تسيطر أساطيل طائرات إيرباص إيه 380 التابعة لشركة طيران الإمارات وطائرات بوينغ 777 التابعة للخطوط الجوية القطرية على مفترق الطرق الجوية التي تربط آسيا وإفريقيا وأوروبا. أما على الأرض، فيتباهى مطار دبي الدولي للعام السابع على التوالي بكونه المطار المحور الأكثر استعمالا من قبل الركاب الدوليين.
وغداة جائحة كوفيد-19 التي ركّعت قطاعًا معروفًا بهوامش ربحية منخفضة على ركبتيه، يمكن لشركات الطيران الخليجية الاعتماد على العائلات الحاكمة الطموحة التي تعتبر كل طائرة ترفع العلم الإماراتي أو القطري مصدر فخر وقوة ناعمة. يقول أليكس ماتشيراس، محلل الطيران: “لقد وضعت شركات طيران ناجحة هذه الدول على الخريطة، وجعلت منها أسماء معروفة”.
يبدو أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ـ الذي يستعجل تسجيل اسمه في التاريخ العربي الحديث وتحويل السعودية عن صورتها كمملكة شديدة المحافظة وحامية الحرمين وموردا للطاقة الكربونية الرخيصة – يراهن على منافسة مباشرة مع المركز التجاري دبي، والتي يحسدها جيرانها على هالتها العالمية.
فقد أعلن ولي العهد السعودي تخصيص 550 مليار ريال (143 مليار دولار) لقطاعي النقل واللوجستيات، فضلا عن إنشاء شركة طيران سعودية ثانية. يتمثل هدفه الأول في اكتساح قطاع العبور، وهو مجال السوق الذي يشكل أساس سيطرة الإمارات العربية المتحدة وقطر على طيران الخليج. ويتعلق الأمر بشبكة تعدّ 250 وجهة يفترض أن تدفع بالناقل السعودي إلى الصفوف الأمامية، كحامل لراية المملكة العربية السعودية المتحمسة لتأكيد مكانتها كأكبر اقتصاد في العالم العربي. ولكن سرعان ما أثارت هذه الجرأة رد فعل غاضب من قِبَل منافسة منهمكة في حماية حصصها في السوق، في مواجهة سقوط حاد في الطلب على السفر الدولي، بلغ نسبة ناقص 81% بين مايو/أيار 2019 وأيار/مايو 2021 بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط.
تحلم أبو ظبي بأن تكون واحدة من أرخص وأكبر منتجي الهيدروجين الأزرق في العالم، وأن تجعل من شركتها “مصدر” لتطوير الطاقة المتجددة رائدا عالميا
“المطارات المحورية مثل دبي جائعة، وهي بحاجة إلى غذاء”، هذا ما يقوله روبرت كوكونيس، رئيس شركة الاستشارات الكندية الدولية للطيران “آر تراف”. ويضيف أليكس ماتشيراس: “بكل بساطة، لقد فات الأوان، وفوتوا الفرصة […]. ليست هناك حاجة لأن تكرّر شركة طيران أخرى ما سبق وحققته الخطوط الجوية القطرية وطيران الإمارات”.
وتوجّه اليوم اقتصادات الخليج – المبنية أساسا على ريع صادرات النفط الخام والغاز الطبيعي إلى الدول الغربية وآسيا الناشئة – أنظارها نحو التنويع القطاعي. تَشابه هذه الاستراتيجيات يكرّس روحا من التنافس الاقتصادي الشرس في المنطقة، يتعارض مع ما هو منصوص عليه في ميثاق مجلس التعاون الخليجي. ولا يقتصر هذا التنافس الاقتصادي الشديد على القطاعات التي يُنظر إليها على أنها مرموقة مثل النقل الجوي، بل يتعدى إلى جميع مجالات الاقتصاد.
يثير أفق معدل نمو بثلاثة أرقام خلال العقود القادمة في أسواق الهيدروجين والطاقة المتجددة شهية الوزنين الثقيلين في الاقتصاد الخليجي. فقد أعلنت السعودية، التي تهدف إلى جعل شركة أعمال المياه والطاقة الدولية (ACWA Power) رائدا وطنيا في سوق الطاقة المنخفضة الكربون، عن إقامة أكبر منشأة للهيدروجين الأخضر في العالم في مدينة “نيوم” المستقبلية. ومن الجانب الآخر من الحدود، تحلم أبو ظبي بأن تكون واحدة من أرخص وأكبر منتجي الهيدروجين الأزرق في العالم، وأن تجعل من شركتها “مصدر” لتطوير الطاقة المتجددة رائدا عالميا.
“كل دولار يمكننا سرقته من جيراننا هو دولار آخر لنا”. هذا هو الموقف الذي يبدو سائدا في الخليج العربي، وفق فريديريك شنايدر، الاقتصادي والباحث المشارك في جامعة كامبريدج بإنكلترا. ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة ليست جديدة، فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استولت دبي ومركزها المالي الدولي على منطقة الخليج العربي، على حساب الجار البحريني، الذي تراجع إلى المرتبة الثانية.
أعلنت الرياض في فبراير/شباط 2021 بأن كل شركة أجنبية ترفض توطين مقرها الاجتماعي الإقليمي في السعودية بعد عام 2023 ستُمنع من الوصول إلى العقود الممنوحة منذ فترة طويلة للشركات المتعددة الجنسيات، التي تدير محافظ أنشطتها الخليجية انطلاقا من دبي. ويضيف فريديريك شنايدر بأن “فكرة فرض الهيمنة الاقتصادية هذه هي بكل بساطة ضارة للغاية”.
كما جدّ حدث صاخب آخر في يوليو/تموز 2021. فبينما كان يجري خلاف حول حصص إنتاج الذهب الأسود داخل منظمة أوبك+ بين الإمارات العربية المتحدة والسعودية، أعلنت الأخيرة عن انتهاء العمل بالرسوم الجمركية التفضيلية الممنوحة للشركات الموجودة في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي. ويتعلق الأمر بالمنتجات المصنعة في المناطق الحرة أو التي تحتوي على مكونات آتية من إسرائيل، وهي حركة تستهدف، وفقًا للمحللين، دولة الإمارات، حيث يعدّ وجود المناطق الحرة محركًا للاقتصاد، والتي يفتح لها تطبيعها لعلاقات كانت موجودة مسبقا مع إسرائيل الأبواب أمام التجارة الثنائية، والتي قُدّرت بـ 712 مليون دولار بين أوائل 2020 ومنتصف 2021.
تقول نجاح العتيبي، وهي محللة سياسية سعودية مقيمة في لندن: “أعتقد أنه ليس هناك شك بأن خطة التنويع السعودية ستتلقف أعمالا من الإمارات العربية المتحدة”، كما تشير إلى حرص الشركات متعددة الجنسيات على إعادة تأكيد وجودها في المملكة العربية السعودية، حتى لو عنى ذلك نقل جزء من فرقها إلى هناك.
وبدفع من محمد بن سلمان، تعتزم الرياض أن تفرض على الفاعلين الاقتصاديين العاملين في المملكة توطين سلسلة القيمة. وهي خطوة لا تثير حماسة مسؤول في شركة يقيم بدبي، وقد تم استجوابه بشرط عدم الكشف عن هويته من قبل الصحيفة الاقتصادية البريطانية “فايننشال تايمز” فصرّح قائلا: “أعطيك ثلاث كلمات لاحتمال انتقالنا إلى الرياض: لا مجال لذلك”.
تود السعودية بقيادة محمد بن سلمان إعطاء صورة من الانفتاح بعد عقود من الترويج لنسخة جد محافظة ومتشددة من الإسلام. لكن على الرغم من كبح جماح الشرطة الدينية ومنح المرأة الحق في قيادة السيارة – وهي آخر دولة في العالم سمحت بذلك – فإن نمط الحياة الساري في المراكز الحضرية في المملكة غير قادر على منافسة دبي العالمية والليبرالية للغاية.
ووفقًا لتشينتسيا بيانكو، الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن التحدي الذي تواجهه اقتصادات الخليج يتمثل في افتقار عميق للتكامل: “تواجه دول مجلس التعاون الخليجي جميعًا نفس التحديات وعليها أن تتنافس على نفس الموارد، لأن لديها جميعًا نفس الاستراتيجيات للتغلب على هذه التحديات”.
تتعزز ديناميكيات قانون الأقوى بصعود النزعات القومية والتركيز على الشعور بالانتماء إلى المجموعة الوطنية، على حساب الهوية الإقليمية التي يجسدها مجلس التعاون الخليجي
يوصي الاقتصاديون والمحللون، الذين يتأسفون من منطق “نسخ ولصق” السائد، بالتشجيع على ظهور أقطاب متخصصة ومتميزة عن بعضها البعض، من أجل الاستفادة من خصوصيات كل دولة خليجية وبالتالي الحد من مخاطر المنافسة غير الصحية على عدد قليل من القطاعات الاقتصادية المرغوبة جدا. إذا عرفت سلطنة عمان بناء اقتصاد مزدهر حول قطاع صيد الأسماك والزراعة – والذي مع ذلك تقتصر مساهمته على 2.5٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة – والمنتجات الطبيعية مثل راتنج البخور الطبيعي، تعمل “خليج البحرين للتكنولوجيا المالية” على تطوير صناعة التكنولوجيا المالية. من جانبها، تقترح السعودية على صناعة السينما تصوير أفلام وسط مناظر طبيعية غير مستكشفة لمملكة بقيت منغلقة على نفسها لفترة طويلة. لكن تبقى هذه القطاعات الناشئة على الرغم من وجود فرص حقيقية، على هامش اقتصادات الخليج المدمنة على مئات المليارات من الدولارات التي يوفرها الذهب الأسود كل عام.
وحدها دبي عرفت كيف تصنع لنفسها مكانا على الروابط الحيوية للعولمة، من خلال قطاع الموانئ والخدمات اللوجستية. إذ تدير شركة موانئ دبي العالمية الإماراتية أكثر من 60 محطة ميناء في ست قارات بما في ذلك محطتها الرئيسية في جبل علي بضواحي دبي، ما يجعل منها إحدى الشركات العالمية الرائدة في هذا القطاع.
بالإضافة إلى الفرص التي يوفرها بروز أقطاب التخصص، فإن تطوير التآزر عبر الحدود له أيضًا ميزة تشجيع الوحدة حول مشاريع تساعد في تطوير هوية اقتصادية خليجية تتجاوز بيع الطاقات الكربونية. وفي هذا الصدد، يحتل قطاع السياحة مكانة متميزة لبعث الحياة في نهج تعاوني، إذ يسمح الترويج لجولات إقليمية الاستفادة من تنوع التجارب السياحية في الخليج: زيارة الحرمين في المملكة العربية السعودية، وتنظيم أحداث رياضية دولية رفيعة في قطر، وحياة حضرية وليلية في دبي، واستكشاف عالم الغوص في الساحل العماني.
من حيث البحث والتطوير، فإن التعاون بين دول الخليج “منطقي”، حسب الاقتصادي البحريني عمر العبيدلي: “أظهر الاتحاد الأوروبي كيف يمكن للتكامل الاقتصادي أن يعزز إنتاج البحث والتطوير، من خلال برنامج إيراسموس. سيكون من المفيد للغاية أن تستلهم دول مجلس التعاون الخليجي من هذا المثال”. ولكن هذا المشروع غير مدرج على جدول الأعمال، كما يعوقه مجلس تعاون خليجي غير قادر على توحيد مملكات النفط الخليجية حول مشاريع تتمحور حول المصلحة المشتركة.
بالفعل، يبقى تعزيز التآزر الاقتصادي بين دول الخليج حلما وهميا دون تنسيق استراتيجيات التنويع الاقتصادي التي تنفذها كل دولة بشكل منفرد. وهي عقلية تصطدم بالواقع السياسي في منطقة لا يتحرك فيها شيء من دون انخراط القوتين الثقيلتين، السعودية والإمارات، كما يشير مصدر مقرب من دوائر صناع القرار في الخليج. ويأسف الأخير لكون مصالح الدول الأكثر تواضعًا تُترك في المرتبة الثانية من الأولويات.
تتعزز ديناميكيات قانون الأقوى بصعود النزعات القومية والتركيز على الشعور بالانتماء إلى المجموعة الوطنية، على حساب الهوية الإقليمية التي يجسدها مجلس التعاون الخليجي. في وقت تجد المنطقة صعوبة في لملمة جراح الأزمة الدبلوماسية العنيفة التي وضعت قطر في مواجهة جيرانها بين 2017 وأوائل 2021، تطارد أهوال الانقسام الاقتصادي هذه المرة عقول الناس من جديد.
(*) بالتزامن مع “أوريان 21“