يمكن للتناقض في تصريحات مسؤولي “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) ومسؤولي ذراعها السياسية “مجلس سوريا الديموقراطية” (مسد) أن يشرح الكثير حول حالة الاضطراب التي يعيشها هذا الكيان العسكري ـ السياسي الذي يُشكّل حزب “الاتحاد الديموقراطي” (الكردي) عموده الفقري. ثمة تصريحات حول وجوب التقارب مع دمشق تارة، وتصريحات أخرى حول عدم إمكانية ذلك، في حين تزداد التهديدات التركية حول شن عملية عسكرية تستهدف مناطق تسيطر عليها “قسد” على طول الشريط الحدودي شمالي شرق سوريا.
وفي الوقت الذي تُركز فيه أنقرة على أربع نقاط محددة (تل رفعت ومنبج غرب الفرات، وعين عيسى وتل تمر شرق الفرات) بحجة إبعاد الأكراد لمسافة تزيد عن 30 كيلومتراً عن الحدود التركية، تحاول موسكو استغلال الموقف وتحويله فرصة حل تعتبره مقبولاً، بما يلجم أنقرة ويقلص الحضور الأميركي، ويعيد في الوقت ذاته سيطرة الحكومة السورية على مناطق حيوية في هذه المنطقة.
جاءت الخطة الروسية بمثابة حل ثالث لفرضيتين طرحتهما أنقرة مراراً خلال جلسات المباحثات المطولة بين الطرفين، بدءاً من اتفاقية سوتشي في العام 2018، وصولاً إلى اللقاء الأخير بين الرئيس الروسي فلايديمر بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي، وما تبعه من لقاءات عسكرية وأمنية بين الطرفين، حيث يتمثل الطرح التركي بضرورة إبعاد الأكراد عن الشريط الحدودي سواء تم الأمر على يد موسكو أوعن طريق عملية عسكرية تركية، مقابل حلحلة ملف إدلب بشكل تدريجي وفق خطوات متلاحقة، تبدأ بفتح تفريعة طريق M4 التي تربط حلب باللاذقية، تتبعها عمليات فرز للفصائل المسلحة المصنفة “إرهابية”، ما يُمهِد الأرض لإيجاد حل سياسي مستقبلي في تلك المنطقة.
نشّطت موسكو لقاءاتها مع قيادات “قسد” في الداخل السوري، كما استقبلت وفداً من ذراعها السياسية (مسد) في موسكو، لوضع أرضية يمكن من خلالها التوصل إلى تفاهمات تنهي هذا الملف. وقد إصطدمت المساعي الروسية بعدم تفاهم الأكراد على موقف موحد
وجاء الطرح التركي بالتوازي مع توسع نفوذ روسيا في المنطقة الشرقية، حيث إستغل الروس الانكفاء الأميركي في الملف السوري في العامين الأخيرين من ولاية الرئيس دونالد ترامب، إذ أن الحضور العسكري الأميركي بات محصوراً في المناطق النفطية وبعض قواعد المراقبة شرقي نهر الفرات، بالإضافة إلى قاعدة التنف على المثلث الحدودي السوري ـ العراقي ـ الأردني.
وبرغم رفض موسكو للجزء الذي يربط مصير إدلب بمصير مناطق “قسد” منه، وفق الخطة التركية، وإصرارها على فصل الملفات، تتصرف أنقرة وكأنها تُمسك بـ”ورقة رابحة” تستخدمها بين وقت وآخر، خصوصاً عندما تستشعر الخطر حول وجودها في إدلب، الأمر الذي يشرح التحشيد العسكري والإعلامي التركي ضد مناطق “قسد” فور بدء الجيش السوري تحضيراته لشن عملية عسكرية لفتح طريق حلب – اللاذقية.
ومن الملاحظ أن المناطق الحدودية التي تتحدث عنها تركيا في الشمال الشرقي من سوريا، يمر عبرها ايضاً طريق M4، ما يعني، وفق المقترح التركي، فتح جزء من الطريق والسيطرة على جزء آخر، وهو ما تدركه كل من دمشق وموسكو، لذلك جاء الرفض قاطعاً في المرة الأخيرة، مقروناً بحل بديل، يتمثل باستعادة دمشق السيطرة على تلك المناطق، الأمر الذي يُحرق “الورقة الكردية” التي تلوّح بها أنقرة، ويقي “قسد” خطر الإنخراط في حرب غير متكافئة ستكلفها بالإضافة إلى الخسائر البشرية خسارة مناطق جديدة، خصوصاً أنها خاضت تجارب مشابهة خلال السنوات الماضية انتهت جميعها بتمدد تركي في الداخل السوري.
هذه المعطيات كانت في صلب زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو في شهر أيلول/سبتمبر الماضي ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي يمكن اعتبارها من أهم الزيارات، وأفضت إلى تفاهمات عديدة حول مجموعة من الملفات، بينها ملف “قسد”، لكن برغم حديث دمشق عن “اقتراب موعد حل ملف المناطق التي تسيطر عليها (قسد)، سواء بالسياسة أو بالقوة”، وفق تعبير وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، فإن وقائع السياسة والميدان أكثر تعقيداً من رغبة الحكومة السورية.
ويمكن القول إن ملف المناطق التي تيسطر عليها “قسد” بات بالنسبة إلى دمشق وموسكو أولوية قد تفوق أهمية إدلب ـ برغم أهمية وتوازي الجهدين الروسي والسوري في مقاربة الملفين ـ حيث تدرك روسيا أهمية هذه المناطق بالنسبة للأمن الغذائي السوري، وكذلك أهميتها الاقتصادية في مرحلة إعادة الإعمار، كما في خريطة النقل البري سواء بين المناطق السورية، أو الطرق التي تربط سوريا بجوارها، ما يفضي إلى ضرورة الإسراع في وضع حد للأوضاع الميدانية الحالية، وفتح الباب أمام تسويات سياسية تنهي هذا الملف.
وخلال الشهور الماضية، نشّطت موسكو لقاءاتها مع قيادات “قسد” في الداخل السوري، كما استقبلت وفداً من ذراعها السياسية (مسد) في موسكو، لوضع أرضية يمكن من خلالها التوصل إلى تفاهمات تنهي هذا الملف. وقد إصطدمت المساعي الروسية بعدم تفاهم الأكراد على موقف موحد، ما يعني أن أي اتفاق سيتم توقعيه سيلاقي مقاومة من بعض القوى السياسية الكردية. هذا المناخ أدى إلى عرقلة المساعي الروسية بشكل مؤقت، وأفضى إلى حل جديد يتم خلاله تقسيم الاتفاقيات إلى مراحل، تبدأ بالمناطق التي تستهدفها تركيا، وتنتقل إلى مناطق أخرى.
على الرغم من تنامي الدور الأميركي مؤخراً، وما تسبب به من إرباك وعرقلة للجهود الروسية، ثمة حالة شك لدى “قسد” بمدى جدية واشنطن، وسط تكهنات باقتراب موعد خروج قواتها من سوريا، سواء بسبب عدم جدوى حضورها العسكري وتكاليفه المرتفعة، أو بسبب التحولات الأخيرة في سياستها الخارجية
وفي خضم المساعي الروسية، بدأت الولايات المتحدة بتنشيط حضورها السياسي والعسكري في سوريا، الأمر الذي زاد من حالة الانقسام في “البيت الكردي”، خصوصاً أن التيار الذي يميل إلأى واشنطن في “قسد” يعتبر وازناً، على عكس التيار الراغب بالتوصل إلى اتفاق مع موسكو ودمشق، والذي يغلب عليه الطابع السياسي، الأمر الذي يفسر تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغيه لافروف المتكررة حول ضرورة عدم انسياق الأكراد وراء واشنطن، واعتباره مساعي الولايات المتحدة انفصالية، وتشديده على المطالب الروسية والسورية وحتى التركية المستمرة بانسحاب أميركا من سوريا، لما يخلقه من أزمة اعتبر لافروف أن آثارها لا تقتصر على سوريا فحسب، وإنما على المنطقة ككل.
في هذا الوقت، بدأت الولايات المتحدة بتوجيه رسائل عسكرية وأمنية وسياسية، متذرعة بأنها موجودة على أرض سوريا بهدف “محاربة الإرهاب”. ترافق ذلك مع تنفيذ سلسلة استهدافات أميركية طالت شخصيات مرتبطة بتنظيم “القاعدة” في مناطق متفاوتة بينها إدلب، كما قامت القوات الأميركية بتنشيط دورياتها العسكرية، وبدأت تحاول استعادة بعض المناطق التي انسحبت منها سابقاً، وبينها منطقة تل تمر، التي تمثل عقدة تتمركز في أطرافها فصائل تابعة لتركيا، وتسيطر عليها “قسد” وتعتبر منطقة نفوذ روسية.
وعلى الرغم من تنامي الدور الأميركي مؤخراً، وما تسبب به من إرباك وعرقلة للجهود الروسية، ثمة حالة شك لدى “قسد” بمدى جدية واشنطن، وسط تكهنات باقتراب موعد خروج قواتها من سوريا، سواء بسبب عدم جدوى حضورها العسكري وتكاليفه المرتفعة، أو بسبب التحولات الأخيرة في سياستها الخارجية، أو بناء على تفاهمات مع روسيا، وصفقات مع تركيا، الأمر الذي تستغله روسيا في الوقت الحالي لإعادة ضبط خطتها مرة أخرى، وتجاوز المطب الأميركي، فهل تفضي هذه الجهود إلى نتيجة، أم أنها ستصدم بعوائق أخرى، تنقل الصراع السياسي إلى ميدان قتال سيجد الأكراد أنفسهم فيه مرة أخرى الحلقة الأضعف؟