الطريق إلى الحرب الثانية: الفاشية والنازية وأدواتهما الناعمة والخشنة (8)

برغم أن العالم قد عانى كثيراً من ويلات الحرب العالمية الأولى، إلا أن ذلك لم يمنع قيام الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عاماً من انتهاء الحرب الأولى.

حاول عدد كبير من المحللين والمؤرخين تقديم تفسيرات متعددة لأسباب فشل النظام الدولى فى فترة ما بين الحربين (١٩١٩ــ ١٩٣٨) لمنع حرب مدمرة ثانية. ركز البعض على شكل النظام الدولى نفسه، والذى لم يتمكن من تحقيق «الأمن الجماعى» كمبدأ راسخ فى العلاقات الدولية لتحقيق الاستقرار منذ هزيمة نابليون بونابرت فى أوروبا قبل ذلك بأكثر من قرن من الزمان.

وبرغم كثرة التحالفات الدولية فى فترة ما بين الحربين، إلا أنها كانت تحالفات هشة قائمة على مصالح مؤقتة مثلما كان الحال تماما منذ مطلع القرن العشرين وحتى قيام الحرب الأولى. بعض دول المحور وبعض دول الحلفاء جمعهما بالفعل بعض المعاهدات الدولية، وبعض هذه المعاهدات كانت تهدف بالفعل لتشكيل تحالفات أمنية لمنع قيام المزيد من الحروب، لكن كل هذا لم ينجح، فسرعان ما انتهت هذه التحالفات ليس فقط لتعارض المصالح، ولكن أيضا لتعارض الأيديولوجيات والمبادئ السياسية للدول المتحاربة وهو ما سنعود إليه لاحقا.

***

حمّل البعض الآخر اتفاقيات فرساى وزر قيام الحرب الثانية، ففرساى والتى كان يفترض لها أن تكون اتفاقية لإقرار السلام انتهت إلى خلق أوضاع غير عادلة وانتقامية من الدول المهزومة فى الحرب الأولى. فلنأخذ ألمانيا كمثال؛ خسرت ألمانيا حدودها وبعض أراضيها بسبب اتفاقية فرساى، بل وتم تركيعها اقتصاديا عن طريق فرض عقوبات مالية باهظة كتعويضات، فضلا عن تركيعها عسكريا عن طريق وضع حدود قاسية لحجم وعتاد الجيش الألمانى مما سهل استنفار النعرات القومية هناك.
يرى فريق ثالث، أن فشل عصبة الأمم على فرض قواعد ملزمة للقانون الدولى هو أحد أهم أسباب قيام الحرب العالمية الثانية، فرغم الطموحات العالية للعصبة، إلا أنها فى النهاية فشلت فى إرساء أى قواعد ملزمة، مما حولها إلى محفل دبلوماسى لتبادل الآراء بدلا من تحولها إلى مؤسسة دولية لصنع القرار. ترتب على ذلك أن دولا كثيرة إما لم تنضم للعصبة من الأساس، أو انضمت ثم انسحبت لاحقا، أو أبقت عضويتها شرفية دون تقديم أى تعهدات ملزمة.

***

الحقيقة، أن كل هذه الأسباب بالفعل ساهمت فى انهيار ما كان يفترض أن يكون سلاما دوليا بعد الحرب الأولى، فضلا عن أن هناك بعض الحسابات التكتيكية الخاطئة التى اتخذتها بعض دول المحور وتسببت فى اندلاع الحرب الثانية، ولعل أهمها حينما سمح تشامبرلين رئيس وزراء بريطانيا فى مؤتمر ميونخ الذى عقد عام ١٩٣٨ لهتلر بتثبيت احتلاله لتشيكوسلوفاكيا مقابل تعهد الأخير بعدم احتلال المزيد من الأراضى الأوروبية. كان هناك احتفاء عالمى بالفعل بنتائج هذا المؤتمر كونه منع قيام حرب كبرى عبر تقديم مرونة دبلوماسية مع النازى، بيد أن هذه المرونة لم تكن فى الواقع إلا الضوء الأخضر لقيام الحرب العالمية الثانية، لأنها جعلت هتلر يدرك أن الحلفاء ليسوا على استعداد ولا على رغبة لدخول حرب جديدة، مما سهل مهمته فى المزيد من المغامرات العسكرية.
لكن، وبالنظر إلى دول المحور، فإن واحدة من أهم أسباب اندفاعها نحو الحرب العالمية الثانية هو صعود النظم النازية والفاشية والديكتاتورية/العسكرية فى ألمانيا وإيطاليا واليابان على الترتيب. فهذه النظم التى استندت جميعا إلى سياسات شمولية ونعرات قومية كانت صاحبة المبادرة فى الاعتداءات العسكرية التى كانت سببا مباشرا فى قيام الحرب العالمية الثانية، لكن يبقى السؤال، ما هو تفسير نجاح هذه الأفكار فى فترة ما بين الحربين وانتصارها على الأفكار الليبرالية المنافسة لها؟

***

يمكن رصد مجموعة من الأسباب التى سهلت انتشار هذه الأيديولوجيات فى الدول الثلاث المذكورة يمكن أن نضع لها عنوانا واحدا وهو «الإقناع».
تمكنت النظم الفاشية والنازية من إقناع الناس. والسياسة فى النهاية سواء كانت تمارس فى دول ديموقراطية أو سلطوية قائمة بالأساس على النجاح فى الإقناع. لكن بماذا أقنعت الفاشية والنازية جمهورها فى أوروبا وآسيا فى تلك الفترة؟

اقتنع الناس بالحلول الشمولية التى قدمتها الفاشية والنازية، فلا ننسى أن نجاح الساسة الفاشيين والنازيين فى إيطاليا وألمانيا واليابان جاء عبر وسائل يمكن وصفها بالديموقراطية. فاختيارات الناس كانت قناعة لا جبرا.

بالعودة إلى الحقبة المذكورة سنجد أن أوروبا عانت من الكثير من الأزمات وفى مقدمتها إعلان فشل النظام الرأسمالى المحافظ اقتصاديا بعد الأزمة العالمية الاقتصادية الكبرى (١٩٢٩ــ١٩٣٣) وهذه الأزمة قد ولدت الكثير من المشكلات الاجتماعية والثقافية ــ فضلا قطعا عن الاقتصادية ــ مما ولد شعورا بالخوف وعدم الأمان بين شعوب الدول الغربية، فالحاضر قاسٍ والمستقبل غير مضمون والماضى القريب المؤلم لم يذهب بعد من الذاكرة الجمعية لهذه الشعوب! هذه الأزمة التى فشل السياسيون الليبراليون فى التعامل مع تبعاتها وخصوصا مع انتشار بعض الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتى يمكن التعبير عنها الآن بلفظ «العولمة» مثل انتشار التجارة الدولية وتغير خريطة توزيع الثروات والتى تزامنت مع موجة كبيرة منظمة من الهجرة الدولية ومن ثم المزيد من التنافس على الوظائف والموارد، كل هذا أدى إلى تفاقم الشعور بالخوف والضياع وربط كل هذه الأزمات بالنظام الليبرالى (وهو ربط فى محله) فأصبحت الشعوب تبحث عن بديل! فمن كان البديل؟

إقرأ على موقع 180  "طوفان الأقصى".. معركة في حرب العقول والإرادات

قّدم العالم المعاصر إجابتين فى تلك الحقبة على هذا السؤال، طرحت الشيوعية نفسها كبديل، كما طرحت الفاشية والأيديولوجيات الشبيهة لها كبديل ثان. وبرغم بعض التشابهات فى السياسات والأفكار الاقتصادية والاجتماعية بين الشيوعية والفاشية، إلا أن الأخيرة كانت لها كلمة الحسم فى دول المحور، فالشعوب رأت فى النهاية أن الشيوعية كبديل للرأسمالية غير مضمونة العواقب، فلا ننسى أن الشيوعية فى النهاية تتشابه مع الرأسمالية فى كونها حركة عالمية، أى أنها تسعى إلى العولمة برغم اختلاف الفرضيات بينهما، لكن الفاشية والنازية روجتا لنفسهما على اعتبار أنهما عبارة عن حلول «محلية» أو «قومية» غير ملزمة ولا مهتمة بالنظام العالمى، فإذا كانت السفينة ستغرق، فلن ينقذها سوى ركابها لأنهم الأكثر دراية بها. وهكذا قدمت الحركتان نفسيهما على أنهما حلول قومية فى مواجهة العالم الخارجى مصدر التهديد والخطر. هذا لا يعنى بالطبع أنهما قدمتا حلولا تشمل كل المواطنين، بل فى حالة النازية مثلا كان أيضا هناك مواطنون مستبعدون من المعادلة (مثل اليهود على سبيل المثال لا الحصر)، بل وتم تصويرهم لاحقا على أنهم أحد مصادر الخطر والمؤامرة على الوطن.
اقتنع الناس بالحلول الشمولية التى قدمتها الفاشية والنازية، فلا ننسى أن نجاح الساسة الفاشيين والنازيين فى إيطاليا وألمانيا واليابان جاء عبر وسائل يمكن وصفها بالديموقراطية. فاختيارات الناس ــ على الأقل فى مرحلة مبكرة من انتشار هذه الأيديولوجيات ــ كانت قناعة لا جبرا.
لكن المثير للفضول والجدير بالتأمل هو أن الفاشية والنازية قدمتا بعض الحلول المشابهة للنظم الرأسمالية، فالقطاع الخاص لم يختف تماما، واستمرت التجارة الدولية ببعض التسهيلات، والأهم من ذلك أن هذه النظم قدمت النخب على الشعوب، وانحازت لبعض المؤسسات والطبقات الاقتصادية على حساب أخرى، فلماذا واصلت نجاحها إذن برغم أنها لم تحقق الوعود المنشودة؟
حدث ذلك عبر أداتين، إحداهما خشنة والأخرى ناعمة. أما عن الأداة الخشنة فكانت عن طريق استخدام القوة والعنف لقمع أى معارض أو مخالف أو متمرد على قواعد اللعبة السياسية. فيما كانت الأداة الناعمة عن طريق استخدام الإعلام وعلم النفس للتحكم فى سلوك الجماهير، فتقديم مصالح النخب على الشعب، وتفضيل مصالح مؤسسات بعينها على أخرى واستخدام القوى المفرطة على الجماهير لأى مخالفة بسيطة تم ترويجه عن طريق الإعلام واستخدام أدوات علم النفس للتحكم فى الجماهير على أنها «مصلحة قومية» أو أمور متعلقة بـ«الأمن القومى» وهما المصطلحان السحريان اللذان حافظا على دعم الجماهير لهذه السياسات المتوحشة حتى انهار كل شىء مع الهزيمة المريرة للدول الثلاث فى الحرب العالمية الثانية.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  قطار إسطنبول الصين.. وقطار المصالحات معاً