموساد” المساعدة من وحدة “سريات ميتكال” ومن الكوماندوس البحري، وكما حصل في عملية “ربيع الشباب” (عملية قتل القادة الفلسطينيين كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في شارع فردان في بيروت) عام 1973، توجه “الموساد” الى رئيس جهاز “امان” اللواء امنون ليبكين شاحاك الذي كان مسؤولا عن وحدة “سريات ميتكال”، وكان هو شخصيا قد شارك بصفته قائد مجموعة في عملية “ربيع الشباب”، ليصبح بعدها ضابطا رفيعا معروفا بصبره وحذره، فرفض بشدة اشراك “سريات ميتكال” في العملية هذه، اذ كان يعتقد ان “الموساد” يستطيع ويجب ان ينفذ المهمة بنفسه وبالتالي “لا ضرورة لتعريض حياة العديد من الجنود للخطر”.
وفي مقابلة له قبل أشهر قليلة من وفاته في العام 2013، قال أمنون ليبكين شاحاك “كان من الواضح لدي اننا نستطيع تنفيذ العملية ولكنني كنت اعتقد ان مجموعة صغيرة من الموساد سوف تترك اثاراً من النوع الذي نتركه عادة في غارات الكوماندوس لنجعل من الواضح ان إسرائيل هي من فعل ذلك”.
وهكذا بقيت خطط اغتيال أبو جهاد عالقة عند سؤال هل يجب ان يكون للجيش “الإسرائيلي” دور فيها ام لا، وهذا ما خلق حالة من التوتر الشديد بين الجيش و”الموساد”، ولكن القرار النهائي كان للسياسيين، وحتى ذلك الوقت احجم كل من رئيس الوزراء حينها اسحق شامير ووزير دفاعه اسحق رابين عن اتخاذ القرار فجرى وضع كل الخطط على الرف!