الصين إلى “ثنائية قطبية” لا تفسد بالود قضية مع أميركا (3)

خصّصت مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) عددها الصادر في تموز/يوليو – آب/أغسطس 2021 للملف الصيني، وتضمن مقالات عدة، بينها مقالة للكاتب يان شوتونغ، عميد معهد العلاقات الدولية في جامعة تسينغهوا بعنوان "الصين.. أن تصبح قوياً". في هذا الجزء الثالث، يؤكد شوتونغ أن بكين تأمل بحص توترها مع أميركا في المجال الإقتصادي فقط!

أثار انتخاب جو بايدن في البداية الآمال لدى المسؤولين الصينيين ووسائل الإعلام في أن واشنطن ستعيد التفكير في سياستها تجاه بكين وبشكل أساسي. لكن، سرعان ما تلاشى هذا التفاؤل. وبدلاً من الانقطاع الجذري، فإن سياسات بايدن حتى الآن، هي من نواح كثيرة، استمرار لنهج المواجهة الذي اتبعه سلفه دونالد ترامب. ونتيجة لذلك، من غير المرجح أن تصبح العلاقات الأميركية – الصينية أقل توتراً أو تنافسية مما كانت عليه في السنوات الأخيرة.

إن غزوات ـ محاولات إدارة بايدن تشكيل تحالفات قائمة على قضايا معارضة للصين بشأن التكنولوجيا وحقوق الإنسان، لا بد أن تكون مصدراً للتوتر بين الطرفين في السنوات المقبلة. وتعتبر بكين ذلك أنه أخطر تهديد خارجي لأمنها القومي، وأكبر عقبة أمام تجديد شباب الأمة.

وتشكل التحالفات التكنولوجية المناهضة للصين بقيادة الولايات المتحدة عقبة في طريق الصين نحو التفوق التكنولوجي.. ولمواجهة محاولات الولايات المتحدة تشكيل مثل هذه الائتلافات، بدأت بكين بالفعل في تعزيز شراكاتها الإستراتيجية الثنائية. ففي غضون أسابيع من بعد الصدام العلني الذي وقع بين الممثلين الأميركيين والصينيين في  قمة ألاسكا، في وقت سابق من هذا العام، شرعت بكين في حملة دبلوماسية واسعة النطاق. فقد أرسلت وزير دفاعها إلى البلقان، ووزير خارجيتها إلى الشرق الأوسط. والأخير وقّع على اتفاقية تعاون استراتيجي مع إيران مدتها 25 عاماً، وتعهد في الوقت نفسه بإستثمارات صينية في البلاد قيمتها 400 مليار دولار. كذلك، استقبلت الصين وزراء خارجية كل من إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وكوريا الجنوبية، ووقعت بياناً مشتركاً مع روسيا يشير محتواه إلى أن “التعاون الصيني – الروسي” لا يستهدف أي طرف ثالث، وذلك في خروج عن التقاليد والتأكيدات المعتادة في مثل هكذا تعاون. (في السنوات المقبلة، من المرجح أن تصبح موسكو شريكاً مهماً لبكين في مهمات رئيسية مثل التصدي لتسييس قضايا حقوق الإنسان، وتعزيز نماذج بديلة للديموقراطية والتعددية بعيداً عن الايديولوجيا). كما بعث الرئيس الصيني شي جين بينغ برسالة إلى زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يُعلن فيها استعداده لمواصلة تعزيز علاقات بكين مع بيونغ يانغ.

بالرغم من أن الصين لم تتخل عن مبدأ التوحيد السلمي حتى الآن، إلا أنها قد تفعل ذلك إذا ما أعلنت تايوان استقلالها الذاتي. وكلما دعمت الدول الأخرى سياسات تايوان الإنفصالية، سارع جيش التحرير الشعبي الصيني إلى رفع الجهوزية وعدد المناورات العسكرية التي يقوم بها بهدف ردع تايوان

تحدي تايوان

بكين لا تزال تأمل في أن تتمكن من حصر التوتر مع واشنطن في المجال الاقتصادي، وتجنب المواجهات العسكرية المسلحة. ومع ذلك، فإن خطر نشوب صراع حول تايوان، على وجه الخصوص، آخذ في الإزدياد. بكين تؤكد في خطتها الخمسية الأخيرة إلتزامها بالسعي إلى تحقيق السلام والإزدهار عبر مضيق تايوان، وهي سياسة طالما حالت دون نشوب حرب أميركية صينية محتملة على الجزيرة. وبالرغم من أن الصين لم تتخل عن مبدأ التوحيد السلمي حتى الآن، إلا أنها قد تفعل ذلك إذا ما أعلنت تايوان استقلالها الذاتي. وكلما دعمت الدول الأخرى سياسات تايوان الإنفصالية، سارع جيش التحرير الشعبي الصيني إلى رفع الجهوزية وعدد المناورات العسكرية التي يقوم بها بهدف ردع تايوان.

في غضون ذلك، تأمل بكين في التوصل إلى تفاهم ضمني مع واشنطن على أن الحفاظ على السلام في مضيق تايوان هو مصلحة مشتركة.

هذا لا يعني أن التعاون مع واشنطن غير وارد. فقد أعربت بكين مراراً عن استعدادها للعب دور نشط في إصلاح أنظمة الحوكمة العالمية، ومساعدة الاقتصاد العالمي على التعافي بعد جائحة كورونا، ومواجهة التحديات العابرة للحدود بالتنسيق مع واشنطن. وبالفعل، التقى مبعوث الصين للمناخ، شي جينهوا، بنظيره الأميركي جون كيري. وكان وزير الخارجية الصيني وانغ يي قد أعلن أن بلاده لا تعارض جهود إدارة بايدن لإعادة إطلاق الإتفاق النووي الإيراني لعام 2015. كذلك، ناقش دبلوماسيون أميركيون وصينيون الاعتراف المتبادل باللقاحات الخاصة بفيروس COVID-19 التي يعتمدها كل طرف من أجل تسهيل إجراءات السفر. وفي الوقت نفسه، تبدي الصين إنفتاحها غير المشروط لإجراء مفاوضات تجارية على أساس ما يُسمى باتفاقية المرحلة الأولى التي وقعتها إدارة ترامب في عام 2020. وقد اعترف مسؤولون أميركيون، بينهم وزير الزراعة توم فيلساك، بأن الصين قد وفت حتى الآن بالوعود التي قطعتها بخصوص هذا الاتفاق.

تنافس شرس

حتى لو استمرت المنافسة، فمن الأفضل التفكير فيها على أنها سباق، وليس مباراة ملاكمة: يبذل كل جانب قُصارى جهده للمضي قدماً، ولكن ليس لديه أي نية لتدمير الآخر أو تغييره بشكل دائم. ففي عام 2019، وقبل أن يصبحا مسؤولين رفيعي المستوى في مجال الأمن القومي في إدارة بايدن، جادل كل من كورت كامبل (مسؤول آسيا الأعلى في مجلس الأمن القومي) وجيك سوليفان (مستشار الأمن القومي الحالي) كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتحدى الصين وتتعايش معها في الوقت نفسه، وكيف يمكن لها أن تخوض المنافسة معها إلى النهاية بدون أن تقع كارثة. وكتبا يقولان:  ثمة افتراض أنه يمكن أن يحدث تغييرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصادي للصين، خصوصاً في سياستها الخارجية.. إن الهدف الأكثر واقعية هو السعي إلى حالة من التعايش المستقر والواضح، وبشروط تتناسب ومصالح الولايات المتحدة وقيمها”. هذا الرأي ليس بعيداً جداً عن أمل وانغ في أن ينخرط كلا الجانبين في “منافسة صحية” تقوم على “تحسين الذات وإلقاء الضوء على الجانب الآخر، بدلاً من الهجمات المتبادلة ولعبة المحصلة الصفرية”. فإذا لم تكن بكين ولا واشنطن تنوي إخضاع الآخر، فإن التنافس بينهما سيكون شرساً – ولكنه أكثر اعتدالاً من الصراعات التي كانت قائمة بين القوى العظمى في القرن العشرين.

من المرجح أن تؤدي هذه الصراعات إلى زيادة عدم الاستقرار السياسي وتسريع الاتجاه نحو إلغاء العولمة في العقد المقبل. ومع ذلك، سيكون هكذا واقع أفضل بكثير من تقسيم العالم إلى كتل جيوسياسية جامدة

ساحات جديدة للمعارك

إقرأ على موقع 180  الياس جرادة.. أول شيوعي في البرلمان اللبناني

كيف ستنعكس هذه المنافسة في الممارسة العملية؟

سوف تتكشف، على سبيل المثال، ساحات معارك جديدة، وعلى رأسها الفضاء الإلكتروني. نظراً لأن المجال الرقمي يستحوذ على المزيد والمزيد من حياة الناس، سيصبح الأمن السيبراني أكثر أهمية من الأمن الإقليمي. وبالفعل، فإن الاقتصاد الرقمي ينمو بسرعة متزايدة باعتباره حصة من الناتج المحلي الإجمالي للقوى الكبرى، مما يجعله مصدراً أساسياً للثروة الوطنية. وسوف يشكل السباق على الريادة في شبكات الاتصالات 5G  و6G محور المنافسة على نحو متزايد. وفي الوقت الحالي، يبدو أن الصين في الصدارة في هذا المجال. فبحلول شباط/فبراير 2021، استحوذت الشركات الصينية، بينها شركة التكنولوجيا العملاقة “هواوي”، على 38 في المائة من براءات اختراع الجيل الخامس المعتمدة، مقارنة بنحو 17 في المائة للشركات الأميركية. (ومع ذلك، لا تزال المنصات الرقمية الأميركية متقدمة على نظيراتها الصينية في مناطق أخرى، وتمثل المنصات الرقمية الأميركية حوالي 68 بالمائة من الاقتصاد الرقمي العالمي من حيث رأس المال السوقي، مقارنة بنسبة 22 بالمائة فقط للشركات الصينية).

في غضون ذلك، سيأخذ التعاون الدولي، وبشكل متزايد، شكل تحالفات خاصة بقضايا محدَّدة بدلاً من المؤسسات الدولية (أو حتى الإقليمية) الحقيقية. وفي بعض الأحيان، قد تنتمي بكين وواشنطن إلى ذات الأندية: عندما يتعلق الأمر بمنع انتشار الأسلحة السيبرانية وأنواع معينة من أجهزة وأدوات الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال. وعلى المدى الطويل، يمكن للقوى الرقمية العظمى أن يكون لها مصلحة مشتركة في إدخال وإنفاذ بعض اللوائح الضريبية الدولية لحماية شركاتها الخاصة من الإستنزاف من قبل بلدان أخرى. بيد أن الصين والولايات المتحدة ستبنيان في معظم الأحيان فرقاً متنافسة، مع ترك هامش حرية الاختيار أمام الدول الأخرى لتقرر إلى من تنضم وعلى أساس كل حالة على حدة، اعتماداً على الترتيب الذي يخدم مصالحها الوطنية على أفضل وجه. وسوف ترحب معظم الحكومات بهذا الاتجاه، بعد أن تبنت بالفعل استراتيجيات تحوط لتجنب الانحياز لإحدى القوتين.

بطبيعة الحال، سوف يجلب النظام الدولي القائم على “الأندية” تعقيدات خاصة به: فالدولة التي ستنضم إلى تحالفات بقيادة واشنطن وتحالفات أخرى بقيادة بكين ستكون شريكاً غير جدير بالثقة من كلا القوتين. قد يصبح من الشائع أيضاً أن يعاقب أعضاء التحالف الواحد بعضهم البعض على الإجراءات التي تتطلبها عضويتهم في أندية أخرى. على سبيل المثال، تُعد كل من أستراليا والصين أعضاء في الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي اتفاقية تجارية بين عشرات الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لكن النزاعات حول حقوق الإنسان أدت مؤخراً إلى قيام أستراليا بإلغاء صفقة مبادرة الحزام والطريق مع الصين، التي ردت بتعليق اتفاقية الحوار الاقتصادي بين البلدين. وبالمثل، غالباً ما أبلغت دول أوروبا الشرقية الدبلوماسيين الصينيين أن عضويتها في الاتحاد الأوروبي تجبرها على الوقوف ضد الصين في الأمور السياسية. ومع ذلك، تتعاون الدول نفسها مع الصين في مجال الاستثمار والتكنولوجيا في البنية التحتية، مع المخاطرة بانتهاك لوائح الاتحاد الأوروبي، مستشهدة بمشاركتها في التعاون بين الصين ودول وسط وشرق أوروبا، وهو منتدى دبلوماسي في المنطقة بدأته الصين.

من المرجح أن تؤدي هذه الصراعات إلى زيادة عدم الاستقرار السياسي وتسريع الاتجاه نحو إلغاء العولمة في العقد المقبل. ومع ذلك، سيكون هكذا واقع أفضل بكثير من تقسيم العالم إلى كتل جيوسياسية جامدة. فطالما بقيت الدول الفردية أعضاء في أندية على جانبي الانقسام، فلن يكون من مصلحتها حصر نصيبها مع جانب واحد فقط. سيؤدي هذا التكوين “الثنائي القطب” إلى بعض التوتر، ولكن بشكل عام، سيكون أقل خطورة بكثير من المنافسة الشاملة على غرار الحرب الباردة.

بدأت سياسة الصين الخارجية بعد جائحة كورونا في التبلور. ولطالما عدلت بكين سياساتها لتتلاءم مع الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة، متبعة نهج دنغ شياو بينغ في “عبور النهر من خلال الشعور بالحجارة”. الحقبة المقبلة لن تكون مختلفة: الإنجازات والإخفاقات سوف تُحدّد مسار الصين وخياراتها. ومع ذلك، فإن خلفية هذه التعديلات ستكون مشهداً عالمياً متغيراً بشكل جذري، حيث لن تكون القرارات الأحادية الجانب من قبل واشنطن ومختلف التحالفات والائتلافات الخاصة بقضايا معينة قابلة للحياة كما كانت من قبل. ونظراً لأن العديد من الدول تستعد للعودة إلى الحياة بعد جائحة كورونا، فيجب عليها أن تتصالح مع هذا الواقع الجديد.

(*) النص الأصلي في “فورين أفيرز”

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  تركيا تستثمر "قانون قيصر": ترسيخ الاحتلال