العالم يتغير، أوزان الكبار تتغير.. الذكريات تتحدث

تساءلنا يوم سقطت الشيوعية وانفرط الاتحاد السوفييتي وحلّت روسيا محله إن كان النظام الدولي سوف يحتفظ بصفاته وخصائصه التي صاغتها الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، علماً بأن أمريكا قبل عقدين من الانفراط السوفييتي كانت قد سمحت ضمنياً ثم رسمياً لحكومة الصين الشعبية بالحلول في مقعد الصين في مجلس الأمن وغيره من أجهزة الأمم المتحدة محل حكومة الصين الوطنية.

كانت روسيا المنزوعة الإمبراطورية أقل سمعة ووزناً وقوة من الاتحاد السوفييتي، وفي حالة الصين كانت الصين الشعبية أعلى سمعة وأثقل وزناً وأعظم قوة، وفي الحالتين لم تسمح أمريكا بأن تتغير صفات النظام الدولي أو خصائصه، وإن تغيرت أوزان القوى الممثلة له.

***

نتساءل هذه الأيام مرة أخرى. نتساءل بعد كل التغيرات التي طرأت على كثير من مكونات النظام الدولي ممتدة إلى بعض مفاهيمه الأساسية إن لم يحن وقت تغيير بعض صفات النظام وخصائصه ومهامه. هل نحن بصدد مرحلة أخرى من العناد الأمريكي معنية بالحفاظ على النظام القائم بدون تغيير يذكر، أم نحن على وشك أن نشهد جهوداً صينية مكثفة وربما غاضبة من أجل إقامة نظام دولي جديد، أم أننا مقدمون على العيش المشترك في إطار نظام دولي هجين، نظام يجمع خصائص من القديم مع خصال استجدت وفرضت نفسها وصار الاستمرار في تجاهلها أو تأجيلها مكلفاً لكل من أمريكا وبريطانيا بخاصة، وربما روسيا، وإن كنت أميل أحياناً إلى أن هذه الأخيرة سعيدة بحالها وبما تجنيه وتجمعه من انحدار أو انسحابات أقطاب أخرى، سعيدة بوضعها الراهن ولا تتمنى أي تغيير.

***

تذكرت إجتماعا جرى مع شو اين لاي رئيس وزراء الصين في مكتبه بالعاصمة بكين. لم تكن المرة الأولى التي أقابل فيها الرجل. المرة الأولى كانت عندما التقينا قبل أربع عشرة سنة من هذا الاجتماع في مناسبة عامة في العاصمة الصينية عندما كنت أعمل بالدبلوماسية. دار الحوار ليلتها مع رئيس الوزراء حول قضايا الغذاء وأرقام الاستهلاك والعلاقة بين ثلاثي الحكم: الحزب والحكومة والجيش. وكلها أمور بالمقارنة بالصين الراهنة تجاوزتها الظروف إذ كنا نتحدث عن شعب عدد أفراده لم يتجاوز بكثير الستمائة مليون نسمة، وكانت العلاقات بين الحزب وكل من الجيش والحكومة شديدة التوتر. كان الحزب يمر في أشد مراحل الانتقال قسوة إذ لم يكن قد مضى على وصوله بكامل قيادته إلى العاصمة أكثر من عشرة أعوام، بمعنى آخر كان الحزب حديث العهد بحياة ومشكلات أهل المدن. كان الهم الأكبر الداخلي هو الاهتمام بحماية الثوار من أمراض المدينة وفسادها وكان الهم الأكبر الخارجي حماية الثورة الصينية من ضغوط وتدخلات الاتحاد السوفييتي.

***

مرت سنوات وعدت إلى الصين مع الزميل في الدبلوماسية والبحث الأكاديمي سميح صادق ضمن رحلة آسيوية واسعة شملت الصين واشترك في الإعداد لها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية حديث النشأة أو التسمية والمتفرع من مؤسسة الأهرام. قاد الوفد الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد اجتماعات تحضيرية عديدة. كانت الصين محطتنا الأولى في الرحلة. وصلنا بكين نحمل قناعات أهمها ثقتنا جميعاً في أن سنوات قليلة تفصل بيننا وبين أن تصبح آسيا قارة تقود أحداث المستقبل. كان من قناعاتنا أيضاً توقع اتساع الفجوة بين قطبي الشيوعية، الصين وروسيا. ولا شك أن المناقشات الأيديولوجية الساخنة التي جرت بين الزميل محمد سيد أحمد والسيد شو اين لاي كانت أقوى دليل على أهمية هذا التوقع من جانبنا والجانب الصيني.

***

كانت جلسة ممتعة امتدت لساعات طويلة أبدع فيها الجميع. كان هيكل رائعاً كنموذج لصحفي قادر على إبهار محدثيه من الأجانب. أنا شخصياً أعلم كم من الكتب عن الصين قرأ قبيل انطلاق الرحلة وكم من الدارسين لآسيا أو في آسيا قابل ليسأل عن كل كبيرة وصغيرة. انبهرنا بذاكرته. كنا نجتمع مرتين بعد كل زيارة لمسئول كبير. المرة الأولى نجتمع، محمد سيد أحمد وسميح صادق والصحفي اللامع حمدي فؤاد وأنا، لنراجع مذكراتنا عن اللقاء، ثم ينضم إلينا هيكل لنكتشف أنه وهو الذي لا يكتب أثناء اللقاءات جمع من الملاحظات عن المسئول وحاشيته واللوحات أو الصور المعلقة على حوائط الغرفة أكثر من كل ما جمعنا نحن الأربعة. أمتعنا أيضاً في تلك الجلسة المطولة وفي جلسات أخرى كثيرة محمد سيد أحمد، كان ببساطته وذكائه وخفة ظله وإنسانيته عبقرية ناطقة ومتحركة. عبقرية لا تهدأ ومتجددة أذهلت الطرف الآخر.

هل نحن بصدد مرحلة أخرى من العناد الأمريكي معنية بالحفاظ على النظام القائم بدون تغيير يذكر، أم نحن على وشك أن نشهد جهوداً صينية مكثفة وربما غاضبة من أجل إقامة نظام دولي جديد، أم أننا مقدمون على العيش المشترك في إطار نظام دولي هجين

***

أذكر لشو اين لاي وصفه الوضع الدولي في ذلك الحين بالكلمات التالية “هناك الآن في العالم انقسامات جديدة، وهناك تحالفات جديدة، وهناك فوضى أو تفاعلات عنيفة في كل مكان”. وعندما سئل عن تعريفه للقوى العظمى قال “القوة العظمي حالة وليست مجرد مواصفات..”.

عدت قبل أيام إلى أوراق أسجل فيها انطباعات سياسية. قرأت ما سجلت. وعلى الفور وجدت نفسي أقارن بين حال العالم في ذلك الوقت كما وصفه شو اين لاي وما بدا لي في أوراقي أنه اجتهادات شخصية عن عالم اليوم. أمريكا، الوحيدة بين الدول الكبرى التي ما زالت تستحق صفة القوة العظمى رغم التدهور المريع الذي أصاب سلوكيات نخبها الحاكمة والطبقة السياسية عموما، رأيتها في السنوات الأخيرة تتصرف كعملاق ضخم فقدت أطرافه وعضلاته التنسيق الضروري بينها، وهو التنسيق الذي يضمن تحركها باتزان وحسابات دقيقة. أو لعلها كما وصفها أحد كبار المعلقين صارت مثل باخرة كبيرة عابرة للمحيطات لا تتمكن من تغيير اتجاهها إلا بصعوبة بالغة وببطء شديد. لا اختلاف كبير في هذا الشأن بين عهد دونالد ترامب وعهد جو بايدن وبخاصة في شأن مواجهة ضرورات إصلاح البنية التحتية ووقف تدهور نظامها الديموقراطي والرأسمالي.

إقرأ على موقع 180  أزمة أوكرانيا.. أنذالٌ بيدهم قرارُ الحرب أو اللاحرب

***

لاحظت أيضاً كيف أن بريطانيا وقد فقدت نهائياً وقطعياً صفة العظمى التي ورثتها عن أيام الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وقد انضمت إلى أوروبا ولم تجد فيها مكاناً مريحاً، ثم تخلصت وبصعوبة بالغة عن صفتها الأوروبية وهي الصفة التي كادت تلصق بها خلال عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ها هي تعود الآن وبصعوبة أكبر تسعى لاستعادة الدور الذي ارتضته لنفسها منذ الحرب العالمية الثانية كمساعد أو تابع أصغر للقطب الأمريكي برتبة قطب دولى. رأيناها مؤخراً تلعب هذا الدور بامتياز لتكسب لأمريكا ولنفسها ولأستراليا حلفاً جديداً، فيه من روح الانتقام من فرنسا التي جعلتها تذوق الأمرين أثناء مفاوضات البريكسيت أكثر مما فيه من أي شيء آخر مثل التنبه إلى ضرورة استعادة روح القومية الأنجلو سكسونية. نراها أيضاً تقف أمام نقابات سائقي اللوريات الأوروبية الذين فقدوا وظائفهم في بريطانيا مع البريكسيت، تقف متسولة إنقاذ اقتصادها من أزمة نقل وتوزيع الوقود.

***

لا أبالغ إن قلت أنني وجدت فرنسا القطب الثالث في الحلف الغربي تكاد لا تقوى على تحمل واجبات قيادة الاتحاد الأوروبي في حال تغيب منطقي من جانب السيدة أنجيلا ميركل وغياب محتمل من جانب حكومة ألمانية قوية ومتجانسة قادمة. وجدت بين ما وجدت وهو كثير أن ماكرون بذاته أو فرنسا القطب الدولي تتلقى فجأة هذا الكم من الإهانات من حكام أفارقة وعرب. كلنا، إلا قليلون، لم يفتنا منظر وعواقب الصدمة التي تلقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نتيجة تدخله في الشأن اللبناني. رأينا فرنسا محشورة في لبنان في مواقف لا تحسد عليها. شَمتَ البريطانيون شماتة كبيرة وشَمتَ بعض الأمريكيين والروس. ثم وجدنا من يخرج ليحكي لنا قصة إدخال فرنسا عضواً بين الأقطاب الخمسة أعضاء مجلس الأمن خلال محادثات إنشاء الأمم المتحدة. نعرف الآن أن أمريكا أدخلتها بعد تردد كبير. لم تتمتع فرنسا في ذلك الوقت بسمعة تليق بصفة القوة العظمى أو بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن. وسواء كان في القصة اختلاق أو مبالغة تبقى السلوكيات الفرنسية الأخيرة في الخارج كما في الداخل ومطالب الاعتذار والتعويض الصادرة من الدول الخارجة من تحت الاستعمار الفرنسي تستوقف المراقب أو المحلل.

لم يفتنا منظر وعواقب الصدمة التي تلقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نتيجة تدخله في الشأن اللبناني. رأينا فرنسا محشورة في لبنان في مواقف لا تحسد عليها

***

روسيا العضو الخامس دائم العضوية في مجلس الأمن ورثت المنصب مثل بريطانيا ربما عن غير حق. ولكن هل يصح أن تظل حاملة للقب القوة العظمى بعد زوال الإمبراطورية الأوراسية الواسعة الأرجاء. شهدت المرحلة الانتقالية التي أطلقها عهد الرئيس بوريس يلتسين بداية تراجع النفوذ الروسي داخل أوروبا بخاصة وفي أنحاء أخرى من العالم بشكل عام. أظن أن السياسة الروسية الراهنة في الشرق الأوسط مثلاً لا تضيف الكثير إلى مكانة روسيا كقطب دولي. أشك أنه يوجد لدى موسكو أسباب مقنعة تبرر استخدامها المرتزقة وأساليب ملء الفراغات في مواقع غير مترابطة الأهداف والخلفيات. أحياناً أجد صعوبة في فهم المصلحة وراء وجود روسيا، القطب العظيم، في موقع بسوريا أو ليبيا أو مثلهما مثل وجود تركي أو وجود خليجي.

***

تغيّرت صورة العالم. تغيرت أيضا صورة أقطاب النظام الدولي. شو اين لاي كان على حق عندما اعتبر القوة العظمى حالة وليست وضعاً مستقراً ثابت المواصفات. الآن وعلى ضوء معطيات الواقع صرنا نشك في صلاحية نظام مجلس الأمن بوضعه الراهن وبأوضاع أغلب أقطابه الدائمي العضوية لأداء مهمة حفظ أمن وسلام العالم.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  زمن التحولات الكبرى.. دور حاسم للمحور الأوراسي (3)