علمت وكالات المخابرات الأميركية مؤخراً أن الصين كانت تبني سراً ما اشتبهت أنه منشأة عسكرية في أحد موانئ دولة الإمارات العربية المتحدة، أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفقاً لمسؤولين أميركيين رفيعي المستوى تحدثوا للصحيفة.
إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي شعرت بالقلق، حذَّرت الحكومة الإماراتية من أن الوجود العسكري الصيني في بلادها قد يهدد العلاقات الثنائية بين البلدين. وبعد جولات من الاجتماعات والزيارات من قبل مسؤولين أميركيين، توقفت أعمال البناء مؤخراً، وفقاً للمصادر ذاتها.
تتعلق النتائج الاستخباراتية والتحذيرات الأميركية بموقع عسكري في ميناء “خليفة” في أبو ظبي. وتُرجح المصادر أن حكومة الإمارات، التي تستضيف قاعدة عسكرية أميركية كبيرة؛ وتسعى لشراء طائرات مقاتلة وطائرات مسيرة أميركية متطورة، لم تكن على دراية بشأن الطابع العسكري للنشاط الصيني في الميناء.
تحدٍ صيني لواشنطن
تعكس جهود الصين، الرامية إلى تأسيس وترسيخ ما يعتقد المسؤولون الأميركيون أنه سيكون موطئ قدم عسكري صيني في الإمارات، التحديات التي تواجهها الإدارة الأميركية في محاولة التنافس مع بكين على مستوى العالم. وقد سعت إدارة بايدن للضغط من أجل إقناع الإماراتيين بوقف أعمال البناء في القاعدة.
الصين تؤسس لموطئ قدم عسكرية في الشرق الأوسط – الأرضية الأساسية للمنافسة المحتدمة مع الولايات المتحدة
ويبدو أن منطقة الشرق الأوسط، وعلى نحو متزايد، هي الأرضية الأساسية للمنافسة الأميركية-الصينية. فلطالما لعبت الولايات المتحدة، ولعقود من الزمن، دوراً مركزياً في المنطقة، حيث دعمت إنشاء دولة إسرائيل، ونشرت قوات في المنطقة، وتوسطت مؤخراً في “اتفاقيات أبراهام” التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض دول الخليج، بما في ذلك الإمارات. وقد واجهت بكين كل ذلك بصفقات تجارية ودبلوماسية اللقاحات، ويبدو أنها تتصرف الآن وكأنها تحاول توسيع وجودها العسكري.
بدأت الصين مسار نشاطها في الميناء الإماراتي، كما فعلت في محاولات أخرى، حيث استفادت من العلاقات التجارية لتأسيس مرساة لجيشها. وكانت بكين قد افتتحت أول موقع عسكري خارج الحدود في جيبوتي، الدولة الواقعة في شرق إفريقيا. كان هذا في عام 2017 لتسهيل العمليات حول المحيط الهندي وأفريقيا. وفي العام 2019 افتتحت ثاني موقع عسكري خارجي لها في كمبوديا، حيث وقَّعت اتفاقية سرّية للسماح لقواتها المسلحة باستخدام قاعدة بحرية. كذلك أنشأت الصين منشآت في أماكن أخرى، مثل ميناء تجاري في باكستان وسريلانكا يمكن استخدامها من قبل قواتها البحرية التي تتوسع بسرعة.
وفي السنوات الأخيرة، عزَّزت الصين علاقاتها الاقتصادية مع الإمارات التي أصبحت واحدة من أكبر شركائها التجاريين وكذلك أكبر مستهلك لنفط الخليج. في غضون ذلك، تبنت الإمارات البُنية التحتية للاتصالات لشركة “هواوي” الصينية Huawei Technologies Co.’s telecom، برغم تحذيرات مسؤولين غربيين كبار من أنها قد تصبح عُرضة للتجسس الصيني. لكن بكين تنفي هذه المزاعم.
حاويات “كوسكو” العملاقة
منذ حوالي عام، بدأ مسؤولون أميركيون يتلقون تقارير استخباراتية تتحدث عن وجود نشاط صيني “مشبوه” في ميناء “خليفة” بالقرب من أبو ظبي، وأن شركة الشحن الصينية العملاقة “كوسكو” COSCO أقامت وتدير الآن محطة حاويات تجارية، بحسب مسؤولين مطلعين على الأمر.
المعلومات الأولية كانت غير حاسمة، بحسب المصادر. لكن قبل أشهر، جعلت صور الأقمار الصناعية السرّية المسؤولين الأميركيين يستنتجون أن الصينيين كانوا يبنون نوعاً من المنشآت العسكرية في ميناء “خليفة”، الأمر الذي جعل إدارة جو بايدن تشعر بقلق حقيقي، وتبدأ جهوداً دبلوماسية مُكثفة لإقناع الإماراتيين بأن الموقع له غرض عسكري وأنه يجب إيقاف أعمال البناء فوراً.
الأميركيون غير متأكدين ما إذا كان الإماراتيون سيلتزمون بإبقاء الصين خارج بلادهم أم لا
وفي حين نفى المتحدث باسم السفارة الإماراتية في واشنطن أن تكون أبو ظبي على علم بهذا الأمر، مؤكداً في حديثة للصحيفة أن بلاده “لم تجر أي اتفاق أو محادثات مع الصينيين، ولم يكن لديها أي خطة أو نية لاستضافة قاعدة عسكرية صينية أو نقطة استيطانية من أي نوع على أراضيها”، رفض المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن التعليق ولم يجب على إستفسار الصحيفة.
من بين أدلة أخرى، كشفت وكالات المخابرات الأميركية مؤخراً عن حفرة ضخمة تكفي لاستيعاب مبنى متعدد الطوابق ولإقامة عوارض، حسبما قال مصدر مطلع للصحيفة. وفي مرحلة ما، تم تغطية موقع البناء. ورفض المعنيون تقديم أية تفاصيل حول طبيعة الموقع العسكري المشتبه به.
تهديد مباشر للمصالح الأميركية
تُعتبر الإمارات من أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فالبلدان تجمعهما علاقات تجارية وأمنية طويلة الأمد، ما يجعل توغل الصين يُشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأميركية.
والإمارات منتج رئيسي للنفط والغاز، وهي تستضيف قاعدة أساسية للقوات العسكرية الأميركية، وكانت قد تعاونت مع واشنطن أكثر من مرة في مسائل مكافحة الإرهاب، وكانت أول دولة عربية تُرسل قوات إلى أفغانستان بعد الغزو الأميركي في أواخر العام 2001. وفي الآونة الأخيرة، استضافت لاجئين من أفغانستان تم إجلاؤهم من كابول عقب انهيار الحكومة الأفغانية خلال الصيف الماضي.
بايدن يتدخل شخصياً
وكان الرئيس بايدن قد أعرب شخصياً مرتين لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان عن قلقه إزاء التواجد الصيني المتزايد في الإمارات، مرة في أيار/مايو ومرة أخرى في آب/أغسطس. وقال بايدن لمحمد بن زايد في أحد الأحاديث أن الولايات المتحدة تخشى أن يكون لنشاط الصين تأثير ضار على الشراكة بين بلديهما. وكان ردُ ولي عهد أبو ظبي على ذلك بأنه “سمع بشكل جيد وواضح” هذا التحذير، وفقاً لمسؤولين مطلعين على الأمر تحدثوا للصحيفة.
تركت تلك المحادثة المسؤولين الأميركيين غير متأكدين مما إذا كان الإماراتيون ملتزمين بإبقاء الصين خارج البلاد أم لا.
دول الخليج بدأت تُشكك في الالتزام الأميركي تجاه أمنها، والإمارات تسعى لإتفاق إستراتيجي مع واشنطن يضمن الدفاع عنها ضد أي هجوم
وقال أشخاص مطلعون على الأمر إن المسؤولين الأميركيين والإماراتيين أجروا مناقشات عديدة حول قضية ميناء “خليفة” في وقت سابق من هذا العام. ثم في أواخر شهر أيلول/سبتمبر، خلال زيارة إلى أبو ظبي، قدم مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان وكبير مساعدي الشرق الأوسط بريت ماكغورك عرضاً تفصيلياً للمخابرات الأميركية حول الموقع الصيني، حسب مصدر مطلع. وعاد ماكغورك هذا الأسبوع للقاء ولي العهد (الإماراتي). كما عمد مسؤولون أميركيون إلى تفتيش الموقع مؤخراً، ويعتقد أن أعمال البناء قد توقفت الآن.
أنور قرقاش: الإمارات عالقة في منتصف المواجهة بين واشنطن وبكين
ومن المحتمل أن تكون المخاوف بشأن التعاون الأمني الناشئ بين الصين والإمارات قد هدَّدت إتمام صفقة بقيمة 23 مليار دولار لبيع 50 طائرة مقاتلة أميركية من طراز F-35 من الجيل الخامس و18 طائرة من دون طيار من طراز Reaper وذخائر متطورة أخرى.
فالإمارات تسعى من جانبها للحصول على اتفاق إستراتيجي مع واشنطن من شأنه أن يضمن التزامها بالدفاع عنها إذا تعرضت لأي هجوم. ففي السنوات الأخيرة، بدأت دول الخليج العربي؛ التي ترى في إيران تهديداً لوجودها؛ تُشكك في مدى قوة الالتزام الأميركي تجاه أمنها. وقد تزايدت المخاوف الخليجية خصوصاً بعد الإنسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، وتوجيه واشنطن بوصلة اهتمامها إلى آسيا.
لكن يبدو أن وقف أعمال البناء في القاعدة العسكرية الصينية في الميناء الإماراتي قد أعاد العلاقة بين واشنطن بأبو ظبي إلى مسارها الصحيح. فقد صرحت نائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن الإقليمي، ميرا ريسنيك، يوم الثلاثاء الماضي، من دبي، بأن صفقة مقاتلات F-35 وMQ-9 Reaper بدون طيار مع الإمارات ستمضي قدماً بعد “حوار قوي ومتواصل أجريناه مع الإماراتيين”. ومن المتوقع أن يزور وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أبو ظبي خلال الساعات المقبلة.
في الوقت نفسه، أعرب المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش، الشهر الماضي، عن أسفه لأن بلاده “عالقة في منتصف المواجهة بين واشنطن وبكين”. وقال: “نشعر جميعاً بقلق شديد من حرب باردة تلوح في الأفق. هذه أخبار سيئة لنا جميعاً لأن فكرة الاختيار إشكالية في النظام الدولي”.
(*) أعد التقرير وارن ب. ستروبل وغوردون لوبولد