لا تناقض بين استمرار حرب غزة.. والانتخابات الأميركية!

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عادت الأسئلة الأولى التي رافقت المشروع الصهيوني منذ أوائل القرن الماضي، إلى بدايتها، كأنها تُطرح للمرة الأولى، وكأن هذا المشروع في أوله. 

كل الأسئلة التي جرى طرحها على مدى الأشهر الثمانية الماضية يختصرها سؤالان: لماذا هذا الدعم الغربي المفتوح لإسرائيل؟ وهل يمكن أن يطرأ تعديل على موقف الغرب، بحيث ينقلب على حليفته أو يذهب إلى اتخاذ موقف متوازن حيال قضية رافقت القرن العشرين بأكمله واستهلكت ربع القرن الحالي.

ليس من العجلة بشيء حين يقال بأن أي تغيير في المواقف الغربية وعلى رأسها موقف الولايات المتحدة لن يشهد تبديلاً أو يعرف تغييراً، لسبب معروف ومعلوم، وهو أن إسرائيل جزءٌ من النظام العالمي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كانت ارتسمت معالمه في الحرب الأولى، و فوق ذلك، بل لعله الأهم أن إسرائيل أو “الدولة اليهودية” جزء من النظام المعرفي ـ الثقافي الذي نشأ في الغرب في القرون الثلاثة الفائتة.

عادة، وحين يجري الحديث عن النظام العالمي، تتوجه الأنظار والأبصار إلى عنوانين شبه محصورين بهذا النظام: قوة الحضور السياسي وقوة الفعل العسكري، ولذلك غالباً ما يتم التوقف عند “مؤتمر يالطا” عام 1945 الذي اقتسم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وعند “مؤتمر الصلح” في باريس عام 1919 الذي سعى إلى صوغ خرائط العالم إثر الحرب الأولى.

وبناء على ذلك يستقر القول على هذا الوجه:

قبيل نهاية الحرب الأولى صدر “وعد بلفور”.

بُعيد الحرب الثانية صدر قرار تقسيم فلسطين.

كان “الوعد” تعبيراً عن منتوج لنظام قيد التبلور.

وكان “القرار” تعبيراً عن منتوج لنظام كان قد تبلور.

ولكن؛ كيف يُمكن أن نُفسّر صدور كتاب تيودور هرتزل “الدولة اليهودية” عام 1896 وبعده انعقاد “مؤتمر بازل” بسنة واحدة؟

أكثر من ذلك كيف نُفسّر تلك الكتب الجدلية حول “المسألة اليهودية” أو الداعية لإقامة الدولة اليهودية التي صدرت في القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين؟

الإجابة عن هذا السؤال، تستدعي العودة إلى ما قبل نشوء النظام العالمي إثر الحرب الأولى وما تبعه من إعادة صياغة لهذا النظام في الحرب الثانية، للإطلالة على كثافة الأفكار الأوروبية والغربية التي استغرقها النقاش حول اليهود واليهودية، والتي أدت إلى انخراط فلاسفة ومفكرين أوروبيين بارزين في ذاك النقاش وإصدارهم عشرات الكتب الدائرة في فلك “المسألة اليهودية”، ومن تلك الكتب:

ـ الراهب الألماني مارتن لوثر المولود عام 1483 ومؤسس المذهب البروتستانتي يتقدم قائمة الجدال، الموجب والسالب، حول اليهودية في الغرب الحديث، فمقالته “عيسى وُلد يهودياً” جعلت التوراة “مقدمة للإنجيل” وفاتحة مصالحة مع المسيحية الغربية، وبرغم انقلاب لوثر في سنواته الأخيرة (ت:1546) على هذه المقالة، وذهابه إلى سلسلة مقالات مجموعة في “اليهود وأكاذيبهم” فقد أدى انتقاله إلى مرحلة جديدة، لإنقسام حول آرائه، فمذهب أخذ بالمقالة الأولى التي تأسّست من روحها ما يُعرف بـ”المسيحية الصهيونية” ولم يعترف بالثانية، ومذهب آخر دحض ما قبله، وما زال الخلاف قائماً.

ـ الأديب الإنكليزي وليم شكسبير وضع مسرحيته الشهيرة “تاجر البندقية” عام 1600 وهي من المسرحيات الخالدات ولا داعي للتعريف بها.

ـ الألماني برونو باور، كان في طليعة من ناقشوا الموضوع اليهودي في النصف الأول من القرن التاسع عشر من خلال كتابه “المسألة اليهودية” عام 1843 وفيه يقول “حين يريد اليهودي التحرر من الدولة المسيحية فإنه يطالب بأن تتخلى الدولة المسيحية عن حكمها الديني المسبق، فهل يتخلى اليهودي عن حكمه الديني المسبق؟ أيكون من حقه أن يطلب من غيره أن يتخلى عن الدين؟ وهل يستطيع اليهودي أن ينعتق من دينه”؟

إذا كان ثمة ضغط أميركي ـ غربي على إسرائيل، فعلى الأرجح أنه مرتبط حصراً بالحؤول دون حرب إقليمية يريدها بنيامين نتنياهو ولا يريدها الأميركيون وحلفاؤهم في أوروبا، وأما حرب غزة، فلا مؤشر إلى وجود ملامح ضغط غربية طالما أنها لا تنذر بحرب واسعة

ـ الحاخام يهودا القلعي (1798 ـ 1878) الذي وُلد في سراييفو وعاش في بلغراد ودرس في القدس، سيجول على الدول الأوروبية ويحثها على تعبيد الطريق لهجرة اليهود إلى فلسطين، وقد اتصل باللورد مونتفيوري لإقامة كيان يهودي في فلسطين بالتعاون مع محمد علي باشا، ومن كتبه “إسمعي يا إسرائيل” و”السلام لأورشاليم” و”بنت صهيون” و”دعوة إلى الشعب اليهودي“.

-الفيلسوف كارل ماركس سيرد على برونو باور عام 1844 في كتاب يحمل العنوان نفسه “المسألة اليهودية” ومن نصوصه “ان اليهودية حلت في المسيحية من خلال المجتمع البرجوازي والولايات المتحدة قمة هذا الحلول”.

ـ بعد باور وماركس وضع الألماني موشي هيس كتاب “روما والقدس” عام 1862 وفي سيرته الذاتية أنه صديق فريدريك انجلز وكارل ماركس، وفي هذا الكتاب دعا هيس إلى عودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس دولة اشتراكية.

ـ الأديب الروسي فيدور دوستويفسكي أصدر كتابه “المسألة اليهودية” عام 1877.

ـ الروسي ليون بنسكر أصدر كتابه “التحرر الذاتي” عام 1882.

ـ البريطاني لورانس أوليفانت جال في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين عام 1880 ووضع كتابه المعروف بـ”أرض جلعاد” عام 1889، وهو الذي تبنى مشروع “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” الذي أوحاه إليه اللورد آشلي، وقد عاش آخر أيامه في مدينة حيفا برفقة مساعده اليهودي، نافتالي زامبير مؤلف نشيد “الأمل” المعروف بـ”هاتكفاه “.

ـ القائد الشيوعي فلاديمير إيليتش أوليانوف المعروف بلينين وفي كتابه “المختارات“، رأى أن حل “المسألة اليهودية” يجب أن يكون “متدرجاً ونوعياً ولا يسقط في التجريد العقيم الذي لا يرى من طريق إلى الشمولية غير نفي الخصوصية”.

هذا في الجانب الفكري والتأليفي، وأما في الجانب السياسي والعملي، فمن المهم الوقوف عند المفاصل الزمنية التالية:

ـ فرنسا كانت الدولة الأولى التي دعت إلى إنشاء كيان يهودي في فلسطين، حين حث نابوليون بونابرت (1798) أثناء حملته على مصر يهود الشرق للإلتفاف حوله والعودة إلى فلسطين و”الأرض الموعودة”، كان بونابرت يهدف إلى نيل رضا يهود فرنسا أولاً، ويهود روسيا أيضاً، واستراتيجيته كانت قائمة على مواجهة ثلاث امبراطوريات: العثمانية والروسية والبريطانية.

إقرأ على موقع 180  مايا زيادة، "يا امْرأَةُ، عَظيمٌ إِيمانُكِ.. لِيَكُنْ لَكِ كما تُرِيدينَ"!

بعد سقوط المشروع البونابرتي في مصر وبلاد الشام، وبعد ذلك في روسيا، تسلمت بريطانيا راية المشروع، فرأت في الأقلية اليهودية طائفة يمكن الإعتماد عليها، فافتتحت قنصلية لها في القدس عام 1839 وأعطى وزير الخارجية البريطانية اللورد بالمرستون تعليمات للقنصل الإنكليزي بضرورة “حماية اليهود وضمان سلامتهم وممتلكاتهم” ودعا إلى “إقامة اتحاد يهودي في فلسطين التوراتية”، وبعد ذلك أنشأت الملكة فيكتوريا “صندوق استكشاف فلسطين” عام 1865، فيما أصدر رئيس الوزراء البريطاني دزرائيلي مذكرة عام 1877 دعا فيها إلى حل “المسألة اليهودية” بإقامة دولة لليهود في فلسطين تحت حماية التاج الإنكليزي.

وفي مرحلة متزامنة، أطل “بيرق” ألمانيا، ففي عام 1835 نشر الجنرال مولتكه كتابه “ألمانيا وفلسطين” ويدعو مضمونه إلى إقامة “مملكة القدس” وتحويل فلسطين إلى مركز متقدم للحضارة الأوروبية، وعلى ما يقول إن إقامة هذا المركز يحول دون اندماج مصر وبلاد الشام، وأعقب ذلك إنشاء مستوطنات برعاية ألمانية فتحت أبوابها لليهود، وعلى ما يكاد يجمع دارسو تلك المرحلة، أن بسمارك رائد الوحدة الألمانية لم يكن بعيداً عن مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين.

ما الذي يُراد قوله؟

المسألة اليهودية” عنصر رئيسي من عناصر التفكير الأوروبي بأبعاده السياسية والدينية والثقافية والقانونية، ولعل النظر في القائمة التالية يعطي فكرة عن التدرج الغربي بالتفاعل الحقوقي والمدني والسياسي مع يهود أوروبا:

ـ هولندا منذ عام 1656 اعتبرت اليهود مواطنين متساوين مع غيرهم. 

ـ فرنسا منحت منذ عام 1791 الحقوق المدنية لليهود. 

ـ ألمانيا أصدرت قانوناً عام 1812 ساوت اليهود مع كل مواطنيها. 

ـ الولايات المتحدة أعطت عام 1830 الديانة اليهودية المركز نفسه الذي للمسيحية. 

ـ الدول الإسكندنافية اعترفت بالمساواة المدنية مع اليهود عام 1849. 

ـ بريطانيا ألغت عام 1868 القيود المفروضة على اليهود.

ـ إيطاليا اعترفت عام 1814 بالحقوق المدنية لليهود ثم ألغت هذه الحقوق ثم أحيتها عام . 1870. 

ـ سويسرا ألغت كل القيود عن اليهود عام 1874.

***

بعد هذا العرض التاريخي ـ الثقافي، يتوجب العودة إلى الحديث عن النظام العالمي السائد وحمايته لإسرائيل، إذ من الخطأ حصر تلك الحماية بعاملين اثنين، الثقل السياسي والقوة العسكرية، فالأمر أبعد من ذلك، ومن العوامل المؤسسة لهذا النظام والدافعة لحماية اسرائيل، العامل التاريخي في المصالحة الغربية ـ اليهودية واعتبار اليهود غربيين، ومن هنا القول إن اسرائيل دولة غربية، كما أن العامل الديني الكامن في المصالحة بين اليهودية والمسيحية الغربية لا يمكن التغاضي عنه، كما أن اليهود جزء من الوعي القومي الغربي وجزء من طموحاته التوسعية والإستعمارية، وهم جزء من حراكه الفلسفي والفكري والأدبي الحديث، ويشكلون جزءاً من نهضته الإقتصادية وقوته المالية طوال القرنين الماضيين.

باختصار؛ اليهود ودولة الإحتلال هم أحد أطياف الغرب والدولة اليهودية هي نتاج لهذا الطيف، ولذلك ليس غريباً أن تتسابق الدول الغربية منذ أواخر القرن الثامن عشر لطرح مشروع خلاصي لليهود ابتداء من فرنسا نابوليون بونابرت ثم بريطانيا ثم ألمانيا ثم الولايات المتحدة.

إن هذه الدول نفسها هي التي رعت “وعد بلفور” عام 1917 ثم قرار تقسيم فلسطين عام 1981 ثم “العدوان الثلاثي” على مصر عام 1956 ثم حرب حزيران/يونيو 1967 ثم مساندة سياسة التوسع الإسرائيلي والاستيطان ثم التغافل عن عدم تطبيق اسرائيل لأي قرار دولي، وهذه الدول نفسها هي التي تسابقت قياداتها إلى إسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى” وإلى توفير المظلة السياسية والمالية والدبلوماسية والعسكرية للعدوان المستمر على قطاع غزة.

ولذلك يجانب التفاؤل الواقع، حين يُبنى على رهان يطرأ على المواقف الغربية لتضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها على قطاع غزة، وكذلك فالرهان على الحراك الطالبي في الولايات المتحدة أو في غيرها يجانب الواقع أيضاً، ومن غير المنتظر أن يؤثر هذا الحراك على صناعة القرار في واشنطن، ومن السوابق المتشابهات في هذا المجال، أن الحراك المدني في الولايات المتحدة ضد حرب فيتنام والذي انطلق عام 1968 لم يترك تأثيراته على السياسة الأميركية، فالأميركيون انسحبوا من فيتنام بعد سنوات من انطلاق الحراك المدني الأميركي.

وأما “مذكرة” المحكمة الجنائية الدولية القاضية بإعتقال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت و”أمر” محكمة العدل الدولية بإيقاف الحرب على محافظة رفح، لا شك أنها مهمة معنوياً، ولكن لا تأثير عملياً لها، وهي أشبه بالقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن، فهي تصدر ولكنها تبقى من دون تنفيذ.

***

أخيراً؛ يبقى سؤال:هل يمكن أن نشهد ضغطاص أميركياً على بنيامين نتنياهو في شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2024 جراء دخول الولايات المتحدة في حمأة السباق الرئاسي؟

التقدير الأكثر احتمالاً، ينحو إلى القول بإنعدام وجود رابط بين الضغط المأمول والإنتخابات الأميركية، فالأميركيون خاضوا عدة انتخابات رئاسية في أوقات كانوا يخوضون فيها حروباً معولمة، ومنها حرب عام 1991 حين أخرجوا الجيش العراقي من الكويت في عهد الرئيس جورج بوش الأب، وفي حرب فيتنام ذهبوا إلى صناديق الإقتراع الرئاسية مرات عدة، وذلك منذ تورط الرئيس جون كينيدي عام 1961 في هذه الحرب وحتى انسحاب الجيوش الأميركية من فيتنام عام 1973.

إذا كان ثمة ضغط أميركي ـ غربي على إسرائيل، فعلى الأرجح أنه مرتبط حصراً بالحؤول دون حرب إقليمية يريدها بنيامين نتنياهو ولا يريدها الأميركيون وحلفاؤهم في أوروبا، وأما حرب غزة، فلا مؤشر إلى وجود ملامح ضغط غربية طالما أنها لا تنذر بحرب واسعة.

متى يتوقف العدوان الإسرائيلي إذاً؟

يتوقف العدوان في حالات ثلاث: نُذر حرب إقليمية، اتساع التشققات والتصدعات الداخلية في اسرائيل.. وصمود المقاومة الفلسطينية.

هل يوجد حالة رابعة؟

نعم.. إذا وُجدت سياسة الحد الأدنى من “الشدة والغلاظة” العربية.

لكن أين يوجد هؤلاء العرب “الغليظون”؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ماذا لو إنتصر بوتين في أوكرانيا؟