يقول الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان انه في صبيحة احد الأيام من شهر مارس/آذار 1990، كان عدنان ياسين يجلس مع بعض زملائه من أعضاء منظمة التحرير يتناولون الفطور في فندق “ميريديان مونبارناس” في باريس، والى الطاولة المجاورة لهم جلس رجل انيق الملبس مع ملامح شرق أوسطية وقد وضع مفتاح غرفته على الطاولة وهو يقرأ صحيفة مطبوعة على ورق اخضر باهت (صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية التي تصدر في لندن وتوزع في انحاء العالم). ولم تكن هذه الأشياء (الصحيفة.. والمفتاح) على الطاولة مجرد مصادفة، بل كانت إحدى الركائز التي يستند اليها عميل وحدة “المفصل” لإقامة الاتصال الاولي مع الشخص المستهدف للتجنيد، ذلك أن هذه المرحلة من عملية التجنيد هي مرحلة حساسة جداً وتتطلب انضباطاً وصبراً.
يشرح أحد ضباط وحدة “المفصل” الذي كان على صلة بعملية “جزة الصوف الذهبية” عملية التجنيد قائلاً: “أهم شيء في هذه اللحظة هو العمل على خلق السبب للجانب الآخر لكي يبادر بالقيام بالخطوة الأولى للاتصال، او على الأقل أن لا تتصرف بما يثير الشبهة ويدفع باتجاه رد فعل عدائي نحوك، فمثلاً يمكن ان تشتبه بشخص يأتي الى محطة الحافلات خلفك، ولكن شُبهتك به ستكون اقل إذا كان هذا الشخص في الحافلة عندما دخلتها انت. وعندما ادخل الى مصعد مثلاً ويركض خلفي شخص ما مسرعاً للامساك بالمصعد قبل ان يتحرك ومن ثم يخرج من المصعد في الطابق نفسه الذي خرجت اليه، تكون الشبهة كبيرة، ولكن الشبهة ستكون اقل إذا كان الشخص داخل المصعد عندما دخلته انا. نحن نتكلم عن عدد غير محدود من الأمور الصغيرة، ولكنها حساسة وتصنع فرقاً، والهدف منها ترك الأمور تسير بشكل طبيعي”. لذلك فان وجود المفتاح على الطاولة لخلق شعور الالفة وهو مؤشر الى ان الرجل الجالس هناك كان هو أيضاً ضيفا في فندق “ميريديان”، والصحيفة ذات الأوراق الخضراء (الشرق الأوسط) كانت معروفة جيداً للقراء العرب الذين كثيراً ما يسافرون.
أصبح عدنان ياسين استثماراً استثنائياً لجهاز “الموساد”، فمقابل عشرات آلاف الدولارات، زوّدهم بكم هائل من المعلومات ذات القيمة العالية جداً وذلك خلال اجتماعات عقدت خصيصاً لهذه الغاية في باريس. بداية زوّدهم بمعلومات عن المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في منطقة حمام الشاطئ في تونس
كان الحظ حليف رجل “الموساد” صباح ذلك اليوم في باريس. لماذا؟ لأن أحد أعضاء المجموعة الفلسطينية الذين كانوا يتناولون الفطور سأل رجل “الموساد” عن أمر ما في الصحيفة ولم يكن هذا الشخص ياسين نفسه، فبادر رجل “الموساد” لإعطائه الصحيفة بطريقة مهذبة ما فتح الباب امام محادثة أولى بين رجال المجموعة الفلسطينية ورجل “الموساد” الذي لم يتكلف عناء التواصل مع ياسين، فقام أحد أعضاء المجموعة بدعوة رجل “الموساد” للإنضمام إليهم، لكنه رفض بتهذيب وغادر المطعم كي لا يثير اية شكوك بإظهار تواقه للتواصل معهم.
في صباح اليوم التالي، تقدم رجال المجموعة نفسها من رجل “الموساد” لتوطيد التعارف بينهم وبينه، فقدّم نفسه على أنه رجل أعمال مصري إسمه حلمي، ومضى الجميع في محادثة تناولت أموراً مختلفة. بعد يومين، اتى عدنان ياسين الى مطعم الفندق وبدا وكأنه يبحث عن صحبة خلال تناوله وجبته، وكان يتحدث فقط باللغة العربية، لذلك بدا سعيداً عندما وجد حلمي مجدداً يقرأ الصحيفة ذاتها، فسأله إن كان بإمكانه الانضمام اليه، فأجابه حلمي معبراً عن سعادته. لقد كانت أفضل طريقة لإجراء الاتصال، فعدنان ياسين كان مقتنعاً بأنه هو من بادر الى البدء بالعلاقة ولم يكن لديه أي سبب للاشتباه بشيء، وقد أخبره حلمي انه يعمل في التجارة والاستيراد والتصدير بين فرنسا والعالم العربي، مُلمحاً الى انه يجني الكثير من المال من خلال هذا العمل، فأثار هذا الامر جشع ياسين وجعله يطلب من حلمي أن يلتقيا لاحقاً على الغداء في أحد المطاعم المجاورة للفندق.. فوافق حلمي، ولاحقاً التقيا هناك مرتين ثانيتين.
من خلال المعلومات التي كان يمتلكها “الموساد” عن ياسين، تمكنت وحدة “المفصل” من تكوين صورة غير مغرية عن شخصية الرجل، فقد تم تصويره على أنه مبتذل وغير مثقف وعدواني وخشن المعشر وجل اهتمامه، هو جيبه، وفي تقارير حلمي عنه يقول انه حاول اشراكه بعمليات مالية غير شرعية وعمليات تهريب بضائع الى تونس، ولاحقاً شاهد عملاء “الموساد” بأم العين سلوكه المنحط إزاء زوجته ولا سيما صفعه لها أمام الناس. باختصار، تبين أن ياسين صاحب افضل مقومات مطلوبة لتجنيده مع “الموساد”.
ومع تطور علاقة الصداقة بين الرجلين، اخبر حلمي “صديقه” عدنان ياسين انه يصادق رجل اعمال يرتبط بعلاقة وطيدة بالسفارة الإيرانية في باريس، وقد درت عليه علاقته هذه الكثير من الأموال، لكنه لم يعرض على ياسين ان يقدمه لهذا الصديق بل اكتفى بان ادلى بهذه المعلومة كطعم وانتظر بصبر كي يبلع الأخير الطعم، وأخيراً وبعد ان طلب ياسين من حلمي ان يصحبه معه عندما سيلتقي في المرة المقبلة هذا الصديق، تململ حلمي.. وتأتأ قليلاً كصياد يتلاعب بخيط الصنارة ولا يريد ان يسحب الصنارة فوراً فألحّ عليه ياسين لكن حلمي رفض. أخيراً وبعد مرور شهر على تلك الواقعة، وافق حلمي على تقديم ياسين لهذا “الصديق”. وبطبيعة الحال لم يكن هذا الرجل سوى أحد عملاء وحدة “المفصل”، وقد لعب دوره بشكل كامل فوصف لياسين عدداً من مبادرات العمل المستقبلية التي كان يُخطط لها، وقال له انه بالإمكان ان يكون له حصة في البعض منها، ولكن في الوقت نفسه أخبره ان الجمهورية الإسلامية في ايران مهتمة جداً بأحوال الفلسطينيين، وأنه من المهم جداً للإيرانيين ان يعرفوا ان منظمة التحرير تعمل بصورة جيدة و”يقومون بالعمل الصائب”.. وهنا كان يعني الاستمرار بالعمليات “الإرهابية” ضد “إسرائيل” خارج حدودها وتصعيد الانتفاضة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقال له “الجمهورية الإسلامية في إيران تفعل جهدها لتدمير الكيان الصهيوني ولإعادة ما للفلسطينيين إليهم.. واي معلومات في هذا الإطار سيكون مرحباً بها وسيجزى مقابلها بسخاء”. وقد راهن المسؤولون في وحدة “المفصل” على انه كان من الاسهل على ياسين ان يخون منظمة التحرير ببيع الاسرار الى إيران منها الى عدو المنظمة “إسرائيل”.
إكتشفت منظمة التحرير أمر عميل “الموساد” عدنان ياسين في العام 1993 ووضعته في سجن رام الله إلى أن تم الإفراج عنه في أيلول/سبتمبر 2003 بقرار من حكومة محمود عباس (أبو مازن)
وبالفعل نجح الرهان، يقول رونين بيرغمان، وأصبح ياسين استثماراً استثنائياً لجهاز “الموساد”، فمقابل عشرات آلاف الدولارات، زوّدهم بكم هائل من المعلومات ذات القيمة العالية جداً وذلك خلال اجتماعات عقدت خصيصاً لهذه الغاية في باريس. بداية زوّدهم بمعلومات عن المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في منطقة حمام الشاطئ في تونس، واعطاهم تفاصيل دقيقة عن النشاطات التي تتم فيه يوماً بيوم وعن الخطط التي تُرسم هناك كما اعطاهم تصاميم كل شيء ومن ضمنها البنيان التنظيمي بتفاصيله ومن يجلس في أي مكتب ومن يلتقي بمن، وكيف توزعت سلطات القائد الفلسطيني الراحل أبو جهاد (خليل الوزير) وكيف كانت تتم عمليات نقل السلاح وكيف كان يجري دعم الانتفاضة والتحضيرات التي كانت تجري لهجمات ضد “إسرائيل” وكيف تجري عمليات التجنيد، وكان يُضمّن تقاريره التفصيلية الكثير من النميمة ذات القيمة المعلوماتية العالية. اذ انه كان اول من كشف عن العلاقة القوية التي كانت تتطور بين سهى الطويل ابنة أحد الشعراء الفلسطينيين والرئيس ياسر عرفات الذي اتخذها بداية مستشارة له في مكتبه ليتزوجها بعد ذلك بوقت قصير.
ومن بين المعلومات الهامة، أوصل ياسين الى “الموساد” خطة عرفات واحد ضباطه جبريل الرجوب الهادفة إلى إغتيال إسحاق شامير وارييل شارون إنتقاماً لاغتيال أبو جهاد. وقد جُنّد لتنفيذ هذه الخطة يهودي “إسرائيلي” يعمل كقاتل مأجور وكان محبطاً غارقاً في الدين واسمه رافاييل ابراهام، ولكن ما ان حطّ من الطائرة في “إسرائيل” في أكتوبر/تشرين الأول عام 1992 وهو يحمل كمية كبيرة من الأموال مع خطة الاغتيال حتى أطبق عليه عملاء وحدة “العصافير”، فقد كان ياسين على علم تام بكل تفاصيل الخطة وكان هو من نظم تدابير سفره. وقد علق الرجوب المتفاجئ على ذلك بالقول “حقيقة لا افهم كيف عرف الشين بيت بهذه السرعة، فهو لم يكن قد فعل أي شيء. فقط خرج من الطائرة وسرعان ما طبوا عليه واعتقلوه”.
كان عدنان ياسين نبعاً لا ينضب من المعلومات وثروة لا يمكن تخيل قيمتها، اذ من خلاله استطاع “الموساد” الوصول إلى شبكة تنفذ لائحة الإغتيالات، وذلك ببساطة لأنه هو من ينظم كل تدابير السفر وحجوزات الفنادق لأفراد الشبكة. واحد الأمثلة على ذلك ما حصل في أواخر يناير/كانون الثاني عام 1992 عندما سمحت السلطات الفرنسية عبر الصليب الأحمر الفرنسي للأمين العام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش ان يدخل فرنسا في رحلة علاجية على الرغم من انه كان من بين أكبر المطلوبين لديها ولدى غيرها من الدول الغربية، وبالاستناد الى معلومات ياسين تفحص “الموساد” إمكانية تصفية حبش ولكن الفرنسيين كانوا قد اتخذوا اقصى التدابير لحمايته، لذلك وبدلاً من اغتياله قام “الموساد” بتسريب الخبر ـ الفضيحة الى الصحافة (الفرنسية)، فتسبب ذلك بإحراج شديد لحكومة الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران.
يذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية إكتشفت أمر عميل “الموساد” عدنان ياسين في العام التالي (1993) ووضعته في سجن رام الله إلى أن تم الإفراج عنه في أيلول/سبتمبر 2003 بقرار من حكومة محمود عباس (أبو مازن).