بؤس محاولة أسلمة العلوم الحديثة

بعد إنفضاح شعار "الإسلام هو الحل"، أي في التراث الثقافي الإسلامي حل لكل مشاكل العالم المعاصر. يظهر منذ بعض العقود من السنين شعار أسلمة العلوم الحديثة الاجتماعية والمادية.

يعرف أصحاب شعار “الإسلام هو الحل” أن للعلم الحديث ثقافته، وأنها ثقافة العصر الكونية، وأن الأخذ بها يتطلّب التخلي عن العلوم الدينية، وغير الدينية التقليدية. هو خوف على الهوية يُعبّر عن اعتراف سابق بالهزيمة أمام العالم وثقافته، مما دفع أصحاب الشعار لوضع شعار أسلمة العلوم الحديثة مكان الانغلاق والقول “الإسلام هو الحل”. يريدون أن تكون العلوم التقليدية دليلاً للعمل والفكر ويخافون تجاوزها لتصير من الآثار الباقية التي تستحق الدرس والمحافظة عليها من أجل فهم التاريخ. وحتى التاريخ لا يمكن أن يكون إلا عالمياً. لا نستطيع فهم تاريخنا من داخله بل من خارجه؛ بالخروج منه ولو على مضض لتتكوّن، أو يُعاد لدينا، تكوين ملكة نقد.

كي يبقى التراث حياً يجب أن نخضعه لعملية “جراحية” تنقذه من مرض التقليدية والمحافظة والتقوقع والإنعزالية. التراث هو ما يُبنى عليه. وما يُبنى عليه يجب أن يندمج بالمضاف الى البقاء وإلا حدثت شقوق وصار متفسخاً. وتلك حالة المجتمعات الإسلامية التي تعاني انفصاماً، حيث أن المجتمع، وكل فرد منا، يعاني مما فيه: شخصيتان متوازيتان لا تلتقيان. الحديث فينا لا يندمج مع الموروث. آلام الفصام كبيرة ومزرية. هي في أساس الهزيمة. هزيمة ثقافية أمام العالم وهزيمة أخرى أمام العدو القاعد الكامن في قلب الأمة الجغرافي؛ مجتمع مشلّع منكسر تسوده الحروب الأهلية. الداخل يقاتل الداخل؛ كما قال الشاعر مظفر النواب: الواحد منا يحمل في الداخل ضده.

الدعوة الى أسلمة العلوم الحديثة دليل على خيانتنا لتاريخنا وخيانة للدين السائد. حين أسّس أهل هذا الدين الجامعات، ومنها بيت الحكمة والأزهر والقيروان والزيتونة، لم يكن لديهم خجل من ترجمة “علوم الأوائل” واستيعابها. لم تكن الترجمة عملية تعريب أو أسلمة وحسب، بل عملية استيعاب في عالم اعتقد الأسلاف أنه جزء منهم؛ وهو جزء منهم. “وتحسب أنك جرم صغير وفيك استوى العالم الأكبر”. كان هذا المجتمع واثقاً من نفسه، ليس فقط في عصر الفتوحات والامبراطورية المترامية الأطراف والمهيمنة، بل أيضاً في عهد التفسّخ السياسي. في هذا العهد، بقي زخم الثقافة الإسلامية قوياً ومسيطراً على العالم وقادراً على استيعاب وهضم جميع ما يأتيه من روافد العالم الآخر ثقافياً. وكان كثير الإبداع متجدداً. كان مجتمعاً يرى أن العالم مجاله ولا يقتصر ذلك على مجاله الجغرافي. ترينا كتب الجغرافيا القديمة وكتب الرحلات كم كان هذا المجتمع شغوفاً بالعالم، متطلعاً الى الخارج لا متقوقعاً حول نفسه كما هو الآن. أسلمة العلوم الإنسانية، الاجتماعية والمادية، عنوان هذا التقوقع. صغار العقول أصحاب أحلام العصافير هم الذين يعتقدون أن إنشاء هذه الحضارة كان ذاتي الدفع ولم يكن شأناً عالمياً كونياً. نحن هامشيون في هذا العالم. كي نخرج من هامشيتنا، علينا الخروج الى العالم والإندماج فيه. نندمج في العالم عندما ندمجه فينا. نصير جزءاً منه ويصير جزءاً منا. نناقض أنفسنا عندما نرسل أولادنا للتعلّم في الخارج، ونزعم في الوقت عينه أنهم هناك لتعلّم تكنولوجيا الغرب لا لاستيعاب ثقافته، ثقافة العالم.

أرسلنا الآلاف للتعلّم في الخارج، ورفضنا أن نرسل وراءهم أو معهم لجاناً من أصحاب العمامات لهدي الطلاب الى “الصراط المستقيم”. كانت الحجة الصريحة لدينا أمام أصحاب الفتوى أننا أرسلنا الطلاب الى الخارج ليتخلصوا من أفكارنا، أفكار الأمة المهزومة، ليكتسبوا أفكاراً جديدة حديثة مغايرة لما لدينا

نكذب على أنفسنا عندما نستورد تكنولوجيا الغرب وأدواته المادية وسياراته وتلفزيوناته وغيرها دون أن “تتلوّث” ثقافتنا. نحن نستورد ثقافة الغرب مع إستيراد هذه السلع وتقنياتها. لكن المكابرة غير المستندة الى أساس غير الضعف والدونية تجعلنا نرفض الاستيعاب، فنبقى على انفصام الذات. نعرف أن ثقافة الغرب ذات وجهين. لكننا لا نتورّع عن الهرولة نحو صنع السلاح النووي المنتشر في عدة بلدان من منطقتنا؛ وسوف ينتشر. كررنا فظائع القرن العشرين لدينا، عندما أخذنا منذ عقود من الغرب فاشيته ودمجناها في أحزاب قومية ودينية، ما زالت المدافع الأول عن الاستبداد، بل ربما كانت سببه أو السبب الوحيد لبقائه. إذا كان الاستبداد يلغينا، وقد ألغانا سياسياً، فإن أسلمة العلوم الحديثة تلغينا ثقافياً. هي دعوة للتهميش لا الى الاقتحام. اقتحام العالم ليكون لنا دور فيه، بل ليكون لنا دور أولي فيه.

ومن التجربة الشخصية يمكن القول، بل يجب القول أننا أرسلنا الآلاف للتعلّم في الخارج، ورفضنا أن نرسل وراءهم أو معهم لجاناً من أصحاب العمامات لهدي الطلاب الى “الصراط المستقيم”. كانت الحجة الصريحة لدينا أمام أصحاب الفتوى أننا أرسلنا الطلاب الى الخارج ليتخلصوا من أفكارنا، أفكار الأمة المهزومة، ليكتسبوا أفكاراً جديدة حديثة مغايرة لما لدينا.

تظهر سخافة نظرية أسلمة العلوم الحديثة من تناقضين ذاتيين؛ أحدهما يفرضه الدين والآخر يفرضه العلم الحديث. ما يفترضه الدين هو أنه أُرسل للعالمين أجمعين، ولم يميّز بين أمة وأخرى. بل “جعلناكم أمم وقبائل لتعارفوا”. عالمية الدين، بالأحرى غاية عالمية الدين بأنه أرسل للجميع دون تمييز، تشير الى أن مجال الدين هو العالم كله والبشر كلهم. أما الإقتصار على جزء منهم وهم الذين أسلموا قبلاً فهو اقتصار وإختصار يخالف النص. إن الأخذ بالثقافة العالمية لا يغيّر الدين. لا يغيّر أسس وطبيعة الدين. لقد خضع النص القرآني لتفسيرات عديدة على مدى الأزمان، وسيخضع للمزيد منها. وهو مطالب كنص أن يتجاوب تفسيره مع العلم الحديث، لا العكس. هذه المواءمة ممكنة ومنطقية. كل ما يتطلبه الأمر هو أن يتطابق التفسير أو التفسيرات الجديدة مع حياة المسلمين المُتطوّرة والمُتغيّرة. الاحتكاك بالغرب والأخذ بالتكنولوجيا واختلاط الثقافة بما هو مبني على العلم الحديث، يؤدي ذلك كله الى تطورات في الدين. لا يُمكن أن نقف ضد التطوّر. ينبع التطوّر من أنفسنا ولا يُفرض علينا. نختار العالمية لا أقل منها. نتوافق بذلك مع غاية الدين ومقصده، كما مع مقتضيات الحياة. لا خوف على الهوية. لن يستطيع أحد سحب هويتنا منا. دخول مؤثرات ثقافية غريبة في الماضي لم يلغ الهوية. ساهم في تطورها. انعدام التطوّر في أي شيء هو الجمود والانغلاق والهزيمة أمام أنفسنا أولاً، وأمام العالم ثانياً. انهزامنا أمام أنفسنا يعني العجز. انهزامنا أمام العالم يعني الهزيمة. أسلمة العلم الحديث تعني حدوث الإثنين معاً. عكسها يعني أن فعل الإرادة يدفعنا الى إقتحام العالم والدخول فيه على قدم المساواة بين الجميع، وذلك يعني أيضاً الخروج من الدونية الثقافية التي يفرضها التقوقع والدوران حول الذات.

سقط شعار “الإسلام هو الحل”. استبدلوا به شعار أسلمة العلوم الحديثة. والبؤس سمة التفكير لدى أصحاب الشعارين. نحن في عالم إما ان نكون فيه محافظين على كرامتنا أو ننعزل عنه فنتقوقع فتكون لنا الدونية

التناقض الثاني ينبع من رفض العلم الحديث، بحيث يكون مطواعاً لجماعة دون أخرى. العلم الحديث يعني إكتشاف الطبيعة وما في الإنسان. وكل منهما يلزم أو يصلح لكل البشر لا لجزء منهم. محاولة الرأسمالية الاستئثار بالعلم الحديث هو في أساس الإمبريالية. هو إستئثار بالتقدم يعبّر عن العنصرية الكامنة في كل رأسمالية. تريد عولمة المال والتجارة لا الإقرار بعالمية الإنسان الحاصلة منذ القديم، وقبل الخروج من العصر الحجري. ذرات الفيزياء والكيمياء، وتطوّر البيئة المزري (حالياً)، والذي يقود إلى كوارث تهدّد الحياة على الكرة الأرضية، واللواعج، والأمراض في النفس البشرية، لا تختلف بين جماعة وأخرى، إلا بمقدار ما تفرضه الإمبريالية، وبمقدار ما تُجبر الشعوب الأخرى على الأخذ به.

إقرأ على موقع 180  تحيّة إلى الشّهيد "الحاج".. الكوموندَنتي ـ تْشي جيفارا

أسلمة العلوم الحديثة تعني دونية ثقافية تفرضها الشعوب المتأخرة على نفسها. وما هي إلا عنصرية معكوسة. عنصرية الإنسان الأبيض ضد نفسه. استئثار الغرب بالعلم الحديث يعني عنصرية مفروضة من الخارج. إعادة السيطرة بأشكال أخرى بغير السلاح والاحتلال والقسر، بفضل قوة التفوّق.
الخروج من القوقعة والدوران حول الذات يفترض رفض العنصريين، عنصريتنا وعنصرية غيرنا. العنصرية النابعة من الداخل والعنصرية المفروضة من الخارج.

ليست المرة الأولى التي يترجم فيها مجتمعنا علوم الغير. في القرون الأولى بعد ظهور الإسلام، كانت الترجمات من الأسس التي قامت عليها ثقافتنا. وكانت بغداد والكوفة والبصرة والقيروان وفاس وقرطبة مراكز الثقافة العالمية. كذلك المدن الإسلامية الأخرى، من نيسابور الى طشقند، وسمرقند، وخوارزم، ثم أفغانستان، والهند، وغيرها. وكانت حضارة زاهية برغم التفكك السياسي. وكان هذا الدين (أتباعه) واثقاً من نفسه، مستوعباً لحضارات العالم، ومركز إشعاع العالم. أصبحت “علوم الأوائل” كالفلسفة والرياضيات والجغرافيا وغيرها جزءاً من ثقافتنا، برغم معارضة بعض الفقهاء، أو كثرة منهم لدخول “علوم الأوائل”. كانت مجتمعات واثقة من نفسها، ولم تصغ لفقهائها إلا في لحظات عابرة، فجرى اضطهاد أصحاب “علوم الأوائل”، وأحياناً قتلهم وحرق كتبهم. لكن دولاب التاريخ ظل يدور. هو متوقف لدينا حاضراً بسبب ضيق أفق بعض علماء الدين وبالأخص دعاة الأسلمة للعلوم من الأكاديميين.

لدى اللغة العربية احتمالات كثيرة. هي لغة كثيرة المفردات، كثيرة الاشتقاقات. برغم صعوبة النحو الذي يحتاج الى تبسيط وتسهيل وتوحيد القواعد. وبرغم كون الإعراب يقتضي الفهم قبل القراءة بينما تقتضي اللغة في الأصل، كل اللغة، القراءة قبل الفهم، إلا أن اتساع مجال هذه اللغة يجعلها قادرة على استيعاب العلوم الحديثة. ولا ضير في استخدام كلمات أجنبية في لفظها. لكن سهولة فهم الفصحى، بغض النظر عن اختلاف اللهجات المحلية، من أقصى بلاد العرب الى أقصاها تجعل اللغة حاملة إمكانية أن تكون حاملة للهوية، دون فاشية القومية. لنتذكر أن لا وجود لقومية ميتافيزيقية تتجلى بين الحين والآخر في مراحل التاريخ، فيكون الخلاص أو الخروج من الهزيمة والدونية.

سقط شعار “الإسلام هو الحل”. استبدلوا به شعار أسلمة العلوم الحديثة. والبؤس سمة التفكير لدى أصحاب الشعارين. نحن في عالم إما ان نكون فيه محافظين على كرامتنا أو ننعزل عنه فنتقوقع فتكون لنا الدونية. انتهازية الانتقائية والتلفيق لن تفيدنا. الخيار هو بين أن نأخذ بالحداثة كما هي طوعاً، وعند ذلك يكون الاندماج بالعالم إرادياً، أو تتسلل إلينا الحداثة تلقائيا أو قسرياً. وعند ذلك تكون الهوية في خطر. صحيح أن الأخذ بالحداثة يغيّر بعض هويتنا، لكن الأخذ الطوعي يُعبّر عن أن لنا إرادة.

تحكمنا منظومة إستبدادية، سياسية ودينية وعسكرية، تريد الحفاظ على ما هو تراثي وتقليدي في الثقافة كي تستمر مجتمعاتنا مكبلة بماضٍ لم يعد موجوداً. يريدوننا أن نبقى في فراغ. ليس أقله فراغ العقل. الأخذ بالحداثة، وأهم أركانها العلم الحديث، يضعضع هذه المنظومة، إذ لا مكان لها في العصر إلا بفعل القوة والقسر وكسر الإرادة.

الثقافة قضية شائكة. لها تعريفات عديدة حتى لكأن الأمر يبدو مستحيل الفهم. يظهر الوضوح عندما ندمج الثقافة العلمية الحديثة، وهي ثقافة العصر، في أنفسنا، وعندما ندمج أنفسنا في الثقافة العالمية؛ إذ هما تعبيران عن حل لمعضلة واحدة: وجهان لعملة واحدة، كما يقول المثل السائد.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فشلنا في "الدولة" والحرية.. وأنسنة شعوبنا