السودان.. شرعية التراضي أم شرعية الثورة؟

كان فض الشراكة بالقوة بين العسكريين والمدنيين تعبيراً خشناً عن أزمة سودانية مستحكمة تداعياتها منذرة على مستقبل البلد، سلامته ووحدته وقدرته على مواجهة أزماته المتفاقمة.

بأي ترجمة سياسية فإن فض الشراكة، بالطريقة التي جرت بها الحوادث والتداعيات التى أعقبتها، وضع مستقبل الثورة السودانية ومشروعها في طلب الحرية والعدالة والسلام بين قوسين كبيرين.
إنها أزمة شرعية مستحكمة تطل على المشهد السوداني المأزوم.
لا من الممكن إعادة إنتاج الشراكة بين المكونين العسكري والمدني، ولا عودة الحكومة المدنية التي كان يترأسها «عبدالله حمدوك»، قد يعود بسيناريو أو آخر لكن معادلة الشراكة في الحكم تقوضت إلى الأبد.
ولا بوسع السلطة الجديدة أن تؤسس لأوضاع مستقرة في أى مدى منظور تكتسب شرعيتها من القبول الشعبي العام، أو تسويغ إجراءاتها الخشنة باسم تصحيح مسار الثورة!
الشراكة مسألة شرعية، كما هي مسألة ثورة، فإذا ما انفضت بقوة السلاح يصعب الحديث عن أي شرعية، أو أي انتساب لمشروع الثورة نفسها.
بانفضاض الشراكة تقوضت شرعية الحكم نفسه، دون أن يكون ممكنا تأسيس شرعية جديدة بأية ذريعة شبه مقنعة.
القوة لا تؤسس لأي شرعية إذا كان الرأي العام في أغلبه يناهض إجراءاتها ويراها انقلاباً متكامل الأركان، أو «كامل الدسم» بالتعبير السوداني الشائع، وتمزيقا للوثيقة الدستورية التي أسست لشراكة الحكم بين المكونين المدني والعسكري.
حل مؤسسات الحكم الانتقالي، الحكومة ومجلس السيادة نفسه الذي كان يترأسه الفريق «عبدالفتاح البرهان»، من تجليات أزمة الشرعية المستحكمة، فقد أصدر قراراته باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة السودانية، لا رأسا للدولة وفق الصيغة الشرعية السابقة!
تجلت أزمة الشرعية مرة ثانية وثالثة في فرض الطوارئ وعزل حكام الولايات واعتقال أعداد كبيرة من الوزراء والمسئولين والناشطين المدنيين بنفس الصفة.

لم تكن شرعية التراضي هى نفس شرعية الثورة، لكنها كانت الحل الوسط الممكن. أوحت المقدمات المبكرة بالصدامات المحتملة. من يدير المرحلة الانتقالية؟ أو وفق أي آليات سوف ترتب الأوضاع الجديدة؟

لم يكن إطاحة الحكومة المدنية عملا مفاجئا، أو خارج دائرة التوقعات، كان كل شيء يشير إلى صدام وشيك وانقلاب محتمل تتواتر مقدماته في الأفق السياسى المأزوم.
في أعقاب إطاحة الرئيس السابق «عمر البشير» تأسست شراكة حكم انتقالي بين المدنيين والعسكريين فرضتها توازنات القوة بأكثر من الاختيار الحر.
لم يكن ممكنا بناء نظام عسكري جديد بعد إطاحة حكم «البشير» ولا كان بمقدور القوى المدنية أن تتطلع للإمساك بمقادير السلطة بمفردها.
تأسست «شرعية التراضي» بين المكونين العسكري والمدني، التى لخصت أهدافها ومؤسساتها في وثيقة دستورية استغرقت وقتا طويلا حتى الاتفاق على أدق تفاصيلها.
لم تكن شرعية التراضي هى نفس شرعية الثورة، لكنها كانت الحل الوسط الممكن.
أوحت المقدمات المبكرة بالصدامات المحتملة.
من يدير المرحلة الانتقالية؟ أو وفق أي آليات سوف ترتب الأوضاع الجديدة؟
كان ذلك موضوع صراع بين مكوني السلطة أخذ بالوقت يطرح نفسه على السجال العام حتى وصل إلى فض الشراكة بالقوة.
بتعبير الفريق «البرهان»، فإن الإجراءات الاستثنائية الخشنة التي اتخذها استهدفت تصحيح مسار الثورة حتى الوصول إلى انتخابات عامة منتصف (2023) تنقل بعدها السلطة إلى المدنيين.
وبتعبير منسوب لرئيس الحكومة «حمدوك» – الذى تم وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله بعدما احتجز مع زوجته في بيت «البرهان» وتحت رعايته كما أعلن بنفسه ثم افرج عنه لاحقا- فإنه انقلاب عسكري متكامل الأركان وتمزيق للوثيقة الدستورية.
كان لافتا أن أغلب المعالجات الغربية، التى أدانت إطاحة الحكومة المدنية ولوحت بالعقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية، اعتبرت في البداية ما جرى «محاولة انقلاب»، لا وصفته بالانقلاب ولا برأته من ذلك الاتهام، انتظارا لما قد تسفر عنه التفاعلات في السودان من حقائق وحسابات.
هناك طاقة تحمل للنظام الجديد أمام الضغوطات الدولية، لكن الوضع الداخلي هو الحاسم في تقرير مسار الحوادث.
لم تكن ردة الفعل الشعبية الغاضبة على إطاحة الحكومة المدنية تعبيرا عن حالة رضا عام على أدائها ولا عن مدى تأثير «قوى الحرية والتغيير» التي حملت شعلة الثورة، بقدر ما كان تعبيرا عن رفض العودة إلى الوراء وإلغاء فعل الثورة نفسه.

رغم تجريف الحياة السياسية على مدى ثلاثين سنة من حكم «عمر البشير» نجحت ثورة كانون الأول/ديسمبر في بلورة قيادة شبه موحدة لها برنامج معلن يطلق عليه «إعلان قوى الحرية والتغيير»، غير أنه لم يكن ممكنا تجنب انشقاقات القوى المدنية بضغط الحوادث، أو بمغانم السلطة.
هذه لعبة قديمة مكررة جرى توظيفها في الحوادث الأخيرة لضرب مشروع الثورة نفسه.

في فراغ الشرعية يتبدى الآن رهانان متصادمان، الأول ــ رهان السلطة الجديدة على امتصاص صدمة فض الشراكة بتعهدات الالتزام باتفاقية السلام في جوبا وإعادة تشكيل مجلس السيادة والحكومة المدنية، والثاني ــ رهان الشارع على النفس الطويل في المقاومة السلمية والعصيان المدني حتى يصبح مستحيلا أي استقرار للأوضاع الجديدة

لم تكن محض مصادفة المشاحنات السياسية، التي تصاعدت بين مكونى السلطة في الأسابيع الأخيرة، حيث حمّل المكون العسكري الحكومة المدنية مسئولية الفشل وأعفى نفسه من أي مسئولية معتبرا نفسه وصيا على الثورة، هكذا بالحرف، فيما تبارى المدنيون في التحذير من انقلاب عسكري محتمل حتى لا تنقل رئاسة مجلس السيادة، الذي يترأسها الفريق «البرهان» إلى شخصية مدنية بعد أسابيع قليلة حسب نص الوثيقة الدستورية.
ولا كانت محض مصادفة إضرابات شرق السودان التي شلت ميناء بورسودان ومنعت وصول الأدوية والأغذية إلى العاصمة الخرطوم، أو الاعتصامات التي جرت أمام مقرات الحكم بالتزامن مطالبة بإقالة الحكومة وتوسيع المشاركة فيها حتى لا تحتكرها أربعة أو خمسة أحزاب لا وزن شعبياً لها ــ كما قيل وتردد.
كان ذلك كله استثمارا في الأزمات الكامنة، وفي الأخطاء المنسوبة إلى حكومة «حمدوك».
ما هو حقيقي في الأزمات المعلنة كان تعبيرا عن أزمات حكم وثقة وأخطاء متراكمة، وما هو مصطنع بالتوظيف والتحريض كان انعكاسا لصراعات سلطة وصلت منتهاها بفض الشراكة بقوة التدخل العسكرى.
في ذروة الثورة عندما بدأ نظام «البشير» يترنح جرت دعوات واسعة للاعتصام أمام مقر القوات المسلحة الذي يدخل فى نطاق جغرافي واحد مع القصر الجمهورى.
ترددت نداءات وعلت أصوات تطالب الجيش بالتدخل لعزله.
تكفلت مجموعة «البشير» الأمنية والعسكرية بالموجة الأولى للانقلاب قطعا للطريق، عزلت رأسها وحاولت أن تحافظ على النظام بكل مكوناته ومصالحه، غير أن قوة الغضب الشعبي كانت أكبر مما طلبت، ثم حدثت موجة ثانية صعد بمقتضاها الفريق «البرهان» إلى رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، أعقبها عزل قيادات عسكرية عديدة وملاحقة رؤوس أمنية وسياسية ومالية تنتسب إلى عصر «البشير»، وقد أكسبه ذلك قدرا من الشعبية اصطدم بمخاوف استبدال مستبد بآخر ــ حسب تعبير «تجمع المهنيين» الذي أشعل الشرارة الأولى لثورة كانون الأول/ديسمبر.
بعد وقت قصير بدأت تتضح ملامح الصراع على المستقبل السوداني.
نشبت مساجلات علنية تؤذن بصدامات محتملة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي حول المرحلة الانتقالية، التي تتطلب توافقا حول المجلس السيادي الانتقالي ونسب تمثيل العسكريين والمدنيين فيه.
طرح السؤال نفسه مبكرا: لمن القرار الأخير في تشكيل حكومة كفاءات مدنية، إقرارها وعزلها، وفي تشكيل مجلس تشريعي بكامل الصلاحيات؟
الجانبان المدني والعسكري أكدا على الشراكة الكاملة، غير أن كلاهما كان له مفهوم مختلف استمد منطقه من إرث التاريخ.
بقوة التاريخ الماثل خضع السودان منذ استقلاله عام (1956) لما يشبه «الباب الدوار» بين الحكم المدني والانقلاب العسكري، الأول لم يؤسس لديمقراطية حديثة حيث هيمنت عليها القوى التقليدية والطائفية واستبعدت تقريبا القوى الحديثة.. والثاني أفضى إلى أزمات وحروب وانهيارات في مكانة السودان فضلا عما هو منسوب إلى تجاربه المختلفة من قمع مفرط.
في فراغ الشرعية يتبدى الآن رهانان متصادمان، الأول ــ رهان السلطة الجديدة على امتصاص صدمة فض الشراكة بتعهدات الالتزام باتفاقية السلام في جوبا وإعادة تشكيل مجلس السيادة والحكومة المدنية تمثيلا لكل الولايات السودانية دون أن يكون بمقدورها نفي انفرادها بالسلطة.. والثاني ــ رهان الشارع على النفس الطويل في المقاومة السلمية والعصيان المدني حتى يصبح مستحيلا أي استقرار للأوضاع الجديدة.
ما بين الرهانين المتصادمين تتأكد خطورة فراغ الشرعية وفداحة ما قد يلحق بالبلد الشقيق من مخاطر وجودية إذا لم تصحح أوضاعه بإرادة شعبه.

إقرأ على موقع 180  الدولة الدينية والعلمانية.. المستقبل لمن؟

(*) بالتزامن مع “الشروق“.

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إيران و"الطّوفان".. هل من مفاجأة؟ (3/3)