“الشرق ينهض، والغرب يتراجع”، إعلان أدلى به القادة الصينيون بالتزامن مع تولي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه. الجزء الثاني من هذا الإعلان قد يجذب الانتباه أو الاعتراضات الغاضبة في واشنطن وعواصم الحلفاء. لكن الجزء الأول أصبح محل شبه إجماع: “صين” واثقة من نفسها، تستند إلى سنوات من الأداء الاقتصادي المُبهر والقيادة القوية لشي جين بينغ، احتلت مكانتها كقوة عالمية، وتقريباً قبلت بأن المنافسة على المدى الطويل مع الولايات المتحدة أمرٌ لا مفر منه.
مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) خصصت عددها الصادر في تموز/يوليو – آب/أغسطس 2021 للملف الصيني، من زوايا عديدة، لا سيما العقبات التي تعترض الصين في أن تستمر في تحقيق نجاحات مستمرة. فالأداء الحالي لا يضمن النتائج المستقبلية، لأن التحديات شاقة، وهذا ما يدركه جيداً الرئيس الصيني شي جين بينغ، الأمر الذي يفسر إلحاحه وجرأة أجندته، كما يقول الباحث الأميركي جود بلانشيت، الذي يشغل كرسي “فريمان” للدراسات الصينية في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (The Center for Strategic and International Studies) في واشنطن.
وكتب بلانشيت يقول إن شي جين بينغ سارع في مستهل رئاسته إلى تعزيز سلطته السياسية وتطهير الحزب الشيوعي من الفساد المستشري، وتهميش أعدائه. وعكف كذلك على “ترويض” التكتلات التجارية “الطموحة” العاملة في قطاعي التكنولوجيا والمال، وسحق المعارضة الداخلية، وعمل على تكريس نفوذ الصين على الساحة الدولية. ويقول بلانشيت إن “الطموح والإعدام ليسا الشيء نفسه، وقد وضع جين بينغ بلاده الآن في مسار محفوف بالمخاطر، وهو المسار الذي يهدّد الإنجازات التي حققها أسلافه في حقبة ما بعد ماو تسي تونغ”.
ما يشهده العالم حالياً من إستقطابات ونشوء تكتلات جديدة (سياسية وإقتصادية وأمنية)، فضلاً عن الإنسحاب الأميركي من أفغانستان وما تشهده منطقتنا من حراك في أكثر من ساحة، يشي ذلك كله بأن الولايات المتحدة ستجعل “الخطر الصيني” التحدي الأول على جدول أعمالها
هناك ديناميكية مماثلة تلعب دوراً في المجال الاقتصادي. ويشير دانييل روزين (شريك مؤسس لمجموعة Rhodium Group ويقود عمل الشركة في آسيا) إلى أن سجل بكين الأخير في السياسة لا يتفوق على العالم، ولكنه سجل محاولات فاشلة للإصلاح الذي تشتد الحاجة إليه، يليه تراجع مذعور للسيطرة المركزية. في غضون ذلك، فإن جهود الصين الرسمية للتغلب على “عصرها الذهبي” قد تعثرت بسبب قمع جين بينغ المتزامن للقوى ذاتها التي يمكن أن تروّض عدم المساواة والفساد في البلاد، كما يكشف يوين أنج (أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة ميشيغان، ومؤلف كتاب “العصر الذهبي للصين: مفارقة الازدهار الاقتصادي والفساد الهائل”).
هناك مخاطر أخرى تلوح في الأفق خارج حدود الصين. ينقل اثنان من أهم الباحثين في الصين كيف يبدو العالم اليوم من بكين، حيث أوضح يان شوتونغ (أستاذ متميز وعميد معهد العلاقات الدولية في جامعة تسينغهوا) رغبة الصين المتزايدة لتحدي الهيمنة الأميركية، وشرح وانغ جيسي (رئيس معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية في جامعة بكين) سبب “يعتقد معظم المراقبين الصينيين الآن أن الولايات المتحدة مدفوعة بالخوف والحسد للاحتواء. الصين بكل طريقة ممكنة”. وتقول أوريانا سكايلر ماسترو إنه، وسط انعدام الثقة هذا، “للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، حان الوقت لنأخذ بجدية احتمال أن تستخدم الصين القوة قريباً” ضد جزيرة تايوان.
هذا العام، تحتفل بكين بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني بـ”تبجح قومي” و”سيل من التاريخ الرسمي للحزب الذي يصوّر الصين على أنها قوة متجانسة”، كما كتب أورفيل شيل (مدير مركز العلاقات الأميركية الصينية في جمعية آسيا ومؤلف رواية “بيتي القديم”). ومع ذلك، وفي تتبع مسار الصين والحزب الشيوعي خلال القرن الماضي، يوضح شيل أن مثل هذا الانتصار يخفي ماضياً أكثر تعقيداً وتنوعاً. ربما الأهم من ذلك أنه يخفي حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الصين.
ما يشهده العالم حالياً من إستقطابات ونشوء تكتلات جديدة (سياسية وإقتصادية وأمنية)، فضلاً عن الإنسحاب الأميركي من أفغانستان وما تشهده منطقتنا من حراك في أكثر من ساحة، يشي ذلك كله بأن الولايات المتحدة ستجعل “الخطر الصيني” التحدي الأول على جدول أعمالها، حتى لو إقتضى الأمر تحييد روسيا في المرحلة الأولى.
في إطار الإضاءة على هذا الملف الهام، ينشر موقع (180بوست) موضوعين مترجمين عن “فورين أفيرز” أولهما غداً (الإثنين) يتطرق إلى السياسة الخارجية للصين في مرحلة ما بعد إنتشار فيروس “كورونا”.
(*) النص الأصلي الذي نشره موقع “فورين أفيرز” باللغة الإنكليزية.