قد تمتد الحرب لأوقات إضافية يصعب التكهن بها، أو قد يتسع مداها إلى أبعد مما هو متوقع ومنتظر، لكنها كأي مواجهات عسكرية تتوقف معاركها عندما تستنفد أسبابها ودواعيها.
طبيعة الحرب وأهدافها تحكم ما قد يحدث تاليا.
في ما هو معلن ومباشر فإن الأهداف الروسية تتلخص فى إنهاء أى احتمال لتمدد حلف «الناتو» إلى حدودها المباشرة، أو أن تتحول أوكرانيا، التى ينظر إليها على أنها جزء من التاريخ الروسى، أنشئت وأخذت طبيعتها الجغرافية المعاصرة فى العهد السوفييتى، إلى خنجر فى الخاصرة.
بصياغة أكثر جزما، حيادية أوكرانيا مسألة نهائية وشبه جزيرة القرم خارج أى نقاش وتفاوض محتمل.
سيناريو تمدد الحرب أقوى من وقفها فى الوقت الحاضر برغم الجهود الدبلوماسية، التى تأخذ الآن صيغا متعددة، أولها ــ المفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا على الحدود البيلاروسية، هذه مهامها الفعلية محدودة فى أمن النازحين من المدن المحاصرة.
وثانيها ــ مقاربات على مستوى القمة للتوصل إلى بعض التفاهمات، وهذه بدورها لا ترقى إلى مستوى التفاوض بقدر الحرص على إبقاء نوافذ الحوار مفتوحة، كما تؤكد موسكو وواشنطن.
وثالثها ــ دخول أطراف دولية عديدة على خط التوسط، كتركيا عضو «الناتو» التى تربطها تفاهمات استراتيجية مع موسكو، والصين القوة الاقتصادية العالمية الثانية شبه الحليفة مع موسكو، وفرنسا القيادة السياسية المفترضة للاتحاد الأوروبى، لكنها تظل فى نطاقها الحالى أقرب إلى اقترابات لا مبادرات.
عندما تتضح الحقائق على الأرض يصبح ممكنا الحوار المباشر بين واشنطن وموسكو، اللاعبان الرئيسيان فى الأزمة.
أن تنضم أو ألا تنضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى، هذه مسألة لا تدخل فى المطالب الروسية، حلف «الناتو» قضية أخرى.
الأمن القومى صلب ما يطلبه الكرملين.
وهذا مقياس النجاح والفشل فى الحصاد الأخير بعد أن تتوقف المدافع.
بالنظر إلى موازين القوى الحالية يصعب بأى تصور أن تتراجع موسكو خطوة واحدة في ما هدفت إليه، أيا كانت ضراوة العقوبات التى فرضت، أو قد تفرض عليها، إثر تدخلها العسكرى.
بقدر مماثل يصعب على الولايات المتحدة، والغرب معها، أن تتراجع عما تطلبه من أهداف، اختارت أوكرانيا ميدانا للمواجهة، استفزت روسيا فى أمنها القومى بعدما تنصلت من كل التفاهمات والاتفاقيات الموقعة منذ انتهاء الحرب الباردة من ألا يكون لـ«الناتو» موضع قدم على حدودها المباشرة.
هكذا تتحدد المعادلة الرئيسية فى الصراع: الأمن الروسى قضية وجود، إذا ما ضرب فى صميمه فإن روسيا نفسها تدخل فى أفول دور ووزن بالمعادلات الدولية
استنزاف الدور الروسى إلى أقصى درجة ممكنة فى عالم يتغير هو صلب الطلب الأمريكى حتى لا يكون ممكنا أن يكتسب وضع نقطة الارتكاز فى أى احتمال لإعادة بناء النظام الدولى الجديد.
هذا هو معيار النجاح والفشل فى الحصاد الأمريكى الأخير.
فى اللحظة الحالية لا يعتقد أى من الطرفين الدوليين المتنازعين أنه فى موقف ضعف، أو أنه خسر رهاناته.
بالنسبة للروس فإن موقفهم الميدانى أفضل بما لا يقاس، يحاصرون المدن دون اقتحامها خشية التورط فى حروب شوارع يصعب أن تكسبها الجيوش النظامية دون خسائر باهظة، ويفتحون فى المدن المحاصرة ممرات إنسانية لخروج المدنيين من مواقع القتال تفتح كلها تقريبا على روسيا، أو على حليفتها بيلاروسيا، على ذات النموذج الذى اتبعته فى سوريا.
وبالنسبة للغرب فإنه يدرك أن خسارته الميدانية شبه مؤكدة، لكنه يعمل على تمديد حرب استنزاف روسيا لأطول وقت ممكن، حتى يكون ممكنا إسقاطها من الداخل بالاستنزاف الاقتصادى المفرط على ما حدث سابقا للاتحاد السوفييتى فوق جبال أفغانستان.
هكذا تتحدد المعادلة الرئيسية فى الصراع: الأمن الروسى قضية وجود، إذا ما ضرب فى صميمه فإن روسيا نفسها تدخل فى أفول دور ووزن بالمعادلات الدولية.
لا هو دفاع غربى عن المبادئ الإنسانية رغم جدارتها ولا هو داخل فى أية ادعاءات ديمقراطية رغم استحقاقاتها.
إنه آخر ما يفكرون فيه والتجربة العربية ماثلة فى الأذهان.
الضحية الأولى فى ذلك الصراع: أوكرانيا نفسها، الذى صارح رئيسها فولوديمير زيلينسكي مجلس العموم البريطانى بكلمة عبر «الفيديو» بأن الغرب لم يف بتعهداته فى الدفاع عن بلاده.
كان ذلك استنتاجا خاطئا، فقد جرى توريطه بالكامل فى حرب ضحيتها بلاده، لم يكن ممكنا أن يفرض الغرب منطقة حظر جوى فوق كييف كما يطلب، وإلا فإنها الحرب العالمية الثالثة وتوريط لـ«الناتو» في ما لا يريده.
حسب الـ«CNN» تجرى الآن فى واشنطن مداولات ومناقشات أن يطلب من الرئيس الأوكرانى مغادرة كييف لإعلان حكومة فى المنفى مقرها المقترح بولندا.
ذلك التفكير يعمل على خلق وضع شرعى مناوئ، إذا ما سقطت العاصمة الأوكرانية، يحشد للاعتراف بها وتعبئ الحملات حولها لاستنزاف اللاعب الروسى.
نفس الهدف بوسيلة أخرى.
الأرجح أن تكسب روسيا الصراع على أوكرانيا بالنقاط، والعالم كله قد تتشكل فيه ملامح مختلفة لنظام دولى جديد سوف يأخذ وقتا حتى يعلن عن نفسه.
احتواء روسيا.. أم الصدام معها؟
كان ذلك هو السؤال الرئيسى بأعقاب الحرب الباردة.
فشل الاحتواء وأطل الصدام على المشهد الأوروبى.
هناك من يطرح الآن فى الغرب السؤال نفسه مجددا.
فى الوقت الراهن تعلو تدريجيا انتقادات حقيقية وحادة من داخل النخب الغربية على تفاقم الأزمة مع موسكو إلى هذا الحد.
كان مستلفتا أن أعدادا كبيرة من المثقفين الإيطاليين روعوا بمنع تدريس الأدب الروسى فى بعض الجامعات، خشية أن تنجرف بلادهم إلى مكارثية جديدة تصادر الفكر والإبداع والحضارة الإنسانية نفسها.
بضغط شعبى وثقافى ألغى القرار بأسرع من أى توقع.
كان عارا حقيقيا لطخ سمعة إيطاليا.
شىء من ذلك سوف يحدث فى المجالات الرياضية والفنية، التى تعرضت لممارسات من هذا النوع.
إنها سيولة سياسية فى النظام الدولى المتهالك تنبئ بأنه يكاد أن يستحيل منع تأسيس نظام جديد. إنها مسألة وقت
الكلفة الاقتصادية للحصار المالى والاقتصادى على روسيا لا يخصها وحدها، نحن أيضا سوف ندفع الثمن، والغرب لن يفلت من استحقاقاته.
كان القرار الذى أعلنه الرئيس الأمريكى «جو بايدن» بحظر الواردات النفطية الروسية تعبيرا عن أجواء التصعيد والتعبئة عند الحالة القصوى، لكنها عبرت فى الوقت نفسه عن تباينات عميقة وتشققات كامنة فى الحلف الذى يقف على رأسه.
لم تكن هناك مشكلة عند الولايات المتحدة فى مثل هذا القرار، فوارداتها النفطية الروسية محدودة ولا تؤثر عليها عكس بلدان أوروبية عديدة تعتمد بشكل أساسى عليه.
فى ذلك التباين اتيح لكل طرف أوروبى أن يتصرف وفق مصالحه بدعوى أنه فى المستقبل لا بد من العمل على بناء استراتيجية جديدة تتخفف نهائيا من الاعتماد على النفط والغاز الروسيين.
وإذا وضعنا فى الاعتبار ما اشارت إليه الصين من استعداد لشراء النفط الروسى فإننا سوف نكون أمام مشروع انقسام سياسى عالمى وليس اقتصاديا فقط.
قفزة أسعار النفط إلى مستويات قياسية سوف يهز الاقتصاد العالمى وحركة الأسواق فى الغرب نفسه ويضرب بقسوة عندنا.
فى محاولة لتخفيف الوطأة المتوقعة بدأت اتصالات أمريكية شبه معلنة وشبه متعثرة مع فنزويلا وإيران، وهما عدوتان تقليديتان لسياساتها، بالإضافة إلى دول الخليج للبحث فى مخارج الأزمة.
إنها سيولة سياسية فى النظام الدولى المتهالك تنبئ بأنه يكاد أن يستحيل منع تأسيس نظام جديد.
إنها مسألة وقت.
(*) بالتزامن مع “الشروق“