رحيل إبراهيم لمهادي.. رائد الرسم الساخر بالمغرب  

قبل أيام قليلة، خسرنا الفنان ابراهيم لمهادي عن عمر يناهز الثمانين. بذلك، يكون المغرب ودّع واحداً من أبرز رواد فن الكاريكاتير والمعروف بحدة نقده الساخر للمجال السياسي والساحة الاجتماعية.

إبراهيم لمهادي مبدعٌ حقيقيٌ. لم يكن يتنفس فن الكاريكاتير فحسب، بل يحق لي هنا القول إن الكاريكاتير هو الذي كان يتنفسه. كيف لا وكل ما فيه يبعث على الابتسامة والضحك، من طريقة حديثه وإشارات يديه وملامح وجهه إلى مشيته التي تكاد تكون “شابلينية” (نسبة إلى شارلي شابلن).

كان إبراهيم عصاميا، تعلّم على نفسه، وصقل موهبته بواسطة المراسلة مع معهد أوروبي، وفاز مبكراً في الستينيات الماضية، بجائزة من إحدى بلدان المنظومة الاشتراكية عن رسم له حول حرب فيتنام.

لم تشغله وظيفته بالتعليم الابتدائي، عن تطوير موهبته وهوايته في الرسم والتشكيل. بل إنه إنضم إلى نخبة رسامي الكاريكاتير المغاربة الذين نشرت أعمالهم في الصحافة الوطنية، وكان يختفي في بداياته تحت الاسم المستعار (أبو سيف) عندما ظهرت رسوماته الأولى في أسبوعية “أخبار الدنيا” لصاحبها مصطفى العلوي وبعدها في يومية حزب الاستقلال “العلم”.

رسام “المحرر”

ما بقي لدي في ذاكرتي من الصديق الراحل، آخر لقاء في بداية مساء شتوي، صادفته في زنقة نابلس، بامتداد حي المعاريف بالدار البيضاء، أذكر أنه لمحني من بعيد برغم نقص إضاءة الشارع، وعانقني مبتسماً، والابتسامة الدائمة من علاماته الفارقة، ثم حدثني عن تدوينة قرأها لي على الفيسبوك، قبل أن يُعاتبني بلطف على عدم اجتماعنا، كما كنا في السابق من الأيام.

تعود علاقتي بابراهيم لمهادي في فترة نهاية السبعينيات بمكاتب جريدة “المحرر”، إذ كان يزورنا بشكل منتظم، كل أسبوع أو أسبوعين قادماً من بلدة “البير الجديد”، التي كانت تسمى في فترة الحماية الفرنسية باسم Saint Hubert، ولا تبعد عن الدار البيضاء سوى 45 كلم. كان لمهادي يقيم بها ويعمل مديراً لمجموعة مدرسية تابعة لوزارة التربية الوطنية.

في زياراته الدورية إلى زنقة الأمير عبد القادر، القريبة من المجازر البلدية “الباطوار” القديمة، كان لمهادي محملاً بمجموعة من أعماله الكاريكاتورية. يصعد إلى الطابق الأول، ويسلّم الرسوم إلى الزميل عبد الله بوهلال، قبل أن يطوف لتحية باقي أعضاء هيئة التحرير، وكانت طلته تزرع الفرح والابتسام في قاعة التحرير بطريقة كلامه ونكته الضاحكة.

لم يكن لمهادي يتقاضى مقابلاً على جهوده، برغم أن لوحاته التي تتصدر غالباً الصفحة الأولى لـ”المحرر”، كانت من أسباب ارتفاع مبيعات الجريدة. لذلك تدخل بعض الزملاء لدى مدير الجريدة محمد اليازغي، الذي أمر المسؤول المالي الشافعي ملوك بتسليم مبلغ هزيل، لم يتجاوز مقابل ورق الرسم من نوع “كانسون” المعروف مع الحبر الصيني. وظل لمهادي يُنفق من جيبه على تزويد سيارته بالبنزين الذي يصل به من “البير الجديد” على متن سيارة صغيرة بيضاء من موديل “فيات 127”.

لكن لمهادي لم يكن طلب شيئاً. كان مناضلاً ونأى بنفسه عن الارتزاق، شأنه في ذلك شأن العديد ممن كانوا يكتبون وينشرون في الصحافة الاتحادية أيامها. وكثيرون منهم كانوا لا يوقعون مساهماتهم، أو يكتفون بأسماء مستعارة.

اعتقال الحطيئة

ذات يوم، جلس أمامي إبراهيم لمهادي، فكلّمته عن موعد لإجراء حوار فني معه حول تجربته وفن الكاريكاتير في المغرب، لفائدة مجلة “فنون”، وكنت أبعث لهذه المجلة العراقية ببعض المواضيع بين حين وآخر. ثم طلبت منه أن يرسم رسماً ذاتياً له بريشته الكاريكاتيرية. لكنه تردد ولما ألححت وعدني بأنه سيحاول. أذكر أني انشغلت عنه للحظات قبل أن يفاجئني برسم لوجهه، أنجزه بضربات سريعة على ورق جرائد أمامه. تطلعت إلى الرسم وأدخلته في جارور المكتب، على أن نجد وقتاً مناسباً لإجراء الحوار الموعود.

وبدل أن يظهر الرسم الذاتي لابراهيم لمهادي على صفحات المجلة البغدادية، سينشر في الصفحة الأولى ليومية “المحرر”، بعد تعرض لمهادي للاعتقال على يد البوليس في أحد أيام شهر تشرين الثاني/نوفمبر من سنة 1980.

كان رئيس التحرير في يومية “المحرر” هو المناضل الراحل مصطفى القرشاوي، وكان معروفاً بأنه هو من يكتب ركناً بلا توقيع باسم “بصراحة”. وأمام صدمة خبر اعتقال الرسام ابراهيم لمهادي، وجدت القرشاوي يومها ساهماً يفكر من أين سيبدأ كتابة ركنه اليومي، الذي قرر أن يخصصه لقضية توقيف الرسام. فبادرت إلى فتح جارور مكتبي وأخرجت منه الرسم الكاريكاتيري الذي رسمه لمهادي لنفسه، وأطلعت القرشاوي عليه. شكرني رئيس التحرير وخاطبني: – لقد أنهيت المشكلة. والتفت لمن حواليه طالباً منا استكمال البيت الشعري الذي قاله “الحطيئة” يهجو فيه نفسه.. ” أرى لي وجهًا شّوه الله خلقه، فقُـبِّحَ من وجهٍ وقبِّحَ حامِلُهُ”. وكتب تحت الرسم أن الرسام كان ساخراً كبيراً لا يُوفّر حتى نفسه.

ثم أشرفتُ على إعداد ملحق خاص تضامناً مع لمهادي ساهم فيه الصحفي والشاعر أحمد صبري. وجمعنا به عدداً من رسوم لمهادي في “المحرر”.

قصة الإعتقال

كان ابراهيم لمهادي يستعين بأفكار بعض الزملاء، وكنت واحداً منهم لاهتمامي الكبير بهذا الفن الجميل.

في إحدى المرات، طلب منه زميل بالجريدة رسم خيمة سيرك وبها عدد من المهرجين والحواة يتلاعبون بكرات صغيرة ويعدون المتفرجين بأن الصحة والتعليم والعدالة وغيرها من المطالب الاجتماعية ستتحقق بوصول عام 2000.

أنجز ابراهيم لمهادي الرسم وذهب كعادته. وفي كل مرة كان بوهلال يعد فيه الرسم للنشر في الصفحة الأولى، كان يضطر لتأجيله بسبب وفرة المواضيع، اعتباراً بأن مضمون الرسم راهن لا يفوت.. إلى أن صدر الرسم في عدد صادف الاحتفال بالذكرى الخامسة لـ”عيد المسيرة الخضراء”، وهي مناسبة وطنية يلقي فيها الحسن الثاني خطابه الملكي السامي. وفي الوقت الذي كان فيه المغاربة يتابعون خطاب الملك الذي تكلم فيه عن الإصلاحات التي ستتحقق في أفق الألفية المقبلة، كانت شركة “سبريس” لتوزيع الصحف والمجلات تُوزّع عدد جريدة “المحرر” الذي نشر به رسم كاريكاتيري ساخر يوافق مضمون الخطاب الملكي ليلتها.

إقرأ على موقع 180  مع كورونا.. صار وجودك هو الإرهاب!

أثار الرسم العاهل الحسن الثاني وأعضاء الديوان الملكي، ثم صدر الأمر بتوقيف الرسام ابراهيم لمهادي، والتحقيق معه عمّن سرّب له محتوى الخطاب الملكي.

ولأن الأجهزة الأمنية لم تكن تعرف عنوان سكن لمهادي، ولا ملامح وجهه وشكله، فقد أقدمت قوات من الشرطة ومن البوليس السري على محاصرة مقر الجريدة بزنقة الأمير عبد القادر، تحسباً لوصول الرسام الكاريكاتيري المطلوب. أغلقوا باب الجريدة بسيارة للأمن، وشرعوا يطلبون من كل داخل وخارج إبراز بطاقة هويته، أذكر أني لما كنت خارجاً أدليت لرجل أمن باللباس المدني بطاقتي المهنية، وهي بطاقة رسمية صادرة عن وزارة الإعلام، فما كان منه إلا أن رمى بها طالباً مني بعنف إخراج “لاكارت ناسيونال” (البطاقة الوطنية).

لم يستطع البوليس الوصول بسرعة إلى عنوان لمهادي، ولكنه استعان ـ للأسف ـ بمخبرين من الوسط الصحفي، وأخبرني لاحقاً المرحوم مصطفى الخوضي الصحفي بوكالة المغرب للأنباء، أنهم وصلوا إلى عنوان الرسام بواسطة صحفي سمّاه لي.

.. ومن أنا؟

بعد سنوات، سمعت القصة من ابراهيم لمهادي نفسه. كان الطقس خريفياً حاراً، إذ كانت البلاد تمر بسنوات جفاف قاسية، عندما سمع لمهادي من يدق باب بيته، فخرج ليصادف عون السلطة “المقدم”، الذي أخبره بأنه مطلوب للقيادة، تطلع لمهادي فرأى أشخاصاً آخرين برفقتهم رجال الدرك، فطلب منهم أن يتفضلوا لشرب “كاس أتاي” (شاي)، فجرّه دركي من خناقه وأمره بكونه هو من سيتفضل معهم.

أخذ الزوار وهم في حالة من الفرح والانشراح بما حصلوا عليه من صيد ثمين، وقادوا الرجل إلى كومسيارية المعاريف بشارع ابراهيم الروداني. هناك تحلق به مجموعة من رؤساء البوليس وحقّقوا معه في الصغيرة والكبيرة حول نشأته وتاريخه، وعلاقته بـ”المحرر” وبالمعارضين الاتحاديين، وموقفه من الملكية ومن الحسن الثاني. ثم هددوه باعتقال والدته المريضة والمسنة، وبإحالته على المحكمة العسكرية إن لم يتعاون معهم ويعترف بالحقيقة.

“قلت لهم من أكون أنا حتى يحتاج ملك عظيم من حجم الحسن الثاني لشهادتي، يكفي ما تقول عنه الصحافة الدولية، وما يقوله عن عبقريته صحفي كبير مثل الفرنسي إدوار صابليي”. ثم حكى لهم أن الرسم المعني أنجزه قبل أكثر من شهر على تاريخ نشره الذي صادف خطاب الملك، وأضاف أنه لا يمكن له مطلقاً التفكير في ما ذهبوا إليه.

بعد حملة وطنية ودولية ساهم فيها الاتحاد الدولي للصحفيين، سيجري إطلاق سراح ابراهيم لمهادي، وإثرها بأشهر قليلة حدثت انتفاضة 20 جوان/حزيران 1981 فأمر الملك بمنع يومية “المحرر” وعدم صدورها نهائياً.

الإبتعاد الطوعي

خلال ما يقارب العقدين من الأعوام، ابتعد لمهادي عن ساحة الكاريكاتور، ليتفرغ لرسم المناظر الطبيعية والقصبات التاريخية بالجنوب المغربي، وكان يبيع لوحاته بثمن زهيد لفرنسي كان يدير محلاً للتحف الفنية باسم “لامانوديير” بشارع الأمير مولاي عبد الله بوسط الدار البيضاء. ومن الصدف أنه كان من بين زبائنه ولي العهد (الملك محمد السادس حالياً)، ومعروف عن الملك عشقه الكبير للفنون التشكيلية، وسيشتري المكلف باقتناء اللوحات لولي العهد لوحات من محل “لامانوديير” تحمل توقيع ابراهيم لمهادي.

بعد رحيل الحسن الثاني، في سنة 2000 نجحت صداقتي الحميمية لابراهيم لمهادي في إعادته لمزاولة رسم الكاريكاتير. خصّصتُ صفحة لرسومه بمجلة اقتصادية أشرفت على تحريرها، ثم بدأ ينشر بأسبوعية “الصحيفة”.

لاحقاً، كان لمهادي هو الدافع لإقدامي على خوض تجربة الصحافة الساخرة، حين أصدرتُ أسبوعية “الانتهازي”، كان فيها إلى جانبي رفقة الرسام وأستاذ الفنون التشكيلية عبد اللطيف الصيباري، وسعد جلال، وساهم معنا الصحفي والرسام ابراهيم مبشور، وأحمد موتاج، وكان يراسلنا من مدينة أغادير هشام المنصوري.

سنوات الرصاص والحبر والفحم والطباشير

لما أحسست بعودة الروح للرسام لمهادي مع العهد الجديد وإطلاق حملة “الإنصاف والمصالحة”، أقنعته بالعمل على جمع أهم رسوماته خلال مسيرته الفنية لإصدراها بين دفتي كتاب. تطلب من لمهادي القيام بأسفار مكوكية ما بين الدار البيضاء والرباط لمراجعة أرشيف صحيفتي “العلم” و”المحرر”، ونقل الرسوم التي كان وقّعها قي بداياته باسم “أبو سيف”. اخترت الرسم الذاتي الخاص به ولوّنته وأنجزت غلاف الكتاب واضعاً عنوان “سنوات الرصاص والحبر والفحم والطباشير”، وقد نال العنوان إعجابه الشديد. ونحن قيد إعداد الكتاب، صادفت الشاعر والكاتب أحمد هناوي بباب الشركة التي كنا ننجز بها فرز الألوان وأفلام الطباعة، فحدثته عن المشروع وطلبت منه كتابة تقديم للكتاب، فكتب مقارنة بين ابراهيم لمهادي والرسام الليبي المشهور محمد محمد الزواوي الترهوني (1936-2011). وصدر الكتاب ضمن منشورات “السؤال – الملف”.

كان من حسنات صدور الكتاب المونوغرافي لأعمال ابراهيم لمهادي انتباه الجيل الجديد من الشباب العاملين في مجال رسم الكاريكاتير. وتم تكريمه في مهرجان وطني لفن الكاريكاتير بمدينة شفشاون، وآخر بمدينة أغادير، ولقاءات ثقافية وفنية أخرى.

في نيسان/أبريل 2021، مُنح لمهادي عن جدارة واستحقاق “جائزة محمود كحيل” للكاريكاتير في نسختها السادسة، فئة “إنجازات العمر”، تقديراً لخدمته الطويلة لفن الكاريكاتير.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  واشنطن تبتز المغرب بورقة "الصحراء".. هل نتخلى عن فلسطين؟