“قناصو لبنان الجدد”.. من حافة الهاوية إلى حافة الحرب!

بعيد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، طغت على اليوميات اللبنانية، مفردتا "سالكة" و"آمنة"، حيث كان اللبنانيون ينتظرون كل صباح ما كانت تبثه إذاعة بيروت عن أحوال الأمن والطرقات، فإذا كان القناصون يعتلون الأبنية ويقنصون عابري السبيل، يقبع الناس في بيوتهم، ولو غاب القناصون عن "أعمالهم" فمعنى ذلك أن الناس آمنون، فيسلكون الطريق التي يشاؤونها في طريقهم إلى مصادر أرزاقهم.

هذه الوقائع التي عاش اللبنانيون مأساتها  شهوراً بعد وقوع الحرب، سرعان ما تحولت إلى “خطوط تماس” جغرافية وديموغرفية استمرت خمس عشرة سنة، ومن دون أن يستطيع فريق لبناني مسلح، أن يخترق تلك الخطوط أو يتجازوها، فتلك الخطوط غدت حدوداً فاصلة بين المتقاتلين، ولها رعاتها الإقليميون والدوليون.

لا داعي لإطالة الحديث عن تلك الفترة ولا عن “قناصيها المتجولين” وهي الصفة التي أطلقها السيد وليد جنبلاط في معرض تعليقه على مجرزة الطيونة وقبلها واقعة خلدة، وعلى هذه الحال بات من حق اللبنانيين أن يسألوا: هل عدنا إلى مرحلة القناصة وإلى عهد القناصين؟

الإجابة عن هذا السؤال، ربما تنتظر “واقعة جديدة”، لتتبين من خلالها اتجاهات المرحلة اللبنانية المقبلة، وعما إذا كانت عقيدة الحرب وثقافتها تجذب طرفا لبنانيا معينا يفترض انه بالحرب “يحيا لبنانه”.

بإنتظار ذلك، من الأهمية بمكان القول بأن ممارسة سياسة “حافة الهاوية” وبالطريقة التي مارسها القناصون في الطيونة، لا تخدم أصحابها دائماً واستمراراً، فمثل هذه السياسة قد تؤدي إلى الوقوع في قعر الهاوية، وهذا ما حدث بالضبط عقب حادثة “عين الرمانة” في الثالث عشر من نيسان/ابريل 1975، والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة، منها:

يقول الوزير الأسبق والقيادي في “الحركة الوطنية” البير منصور في كتابه “موت جمهورية”:

“في الثالث عشر من نيسان (أبريل) 1975، وفي عين الرمانة من ضواحي بيروت، تعرضت بوسطة ركاب تقل فلسطينيين عائدين من مهرجان سياسي لإعتداء ذهب ضحيته قتلى وجرحى، لم تُعرف الجهة التي اعتدت على البوسطة الفلسطينية او هكذا أشاعوا، واتُهم حزب الكتائب بالإعتداء على الحافلة الفلسطينية، كان لا بد من ذريعة ما حتى يشعل أصحاب المصالح الإقليمية فتيل الحرب في لبنان”.

لنلاحظ  ونتوقف عند “أصحاب المصالح الإقليمية”، كما يقول البير منصورالشاهد على تلك الفترة.

وفي الخامس عشر من أيار/مايو 1975، أي بعد شهر ويومين من واقعة باص عين الرمانة، قدم رئيس الحكومة رشيد الصلح استقالته، وقبل الإعلان عنها ألقى كلمة في مجلس النواب قال فيها:

“ظهر الثالث عشر من نيسان (أبريل) وقعت جريمة منكرة في عين الرمانة، ومن الواضح ان حزب الكتائب يتحمل المسؤولية الكاملة عن المجرزة، وقد ثبت ذلك منذ اللحظة الأولى للجريمة البشعة، وممانعته في تسليم المسؤولين عنها طوال ثلاثة ايام، ثم إقراره الصريح والعلني بالمسؤولية وتسليمه اثنين من المسؤولين ووعده بتسليم آخرين”.

وما بين حادثة عين الرمانة واستقالة رشيد الصلح، وقعت وقائع عدة، إلا أن عنوانا عريضا في صدر صحيفة ” النهار” في الرابع عشر من نيسان/ابريل 1975، كان لافتا للنظر وقابلا للتمعن الشديد، فقد جاء فيه “قنابل وشحنات ناسفة تنفجر ليلا في أحياء بيروتية عدة من منطقة المرفأ إلى منطقة الكولا”.

من استغل سياسة “حافة الهاوية” ليزرع هذا الشريط المتفجر في أحياء العاصمة اللبنانية؟

مرة أخرى، السؤال قد يحمل في طياته إجابات قاطعة، كلها مرصوفة في جادة واحدة، ولكن استقدام مزيد من الشواهد قد يجدي نفعا، وهذان شاهدان حول حادثة عين الرمانة:

ـ يقول الراحل جوزيف أبو خليل في كتابه “قصة الموارنة في الحرب” وهو الذي ترأس لفترة طويلة، رئاسة تحرير صحيفة “العمل” الكتائبية مثل كل الحروب التي تبدأ عادة بحادث صغير يكون هو الشرارة الأولى، لكنه لا يلبث أن تغمره الأحداث اللاحقة وتطغى على وقائعه، كذلك كانت حال الحادث ـ باص عين الرمانة ـ والحقيقة أنه لم يكن أكثر من عود ثقاب أشعلته يد، بالصدفة أو عن سابق تصور وتصميم، ورمت به إلى كومة من كبريت وبارود”.

ـ يقول سعدالله مزرعاني (“النهار” 13 نيسان/ابريل 2000) نائب الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني “تتيح  المسافة  الفاصلة عن تلك الحادثة أن نعيد ترتيب أفكارنا وتقديراتنا خارج انفعالات اللحظة والمرحلة، وأسارع إلى القول، لم يكن احد من ركاب البوسطة قد قرر الذهاب عمدا الى الإستفزاز المفتوح على المجازفة والموت”.

أوليس هناك من أوجه شبه بين مصائر الذين لم يجازفوا بموتهم في باص عين الرمانة وبين مصائر متظاهري الطيونة؟

مهما تكن خاتمة الذين رحلوا في بدايات الحرب، إلا أن الإستمرار في سياسة “حافة الهاوية” أدى إلى “تفلت الأرض” وانشقاقها وشقاقها، وبما يعني أن صاحب القرار الأعلى في ممارسة تلك السياسة، أضحى بعد حين أسير القيادات الميدانية الوسطى وما دونها، يجرونه إلى حيث يريدون ويبتغون، ومع كل ما يرافق ذلك من دخول أصحاب المصالح الإقليمية والدولية إلى صلب سياسته، كما قال البير منصور، وصولا إلى التعامل مع الشيطان، كما قال مرة رئيس جمهورية أسبق، ومن الشواهد على “تفلت الأرض” هذه الوقائع والشواهد:

إقرأ على موقع 180  إستقرار تونس بين إدارة الداخل.. وإرادة الخارج

يروي القيادي في حركة “فتح” نبيل شعث قصة يوم “السبت الأسود” فيقول في كتابه “حياتي من النكبة الى الثورة”:

“في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1975، عُثر على أربعة جثامين من حزب الكتائب، فقامت ميليشيا الكتائب بوضع نقاط تفتيش في منطقة المرفأ وقتلت المئات على بطاقات الهوية”.

من قتل الكتائبيين الأربعة؟

من أصدر أمرا بعد ذلك  بقتل المئات وفقا لإنتمائهم الطائفي؟

يقول كبير المشاركين في يوم “السبت الأسود” جوزيف سعادة  الذي فقد ابنه من بين الكتائبيين الأربعة، في كتابه “أنا الضحية والجلاد أنا”:

“في مكاتب بيت الكتائب كان مصير ابني آخر هم المجتمعين هناك، فتوجهت فورا إلى مركز ب.ج (قوات النخبة الكتائبية) وكنت على ثقة بأنهم لن يترددوا في مساعدتي، رشاشاتهم أصدق من تقية السياسيين ونفاقهم، وفهموا على الفور ان المطلوب خطف ما تيسر من الناس لمبادلتهم، وتمركزنا على تقاطع طريق الشام وشارع الجمارك وشارع شارل حلو، لم يمض على انتظارنا الا هنيهات قليلة حتى تقدم باص صغير، أخرجنا الركاب من الباص وعدنا أدراجنا بحثا عن آخرين، وكنا نستوقف كل السيارات العابرة، وكان الوقت يمضي وأعداد المخطوفين تتزايد، وإذ جاءني أحد الشبان بقميص إبني المضرج بالدم، فكان ما كان من أمر المخطوفين وكان السبت الأسود.. يومذاك ما عدنا نشبه البشر، كان المارة ومعظمهم من عمال المرفأ يُقتلون بلا تمييز، كنا نكدس الجثث في شاحنة ثم إفراغها من أعلى أحد الجسور، كنا نقتل بلا هوادة وكان قصب السبق لمن يتلطخ بالدماء أكثر من سواه”.

بعد مجزرة “السبت الأسود” (6 ـ12ـ1975) بيومين، وقعت “معركة الفنادق”، وتلتها معارك: الدامور ـ ضبيه ـ المسلخ ـ الكرنتينا ـ وكلها  جرت بين السادس من كانون الأول/ديسمبر 1975 والعشرين من كانون الثاني/يناير 1976، أي خلال شهر ونصف الشهر فقط.

هل هي الصدفة؟

في التحقيق الذي نشره جوزيف سعادة مع قتلة ابنه شخص اسمه معتصم قائد المجموعة الخاطفة، منتظم في “جبهة التحرير العربية” (بعث العراق بنسخته الفلسطينية) ويأتمر بأوامر حركة “فتح” ويقدم معلومات لحزب “الكتائب”، أي أنه “عميل مثلث”، وطوال فترة التحقيق رفض معتصم الإفصاح عن الجهة التي أعطته الأوامر بالخطف.

ما المانع أن يكون معتصم “عميلا مربعا” وإسرائيليا بالذات؟

سؤال لتشغيل عجلة الذاكرة وعجلة الأسئلة.

من دلائل وقرائن العصبيات القاتلة التي تنتجها  سياسة “حافة الهاوية” ما يقوله القيادي السابق في “القوات اللبنانية” اسعد الشفتري (وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية ـ نبيل المقدم)، يعترف الرجل ويروي:

“كنا نعتقل أشخاصا يسكنون بالقرب من خطوط التماس، فيساقون إلى التحقيق ويتم تعذيبهم بشدة، بسبب اهتزاز ضوء شمعة أو مصباح كهربائي في منازلهم، والتي كان يفسرها الأمنيون بأنها إحداثيات للعدو”.

ويقول الشفتري:

“لم يكن القصف على الشطر الغربي من بيروت يأتي دائما بأوامر من غرفة العمليات، بل كان في بعض الأحيان بقرار ذاتي، كما حدث عندما تم الإتصال بإحدى دور السينما في المنطقة الغربية القريبة من خطوط التماس، وأعطوا بلاغا غير صحيح عن وجود متفجرة في داخل صالة السينما تلك، وما أن خرج رواد السينما مذعورين حتى انهالت عليهم قذائف المدفعية، فقتلت وجرحت الكثيرين منهم”.

وأما “حرب الجبل” في عام 1983، فيقول أحد أطرافها السيد وليد جنبلاط في شريط ذكريات حواري أجراه غسان شربل مع قادة لبنانيين بعنوان “أين كنت في الحرب”؟:

“يمكن القول إن حرب الجبل بدأت حين تصاعد التوتر الطائفي إثر دخول الإسرائيليين ثم وصول الكتائبيين في أعقابهم في حزيران (يونيو) 1982، أعقب ذلك سلسلة حوادث أمنية من عين المعاصر إلى بريح وكفرنبرخ وسوق الغرب وعاليه، كانت الأجواء مشحونة والتوتر يتفاقم ومعه القلق، وسرعان ما راحت كرة الثلج تكبر، والإنفجار الكبير وقع في أيلول (سبتمبر) 1983”.

خلاصة ما يمكن قوله إن سياسة “حافة الهاوية” كما مورست عشية حرب العام 1975، افضت إلى الإنزلاق إلى قاع الهاوية، كما أن سياسة “حافة الحرب” التي مورست عام 1983 أدت إلى حرب الجبل، والسياسة نفسها التي مارسها القناصون في الرابع عشر من تشرين الأول/اكتوبر 2021، تنعش وتُلهب ذاكرة الحسابات الخاطئة ومعها نتائج الخراب العام.

خاتمة القول: حرب واحدة تكفي.. خمس عشرة سنة من الحرب تكفي.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تختتم "مركبات النار" بإستهداف إيران جواً!