يخطىء من يعتقد أن لعبة الأمم قد توقفت في أفغانستان أو الصراع الدولي عليها قد تراجع بإلانسحاب الأميركي في الثلاثين من آب/أغسطس الماضي. ما جرى لا يعدو كونه تغييراً في قواعد اللعبة والإشتباك.
وإذا كان من المبكر القول إن روسيا تملأ الفراغ الأميركي، وأن ليس من السهل بمكان القفز فوق التجربة الكارثية للتدخل السوفياتي في أفغانستان في الثمانينيات الماضية وتناسي آثاره التي لا تزال عالقة في الذاكرتين الروسية والأفغانية معاً، فإن إلتقاء المصالح وضرورات الجغرافيا وسياق الأحداث في مرحلة ما بعد إنكفاء الولايات المتحدة، هي التي فرضت “صيغة موسكو” التي قد تتحول بحكم الأمر الواقع، “إنتداباً” إقليمياً ومرجعية تتولى عملية المصالحة والتطبيع بين طالبان والعالم.
وفي هذا الصدد، تنقل صحيفة “الواشنطن بوست” الأميركية عن رئيس مركز الدراسات الأفغانية المعاصرة أندريه سيرينكو الذي يتخذ موسكو مقراً له:”إن أفغانستان بحد ذاتها ليست مهمة لروسيا.. إن روسيا تريد إستخدام أفغانستان بدلاً من التورط في هذا البلد”.
وإذا كان هذا الكلام يفسر الكثير من المواقف الروسية بعد الإنسحاب الأطلسي، يتعين النظر أيضاً إلى النشاط الروسي الميداني. إذ أنه بينما كان الجنود الأميركيون يرحلون على عجل من كابول، كانت روسيا تطلق مناورات عسكرية مع طاجيكستان على الحدود مع أفغانستان، وتلتها مناورات أخرى مع أوزبكستان، في رسالة تحذير واضحة لطالبان من تخطي الحدود إلى آسيا الوسطى، أو السماح لطرف ثالث مثل تنظيمي “القاعدة” و”داعش” بإتخاذ الأراضي الأفغانية منطلقاً لتنفيذ “أجندات” في الجمهوريات السوفياتية السابقة. كما أعلنت موسكو معارضتها لإقتراح واشنطن بأن تستخدم القوات الأميركية قواعد في دول آسيا الوسطى، لشن غارات ضد أهداف لتنظيمات جهادية في أفغانستان بعد الإنسحاب.
إعتمدت روسيا منذ السيطرة الثانية لطالبان على أفغانستان لغة هادئة حيال الحركة. وكان لافتاً للإنتباه، أنها كانت من بين أربع دول فقط لم تقفل سفاراتها في كابول في خضم الفوضى التي رافقت الإنسحاب الأميركي. ولا تزال الصحافة الغربية تتندر بتعليق السفير الروسي لدى أفغانستان ديمتري جيرنوف الذي قال فيه :”اليوم باتت العاصمة الأفغانية أكثر أماناً مما كانت عليه” في ظل حكومة الرئيس السابق أشرف غاني. وزاد عليه زميله لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا عندما تحدث عن مستقبل مشرق من الوفاق الوطني وعودة النظام إلى الشوارع “ووضع حد لسنوات كثيرة من إراقة الدماء”. وبدأت وكالة “تاس” الروسية الرسمية بإستخدام عبارة “حركة طالبان الراديكالية” بدلاً من عبارة “حركة طالبان الإرهابية” التي درجت عليها في الأعوام الماضية.
ما تحاول روسيا فعله هو جعل “صيغة موسكو” مرجعية دولية لأفغانستان في مرحلة ما بعد الإنسحاب الأميركي، فضلاً عن ضمان المصالح الروسية في آسيا الوسطى، وذلك من طريق ضمان الإستقرار في هذه المنطقة. وهذا لن يتحقق في حال غرقت أفغانستان في حرب أهلية جديدة
وفي الواقع، توّجت “صيغة موسكو” التي تعتبر أوسع منبر دولي تطل منه طالبان منذ عودتها إلى الحكم، سلسلة من اللقاءات التي جمعت مسؤولين روس وآخرين من الحركة الأفغانية المتشددة منذ عام 2018. ولا بد من التوقف عند إرسال طالبان نائب رئيس الوزراء في حكومتها عبد السلام حنفي إلى موسكو، بينما بدأ يخبو بريق نائب رئيس الوزراء الآخر الملا عبد الغني برادر، شريك المبعوث الأميركي السابق زالماي خليل زاد في إتفاق 2020.
وقبل ساعات من إنعقاد “صيغة موسكو” التي ضمت ممثلين أيضاً عن الصين وباكستان وإيران والهند وخمس دول من آسيا الوسطى، كان خليل زاد يقدم إستقالته، مُقرّاً بإخفاق مسعاه للتأسيس لحكومة مختلطة من النظام السابق وطالبان، وفق ما توخاه من إتفاق الدوحة في شباط/فبراير 2020 خلال رئاسة دونالد ترامب، أي أنه أخفق في تسويق الإنسحاب الأميركي مقابل حكومة “وحدة وطنية” تشارك فيها طالبان. لكن الأحداث جرت عكس ما يشتهي وإنتهى الوجود العسكري الأميركي الذي إستمر عشرين عاماً في أفغانستان، بإنسحاب مذل وبإستيلاء الحركة على كامل البلاد، فكان لا بد من الإستقالة.
ومنذ أسابيع تجري روسيا والصين وباكستان في سياق ما عرف بـ”الترويكا” مشاورات مكثفة حول أفغانستان، وأعلنت واشنطن أنها مستعدة للإنضمام إلى إجتماع “الترويكا بلس” في موسكو، بعدما تلقت دعوة للحضور. ومع أنها غابت عن الإجتماع فإنها أشادت به، وعزت عدم حضورها لأسباب “لوجستية” فرضتها إستقالة زالماي خليل زاد وعدم تمكن المبعوث الجديد توماس ويست من الحضور بسبب ضيق الوقت، على أن يزور موسكو الشهر المقبل.
ودور الوسيط الذي تضطلع به موسكو بين طالبان والعالم، لا يزال مقترناً بشروط قاسية على الحركة تلبيتها قبل حدوث تطبيع حقيقي معها. ولخص وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هذه الشروط بالآتي: أن تعمد الحركة إلى تأليف حكومة شاملة إتنياً وطائفياً، وأن تثبت أنها شريك جدي في محاربة تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، وأن لا تسمح لأي من هذين التنظيمين بتنفيذ هجمات في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأن تعمل على تحسين حقوق الإنسان.
وفي الوقت نفسه، لا تنسى موسكو تذكير الغرب بمسؤوليته عن تدمير أفغانستان، وتالياً يتعين على الدول التي إحتلت أفغانستان في السنوات العشرين الماضية أن تساهم في مؤتمر لإعادة الإعمار تعمل روسيا على عقده في الأشهر المقبلة.
وفي خطوة إنفتاح على الحركة لا تصل إلى حد الإعتراف الروسي الرسمي بنظامها، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الكرملين يدرس شطب طالبان من اللائحة الروسية للتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن عزم موسكو إرسال مساعدات إنسانية عاجلة إلى أفغانستان. وفي السياق، وجه بوتين دعوة إلى الدول الغربية للإفراج عن الودائع الأفغانية المجمدة، من أجل تسهيل حياة الأفغان العاديين.
ما تحاول روسيا فعله هو جعل “صيغة موسكو” مرجعية دولية لأفغانستان في مرحلة ما بعد الإنسحاب الأميركي، فضلاً عن ضمان المصالح الروسية في آسيا الوسطى، وذلك من طريق ضمان الإستقرار في هذه المنطقة. وهذا لن يتحقق في حال غرقت أفغانستان في حرب أهلية جديدة وشهدت موجات نزوح جديدة إلى الدول المجاورة، مع ما سيتخلل ذلك من إحتمال تسلل جماعات إرهابية تحت غطاء النزوح.