ستدخل أزمة لبنان موسوعة أرقام “غينيس” القياسية، وتتحول إلى حالة تُدرّس في جامعات العالم على أنها فريدة في سوئها على الإطلاق؛ فإذا استمرت إدارة الأزمة على النحو السائد منذ سنتين ـ وعلى الأرجح ستستمر إلى حين ليس بقريب ـ فإن تراكم نسب هبوط الناتج المحلي في سنوات قليلة متتالية ستجعل لبنان في المركز الأول عالمياً. فهو الآن في المركز الثاني بعد التشيلي التي كان هبط ناتجها في 1926 نحو 47 في المائة. لكن بعد هبوط نسبته 42 في المائة، ينتظر لبنان هرياناً إضافياً، فيتجاوز التشيلي ويتبوأ المركز الأول في هذا التصنيف السيء بلا منازع. فالأشهر القليلة المقبلة تنبئ بمسار إنحداري إضافي إمتداداً للتدهور المستمر منذ بداية الأزمة في أواخر 2019.
وفي الأرقام القياسية المُفجعة، يتأكد أكثر فأكثر الامعان في تخسير المودعين بين 60 و85 في المائة من قيمة ودائعهم، بعدما “تبخرت” عشرات مليارات الدولارات من مدخرات الناس في ظروف ملتبسة، ممنوع حتى تاريخه الإفصاح بشفافية كاملة عن أسبابها والمتسببين بها جرياً على عادات سيرة الطغمتين السياسية والمالية في الإفلات من العقاب في لبنان تاريخياً. ولا تندرج المنغصات التي يواجهها التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والتحايل في محاولات تحديد حجم الخسائر، والتهرب من عدالة توزيعها، إلا في سياق تضييع المسؤوليات الإجرامية عن إفقار الشعب اللبناني وسرقة مدخراته.
شحدونا الرغيف!
ويؤكد النائب السابق لحاكم مصرف لبنان ناصر السعيدي أن “الهيركات” اللبناني المتعمد (الاقتطاع القسري من الودائع) هو الأعلى في العالم، ويتجاوز ما حصل في أزمات قبرص واليونان وإيسلندا والأرجنتين وفنزويلا. ضياع تلك الودائع وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (وغيره) كأكبر “مخطط بونزي” إحتيالي عرفه التاريخ. فبعدما كان مخطط المحتال الأميركي الشهير برنارد مادوف هو الأول بواقع 60 مليار دولار (إستعيد قسم منها بالدعاوى القضائية)، سجل لبنان رقماً أعلى ليحتل المركز الأول في العالم في هذا التصنيف السيء الذكر.. وممنوع على القضاء أن يحقق في هذا التبديد المالي الهائل، إذ عند مدعي عام التمييز غسان عويدات والمدعي العام المالي علي ابراهيم الخبر اليقين.
نحن أمام أكبر كارثة إنسانية إبتلي بها لبنان منذ الحرب العالمية الأولى، دفعت وزارة الإقتصاد إلى مطالبة جهات مانحة مثل الولايات المتحدة والهند وتركيا بتأمين هبات من الطحين، لينطبق القول الشعبي على هذه المنظومة: شحدونا الرغيف!
وفي سياق مسلسل الأرقام الكارثية، تتقهقر الليرة أكثر بعدما فقدت نحو 93 في المائة من قيمتها، ووصل تراكم التضخم في سنتين الى ما بين 500 و1000 في المائة حسب السلع والخدمة، فدخلت مئات آلاف الأسر الإضافية أفواجاً وراء أفواج في “كفر” الفقر والفقر المدقع البالغ إجماله 80 في المائة من السكان، كما أكد آخر تقرير لمنظمة “اليونيسيف”. نحن أمام أكبر كارثة إنسانية إبتلي بها لبنان منذ الحرب العالمية الأولى، دفعت وزارة الإقتصاد إلى مطالبة جهات مانحة مثل الولايات المتحدة والهند وتركيا بتأمين هبات من الطحين بين سنة وثلاث سنوات، لينطبق القول الشعبي على هذه المنظومة: شحدونا الرغيف!
“إنه الإقتصاد يا غبي”!
أما عن العجز في مواجهة تداعيات الأزمة والتقاعس في إيجاد حلول لها، فيقول كثيرون: إنها السياسة يا عزيزي، فيرد آخرون: “إنه الإقتصاد يا غبي”، كما قال بيل كلينتون في حملته الانتخابية التي خاضها ضد جورج بوش الأب في العام 1992 وفاز بها بوصفه “مُنقذ الاقتصاد الأميركي من براثن الكساد”، مقابل إكتفاء بوش بالتفاخر بانتصارات السياسة وعظمة الهيمنة الدولية التي حقّقها بإنهاء الحرب الباردة وطرد صدام حسين من الكويت.
وفي حالة لبنان، يطغى اللغو السياسي والطائفي على الواقع الإقتصادي، وتعلو الحسابات والإرتباطات “الجيوبوليتيكية” الإقليمية والدولية على القضايا المعيشية المحلية، ويتفنن الساسة في رعاية توازنات تحاصص حكمهم للبلاد من دون كبير عبء بالشأن الإجتماعي والعمالي، ولا يتوانون عن التناكف حد الإشتباك الأمني القاتل والتعطيل الحكومي الشامل على حساب قوت الناس ومعيشتهم وصحتهم. والأنكى أن ما فعلته حكومة ميقاتي في أسابيع قليلة لجهة تحرير أسعار الوقود وإلغاء دعم أدوية أمراض مزمنة ومستعصية فاق بأثره السلبي كل الإلغاءات والترشيدات السابقة في مدى 12 شهراً بدأت مع إلغاء دعم السلة الغذائية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
هدفان بلا مهداف
فكما أسقطوا “المبادرة الفرنسية” وفكّكوا ذراتها قبل أن يستقل إيمانويل ماكرون طائرة عودته إلى باريس في أيلول/سبتمبر 2020، كما يقول الوزير السابق غسان سلامة، ثمة خشية دولية حقيقية حالياً من تطيير الهدفين الأساسيين اللذين شُكّلت لأجلهما حكومة ميقاتي: التفاوض والإتفاق مع صندوق النقد الدولي وإجراء الإنتخابات النيابية. ففي متابعة الهدف الأول مراوحة ومراوغة برغم كل التطمينات الميقاتية الهلامية، فهناك شبه إجماع الآن حول صعوبة الوصول إلى اتفاق مع الصندوق قبل الإنتخابات النيابية. وحول الهدف الثاني، تحوم أفعال وأقوال زعماء وأحزاب لا تدل إلا على إمكان تطيير الإنتخابات تحت عناوين تحضر غب الطلب في اللحظة الميكيافيلية المناسبة.
لبنان مخطوف حالياً من عصابة، وأهله رهائن زعماء طوائف ومصرفيين ورأسماليين وتجار كما دائماً، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً في إيجاد صيغة جديدة للحكم تبدأ بعفا الله عما مضى كما حصل بعد الحرب الأهلية!
لذا صدق البنك الدولي حين أورد في أحد تقاريره أن الإقتصاد اللبناني يتعرض لـ”كساد متعمد”. فما من ثغرات، برأيه، على مستوى المعرفة والمشورة الجيدة، بقدر ما يعود الأمر إلى غياب التوافق السياسي بشأن إطلاق المبادرات الفعالة. أما الأمم المتحدة، فقد أشارت على لسان أحد ممثليها الأسبوع ما قبل الماضي إلى “دهشتها من حقيقة أن لبنان دولة في طريقها إلى الفشل، إن لم تكن قد فشلت بالفعل، وليس لدى المسؤولين أي شعور بضرورة التحرك العاجل أو العزم اللازم، لتحمل مسؤولياتهم إزاء أزمة إقتصادية أدت إلى إفقار شرس لنحو ثلاثة أرباع السكان”، مضيفاً “أن السياسيين يعيشون في عالم خيالي”.
نكران غريب وحساب مريب
في الأثناء، يسود تخبط في ما تحاول القيام به الحكومة مدعومة من مصرف لبنان وجمعية المصارف لجهة تحديد حجم الخسائر بنحو 55 مليار دولار فقط مقابل 83 ملياراً حددتها الحكومة السابقة و113 ملياراً وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي. فالفارق بين الأدنى والأعلى هائل يتجاوز المائة في المائة. فكيف ستقنع حكومة ميقاتي الصندوق بفارق يساوي أكثر من ضعفي حجم الناتج الإجمالي للبنان بكل قطاعاته؟ علماً بأنه لم يمر بتاريخ صندوق النقد حالة مماثلة من نكران غريب مريب للواقع، وتحايل عليه بأرقام وهمية غشاشة في جانب أساسي منه.
وعجب العجاب يتجلى في ما تسرب عن كيفية توزيع الخسائر كما تحدث عنها وزير الإقتصاد أمين سلام لقناة “الحرة”، مشيراً إلى أن الدولة ومصرف لبنان والمصارف تتحمل كل منها 30 إلى 35 في المائة من تلك الخسائر على أن يتحمل المودع 10 في المائة فقط.
تلك النسب غير واقعية، أو أنها تحمل في طياتها مفاجآت غير سارة مثل أن المودع لا يتحمل فقط 10 في المائة لأن جزءاً كبيراً من الودائع الدولارية سيتحول إلى ليرة بسعر صرف معين أدنى بكثير من سعر الدولار في السوق الموازية. و”اللولرة” تعني حكماً طباعة ترليونات من الليرات وتقسيط طويل الأمد حتى 20 سنة ربما. وفي القطب المخفية أيضاً أن المصارف ترفض حتى الآن تحمل الدولة الثلث وتريد تكبيدها النصف، ما يعني الدفع قسرياً نحو رهن و/أو بيع معظم أصول الدولة وممتلكاتها وعقاراتها، فضلاً عن إمكان رهن و/أو بيع مخزون الذهب إذا تقرر تحميل مصرف لبنان ثلث الخسائر.
إحلبوا التيس!
وبما أن التخبط العشوائي “شغّال” ولا خطة شاملة للتصحيح والتعافي بعد، تعمل حكومة ميقاتي بـ”القطعة” على مشاريع مثل زيادة الرسوم الجمركية أو ما بات يعرف برفع سعر الدولار الجمركي، وزيادة الرسوم العقارية، ما أثار غضب سياسيين نافذين رافضين لرفع الرسوم، يريدون حليباً من تيس لإرضاء الموظفين برفع بدلات نقلهم وإعطائهم منحاً مالية شهرية من دون معرفة مصدر الأموال سوى طبع العملة (بلا تغطية على الطريقة الفنزويلية) التي بات المتداول منها أكثر من 53 ألف مليار ليرة وبإرتفاع نسبته 700 في المائة عمّا كانت عليه تلك الكمية عشية إندلاع الأزمة.
لبنان مخطوف من عصابة
يحتار الخبراء في توصيف هذه الحالة بين قائل إن أهل السلطة سلّموا رياض سلامة مقاليد الإدارة المالية والنقدية ليُمعن في تكبيد عموم الناس كلفة باهظة من الخسائر عبر خفض قيمة العملة و”هيركات” الودائع، فأي وقت إضافي على هذا المنوال يُعتبَر مكسباً للهاربين من تحمل مسؤولياتهم وصولاً إلى الفوضى الحائلة دون أي عقاب لأي كان من المنظومة المتورطة في الفساد وسوء الإدارة. مقابل هذا الرأي، هناك من يؤكد أن ما يجري حلقات إضافية في مسلسل عشوائيات ثعالب سياسة وزعامة أثبتوا أنهم أغبياء إقتصادياً ومالياً منذ إتفاق الطائف إلى اليوم. في الحالتين، لبنان مخطوف حالياً من عصابة، وأهله رهائن زعماء طوائف ومصرفيين ورأسماليين وتجار كما دائماً، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً في إيجاد صيغة جديدة للحكم تبدأ بعفا الله عما مضى كما حصل بعد الحرب الأهلية!