في يوم ما، قال الزعيم الصيني ماو تسي تونغ “إننا نشتري الوقت حتی نستمر في إخفاء قدراتنا”. هكذا كان الصينيون دائماً يسيرون علی حافة السكين من أجل الوصول إلی أهدافهم.
الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في السابع من الشهر الجاري ألقت الضوء من جديد علی الدور الصيني المتصاعد في الإقليم والعالم وما يحمله من مؤشرات عديدة لجهة بروزه على أرض محتكرة أمريكياً أولاً؛ ولأن الزيارة إستبطنت تعاوناً اقتصادياً استراتيجياً طموحاً لم يستبعد قضايا سياسية وأمنية إقليمية إضافة إلی أنها تأتي في ظل حديث بصوت مرتفع عن نظام عالمي جديد آخذ بالتبلور غداة جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
ثمة مقاربتان متناقضتان حيال الصين وامكانية التعاون معها من أجل الاستفادة من خبراتها وقدراتها التنموية والاقتصادية خصوصاً من قبل تلك الدول المتعطشة لإعمار بناها التحتية من موانیء وطرق وجسور ومشاريع نفطية وغازية تُركز عليها كلها خارطة “الحزام والطريق” الصينية.
مقاربة أولی متفائلة تنظر إلى الصين باعتبارها دولة غير إستعمارية؛ ذات إقتصاد قوي ونمو إقتصادي يتجاوز نسبة 8 بالمائة؛ مستقبلها الإقتصادي واعد، ذلك أنها تتربع علی عرش أقوی الاقتصاديات العالمية ومرشحة لأن تكون الإقتصاد الأول دولياً وبالتالي من يربط إقتصاده بها يستطيع أن يضع نفسه على سكة نهوض مستقبلي ويحجز المقعد الملائم له في القطار الصيني السريع الحركة.
أما المقاربة الثانية فإنها تری أن الصين الجديدة تسعی للاستحواذ علی إقتصاديات الدول المختلفة، حسب لغة القوة التي تمتلكها، فما هو “تحت السماء” يجب الإستيلاء عليه من دون تدميره من أجل تحقيق الإنتصار، كما يقول القائد الصيني سون تزو في كتابه “فن الحرب”. هذه المقاربة تعتمد علی بعض نماذج الإستثمار الصيني في بلدان أفريقية أو في شبه القارة الهندية أفضت في نهاية المطاف إلى إستحواذ الصين على موانیء وشركات أفلست بسبب عدم تمكنها من سداد القروض التي انفقتها الصين لبناء مشاريع رأت فيها بأنها تُحقّق مصالحها في هذه المنطقة من العالم أو تلك.
الصين ما زالت تؤمن بضرورة عدم إستفزار خصومها في الشرق الأوسط مع بقاء فرصة للإتفاق علی شكل من أشكال التفاهم القائم علی أساس مبدأ “عشْ.. ودعْ غيرك يعيش”، حول مجموعة واسعة من القضايا الجيوسياسية والاقتصادية العالمية سواء مع الولايات المتحدة أو مع حلفائها
وفي قراءة متأنية يبدو أن المقاربتين غير دقيقتين في تحديد كيفية تعامل دولة كبری مثل الصين مع مصالحها في شتى أنحاء العالم. حتماً لها أجندات سياسية وأمنية وإقتصادية دولية تتعدی حدود هذه الدولة أو تلك، سواء في المدى القصير أو البعيد، لكن يُخطىء من يعتقد أن الصين “جمعية خيرية” تنفق لوجه الله ولا تريد منكم جزاء ولا شكورا!. جميع الدول الكبری التي تمتلك القوة والتكنولوجيا تلتقي عند نتيجة واحدة وهي خدمة مصالحها لكن بصيغ مختلفة تستند إلی طبيعة وسلوك الأنظمة السياسية في هذه الدول.
وعندما وقّعت الصين برنامج العمل الاستراتيجي المشترك مع إيران بقيمة 400 مليار دولار لمدة 25 عاماً، كانت تعتقد أن الجانب الإيراني سيتوصل مع الدول الغربية إلى إحياء الاتفاق النووي، وهذا ما يُوفّر لها الدخول في سوق تجارية واعدة وتحقيق اهداف جيوسياسية متعددة. بكين لم تلغِ الاتفاقية (البرنامج) لكنها لم تكن مستعدة للإنتظار طويلاً عندما تُفتح أمامها أبواب جديدة في الشرق الأوسط. وهذه ليست المرة الأولی التي تتعامل فيها الصين مع إيران بهذه الطريقة. هناك عدة عقود أبرمتها مع إيران خلال العقود الثلاثة الماضية في مجال النفط والغاز لكن سرعان ما انسحبت منها إما استجابة لضغوط أمريكية أو لأنها وجدت بديلاً أقل كلفة للحصول علی ما تريده من إيران.
حقيقة الأمر أن الصين ما زالت تؤمن بضرورة عدم إستفزار خصومها في الشرق الأوسط مع بقاء فرصة للإتفاق علی شكل من أشكال التفاهم القائم علی أساس مبدأ “عشْ.. ودعْ غيرك يعيش”، حول مجموعة واسعة من القضايا الجيوسياسية والاقتصادية العالمية سواء مع الولايات المتحدة أو مع حلفائها. وفي المقابل؛ تلعب واشنطن لعبة مزدوجة في مواجهة الدخول الصيني إلى السوق السعودي ـ الخليجي أو السوق الإيراني المنافس. سعودياً، تحاول واشنطن ضبط السلوك الصيني من خلال إبعاده عن الحليفين التقليديين روسيا وإيران وتشبيك الحلفاء مع الصين للحصول علی التكنولوجيا الصينية مقابل حصول الصين علی النفط والطاقة التي تحتاجها بدل إعتمادها على نفط وغاز إيران وروسيا. أما إيرانياً، فان الولايات المتحدة تسعی لأن يكون النفوذ الصيني المُعزّز في إيران مُفيداً لكبح أنشطة إيران النووية ودعمها النشط لحلفائها الإقليميين.
في الخلاصة، يتبع الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلی حد بعيد، سياسة “فن الحرب” في تعامله مع الخيارات المطروحة من دون التسبب بأي مواجهة غير محسوبة، وصولاً إلى تحقيق مشروع قطار “الحزام والطريق”.. فمن يريد أن يلتحق بهذا القطار السريع، عليه أن يكون واقعياً في رسم مصالح بلاده التنموية آخذاً في الإعتبار التطورات الإقليمية والدولية.