كانت اليابان قد حققت نهضتها الحديثة على يد الإمبراطور ميجى بعد منتصف القرن التاسع عشر بقليل، حيث تمكن الإمبراطور من تحديث بلاده فى المجالات الحضارية بمعايير وقتها؛ حيث النهضة التعليمية والثقافية بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية وتطوير المعمار وتقسيم المدن، فضلا عن الثورة الصناعية التى مكنت اليابان سريعا من التحديث العسكرى لتصبح القوة الآسيوية الأبرز مع دخول القرن العشرين متفوقة على جيوش دول كبرى مثل روسيا والصين!
كان التحديث السياسى ملازما لنظيريه العسكرى والاقتصادى فى بلاد الشمس المشرقة، فعرفت اليابان الانتخابات الشعبية المحدودة والبرلمان وكذلك الدستور الحديث مما جعل أركان الإمبراطورية اليابانية راسخة لتدعم مشروع اليابان الاستعمارى التوسعى فى آسيا. الحقيقة إن الإمبراطور هيروهيتو والذى عرف عصره بعصر «شوا» والذى يشير إلى فترة حكمه الطويلة منذ اعتلاء العرش فى ١٩٢٦ وحتى وفاته فى ١٩٨٩ ورغم مسئوليته المباشرة عن دخول اليابان الحرب العالمية الثانية، إلا أن رغبة اليابان التوسعية قد سبقته حيث تأججت فى عهد والده الإمبراطور «تايشو»!
تلقى هيروهيتو فى صغره تعليما مدنيا وعسكريا واطلع على النهضة الأوروبية حتى من قبل توليه الحكم بشكل رسمى، كذلك فحينما كان القائم الفعلى بأعمال الإمبراطور منذ ١٩٢١ لمرض والده، فإن اليابان كانت بالفعل واحدة من أكبر القوى الاقتصادية وثالث قوة بحرية فى العالم، وسياسيا كانت اليابان واحدة من أربع دول فقط حصلت على العضوية الدائمة للمجلس التنفيذى لعصبة الأمم!
عمل هيروهيتو أثناء ولايته للعهد وكذلك فى فترة حكمه الفعلية وقت مرض والده على استمرار سياسة اليابان الخارجية المنحازة للحلفاء فى الحرب العالمية الأولى (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا) فوقع معهم بالفعل اتفاقية رباعية قضت بالحفاظ على التموضع فى المحيط الهادى، كذلك فقد وقع اتفاقية خماسية لتحديد القوات البحرية مع الدول السابقة بالإضافة إلى إيطاليا فيما ظهر أنها سياسة ملاينة للحلفاء فى أمريكا وأوروبا! إلا أنه بعد تولى هيروهيتو السلطة بشكل رسمى فإن عدة تغيرات طرأت على سياسة اليابان الخارجية دفعتها إلى التنصل من تحالفاتها والدخول فى مغامرة دولية جديدة بالتحالف مع ألمانيا وإيطاليا مع نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، لكن ما هى هذه التغيرات؟
***
برغم أن هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية دفعت هتلر إلى الانتحار وتسببت فى إعدام موسيلينى رميا بالرصاص، إلا أن الإمبراطور هيروهيتو كان الأكثر حظا رغم ارتكاب قوات جيشه المجازر، حيث بقى فى السلطة بشكل رمزى حتى وفاته بشكل طبيعى عام ١٩٨٩
تماماً مثلما حدث فى ألمانيا، عانت اليابان من حالة ركود اقتصادى فى النصف الثانى من عشرينيات القرن الماضى، وارتفعت معدلات البطالة وانتشر العنف السياسى وتزايدت محاولات الاغتيال السياسى الذى تعرض له الإمبراطور نفسه وعدد من رؤساء وزرائه، وكذلك فقد انتشرت الجماعات الشيوعية اليابانية التى كانت تسعى على غرار الثورة الروسية إلى إنهاء الحكم الإمبراطورى فى البلاد، بل تفاقم الأمر حينما حاولت عناصر من الجيش الإمبراطورى الانقلاب على نظام الحكم فى البلاد، فما كان من هيروهيتو إلا اتباع نفس سياسة النازى، حيث اعتمد على التصنيع العسكرى لمواجهة البطالة، وعمد إلى إرساء ثقافة شمولية ممجدة له باعتباره مقدسا فى مناهج التعليم ووسائل الإعلام، كما أصبح يشرف بنفسه على قيادة الجيش اليابانى وكانت واحدة من أهم استراتيجياته فى الإبقاء على الجيش موحدا وتابعا له هو تقريب العناصر شديدة الولاء له من قيادات الجيش وإطلاق يدهم فى اقتصاد البلاد وفى السيطرة على الحكومة والبرلمان معا ثم عمد إلى اجتياح الصين لطرد النفوذ الغربى من آسيا وجعل الأخيرة إمبراطورية يابانية خالصة!
***
بعد أن كانت اليابان قد ضمت كوريا بالفعل فى ١٩١٠، قامت باجتياح الصين فى ١٩٣٧ وارتكب الجيش اليابانى أفظع جرائم الحروب فى الصين ولعل أبرز مذبحتين ارتكبهما بحق الصين هما مذبحتا «نانجين» و«ووهان»، حيث قُتل فى المذبحة الأولى ما يقرب من ٣٠٠ ألف صينى معظمهم من المدنيين فى عمليات إعدام جماعى، وفى الثانية رصد الباحثون استخدام الجيش اليابانى للأسلحة الكيماوية والغاز السام فيما يزيد على ٣٥٠ مرة! فى كل هذه الفظائع كان الإمبراطور اليابانى مسئولا مباشرا عن هذه المذابح حيث أثبتت التحقيقات لاحقا عدم معارضته لأى منها وأنها جميعا إن لم ترتكب بأوامر مباشرة منه فقد كان على علم تام بها!
وهكذا تمت عسكرة الدولة اليابانية بالكامل وخسرت اليابان تحالفاتها مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وأصبحت تتقرب تدريجيا من ألمانيا وإيطاليا حتى وقعت الدول الثلاث تحالفا رسميا فى ١٩٤٠ يقضى بالتنسيق العسكرى وإنشاء لجنة عليا تضم عسكريين ودبلوماسيين من الدول الثلاث فى كل عاصمة منهم، وقد انضمت يوغسلافيا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا وكذلك بلغاريا لهذا الحلف لاحقا!
بيد أن الخطوة الأهم نحو اشتراك اليابان الفعلى فى الحرب العالمية الثانية كان هجوم الجيش اليابانى على قواعد الولايات المتحدة العسكرية فى جزر هاواى فيما عرف بهجوم «بيرل هاربور» وهو هجوم مباغت سعت من خلاله اليابان إلى إيقاف زحف الولايات المتحدة فى المحيط الهادى وشمل الهجوم أيضا قواعد عسكرية للولايات المتحدة فى كل من جوام والفلبين، بالإضافة إلى الهجوم على القواعد العسكرية البريطانية فى كل من ماليزيا وسنغافورة بالإضافة إلى هونج كونج! وفى رد فعل سريع على ذلك الهجوم المدمر أعلنت الولايات المتحدة انتهاء حالة الحياد التى كانت عليها وانضمت بشكل رسمى إلى كل من بريطانيا وفرنسا ليتسع نطاق الحرب العالمية الثانية والتى استمرت حتى صيف عام ١٩٤٥ مخلفة مئات الآلاف من الضحايا على غرار الحرب العالمية الأولى!
وبرغم أن هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية دفعت هتلر إلى الانتحار وتسببت فى إعدام موسيلينى رميا بالرصاص، إلا أن الإمبراطور هيروهيتو كان الأكثر حظا رغم ارتكاب قوات جيشه المجازر، حيث بقى فى السلطة بشكل رمزى حتى وفاته بشكل طبيعى عام ١٩٨٩ ولذلك حديث لاحق.
– ملحوظة: بعض فقرات هذه المقالة اعتمدت على كتاب «حرب هيروهيتو: حرب المحيط الهادئ ١٩٤١ــ١٩٤٥» والمنشور بواسطة مكتبة نيويورك الحديثة فى عام ٢٠٠٣ للمؤرخ المتخصص بالشأن اليابانى فرانسيز بايك.
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“