غاز لبنان بين “إبتسامات هوكشتاين”.. و”عبسة حزب الله”! 

أما وقد أزاح حزب الله "ستار التقية" معلناً الانتقال إلى "أمام الدولة" في ملف النفط والغاز، ترسيماً وتنقيباً واستخراجاً وتصديراً من خلال معادلة "غاز لبنان مقابل غاز كاريش وما بعد بعد كاريش"، يكون المتوقع أصبح واقعاً، وبات الملف بنداً رئيسياً في مسألتين مترابطتين، الأولى الصراع الإقليمي ـ الدولي والاتفاق النووي، والثاني الصراع الداخلي بين الطوائف على الحصص والأحجام وطبيعة النظام.

يمكن القول إن ملف الترسيم والثروة النفطية كما لبنان والمنطقة كلها، أصبح امام أحد احتمالين. الأول، تسوية إقليمية كبرى تتضمن توقيع الاتفاق النووي وتقاسم النفوذ بين إيران بوكالتها القديمة عن الصين والمستجدة عن روسيا، وتركيا وإسرائيل بوكالتيهما المتجددتين عن أميركا وأوروبا في ظل غياب مأساوي للعرب عن المشاركة في تقرير مصيرهم باستنثاء السعودية ودول الخليج التي نجحت في حجز موقع يناسبها. وهذا يقود مباشرة إلى فتح الباب لتسوية المسألة الثانية، أي سلاح حزب الله وطبيعة النظام وحصص الطوائف. اما الاحتمال الثاني فهو إبقاء الوضع كما هو عليه، حيث يسعى كل طرف إلى تحسين مواقعه وحشد ما تيسر من حلفاء وأوراق، من دون استبعاد إمكانية تسخين مدروس للجبهات لتقوية أوراق التفاوض أو لتبرير التنازلات وإباحة المحظورات تحت ضغط الضرورات.

ولما كان الاحتمال الثاني هو المرجح حتى الآن، فإن زيارة الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين، لن تخرج عن سياق ونتائج زياراته السابقة وزيارات من سبقه من وسطاء. فالبحث لم يصل بعد إلى الترسيم، ويبدو انه سيقتصر حتى إشعار آخر على طرح المزيد من الخطوط من إلى 23 و29 وصولاُ إلى خط هوكشتاين “الزيك زاك”.

وبين الخطوط والمفاوضات أو “المماحكات” اللبنانية طوال 15 سنة، تحولت إسرائيل دولة منتجة ومصدرة للغاز. لذلك، ليتروى المتفائلون بقرب التوصل إلى اتفاق على الترسيم، وليوقفوا التحضيرات لحفل التوقيع في الناقورة، واستئجار “درونز” لتصويره، فقد يتم استبدالها بمُسيرات مسلحة، ما يؤدي إلى خلط الأوراق وربما وقف أو تعطيل استخراج الغاز الإسرائيلي.

هل تنجح الطائفة الشيعية التي فرضت نفسها “كقوة قادرة على التعطيل” منذ اتفاق الدوحة، في فرض نفسها كقوة قادرة ومؤهلة للحكم ولعب الدور الذي لعبته الطائفة المارونية بنقل لبنان إلى مصاف الدول المتقدمة بين الدول النامية. وكذلك الدور الذي لعبته الطائفة السنية بعد اتفاق الطائف

هل باتت إيران أقوى من أميركا؟

هنا يثار السؤال المشروع، كيف يستقيم تحليل، ينطلق من أن إيران أصبحت أقوى من أميركا وقادرة على تعطيل مشروع بأهمية غاز المتوسط، وذلك بالاعتماد على حزب الله، وعلى تقارب ملتبس مع روسيا وتحالف اكثر التباساً مع الصين لأنه محكوم بمصالحها العليا مع أميركا.

والجواب يلخصه قول شهير لوزير الخزانة الأميركي الأسبق هنري بولسون جونيور في معرض تعليقه على التهديد الصيني لقوة أميركا المالية، فيعتبر أن “الخطر الحقيقي لا ينبع من قوة الصين بل من ضعف أميركا”. وتلك هي حقيقة العلاقة بين أميركا وحلفائها وإيران وحلفائها. فإيران ليست أقوى من أميركا، بل هي تعاني ضعفاً بنيوياً مزمناً، تفاقم وتعمق بفعل العقوبات. وقوتها السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية لا تقارن بقوة حلفاء أميركا في المنطقة، وليس بقوة أميركا نفسها. وحتى روسيا، فلا تمتلك من مقومات الدولة العظمى سوى القوة العسكرية والنووية تحديداً. فهي لا تزال كما بقية الدول النامية تعتمد على تصدير المواد الخام من نفط وغاز وحبوب ومعادن. ولكن إيران وروسيا تمتلكان ما تفتقده أميركا وحلفائها، وهو إرادة الصراع والصمود، حتى لو تتطلب الأمر مواجهات عسكرية غير متكافئة. وذلك ما حدث في سوريا والعراق والقرم وأوكرانيا.

ارتباك أميركي 

وفي المقابل، نرى أن أميركا، التي ما تزال وستبقى حتى إشعار آخر القوة العظمى الأولى، قد اختارت منذ عهد باراك أوباما التخلي عن عنصر تفوقها الرئيسي وهو قوتها العسكرية وإرادة استخدامها التي أمنت لها التفوق السياسي والاقتصادي والمالي. إذ انكفأت من كل ميادين الصراع مكتفية بسلاح العقوبات الذي بدأ يفقد فعاليته. وارتدت إلى الداخل تنفيذاً لشعار “أميركا أولاً” والتركيز على مواجة الصين، وكأن مواجهة الصين تتم في خليج تايوان فقط، وليس في كل مضائق وبحار العالم. وهي تعاني حالياً وهناً وإرباكاً وتردداً كما شخصية الرئيس جو بايدن، الذي بدأ ولايته بمغازلة إيران واسترضائها لتوقيع الاتفاق النووي. ونفذ الانكفاء في سوريا والانسحاب المذل من العراق وافغانستان. وأرفق ذلك بإعلان القطيعة مع حلفائه في المنطقة الذين صنّفهم بين “مستبد” و”منبوذ”. ليعود بعدها إلى معاداة إيران واسترضاء الحلفاء في العالم والمنطقة، مرتضياً الاجتماع بولي العهد السعودي، “وبلع إهانة” استقباله في قصره وليس في المطار.

وهذه “الأميركا”، عسى ان لا تتدخل لدعم حلفائها في لبنان لا في ملف الترسيم ولا في غيره، لأن اقصى ما يمكن ان تقدمه لهم، إما بواخر سلاح لإشعال حرب أهلية، وإما بوارج لإجلائهم في استعادة لمشهد طائرات مطار كابول.

ذعر أوروبي

أما أوروبا، فقد استفاقت مذعورة على كابوس الحرب في فنائها الخلفي بعد عقود من الأمن والاستقرار، أهملت خلالها بناء قوتها العسكرية، مكتفية بالاعتماد على أميركا وحلف الناتو. وها هي تكافح حالياً للحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي الذي يهتز بعنف تحت وطأة الحرب الأوكرانية من جهة، ووطأة أزمة الطاقة ومعضلة الارتهان للغاز الروسي غير القابلة للمعالجة في المدى المنظور من جهة أخرى.

وهذه “الأوروبا” الحائرة بين “الموت على صدر بوتين أو في دفتر أشعار بايدن”، هي أعجز من تقديم العون لحلفائها في مواجهة إيران.

إقرأ على موقع 180  الحراك الدبلوماسي لبنانيًا.. تهيب من الإرتطام الكبير

وحتى تركيا السنية التي يفترض أن تشكل عنصر توازن في مواجهة نفوذ إيران الشيعية، فيبدو أنها ليست بهذا الوارد، فهي تركز على حفظ مصالحها وتحقيق طموحاتها القومية سواء في سوريا والعراق باقتطاع مناطق واسعة منهما لمنع إقامة دولة كردية، أو في شرق المتوسط لاسترجاع ما تعتبره البحر التركي الذي حرمت منه بموجب اتفاقية لوزان عام 1923.

إذن، نجحت إيران وحلفائها في تحويل الضعف إلى قوة وانتصارات، في حين “نجحت” أميركا وأوروبا وحلفائها في تحويل القوة إلى ضعف وهزائم.

طوائف لبنان: رهانات قاتلة

كل ذلك يثير سؤالا ثانياً أكثر مشروعية. هل ضعف أميركا هو أعراض شيخوخة تتفاقم بسرعة تميهداً للانهيار والاندثار؟ أم هو مجرد “وعكة” طارئة سرعان ما تزول؟ أم ان الوضع هو مزيج من الاحتمالين، وليكون ضعف أميركا ناجم عن ارتباك طبيعي في السياسات والخيارات ومتطلبات التكيف في مرحلة انتقالية بين حقبة القطب الواحد والعولمة التي تنعمت فيها أميركا بحكم العالم، وبين حقبة القطبين (الصين واميركا) والتكتلات الإقليمية كبديل للعولمة التي فقدت صلاحيتها في خدمة مصالح أميركا.

لا بد من التأكيد هنا، ان الخطر الأكبر الذي يواجه لبنان حالياً هو رهان احد مكوناته ممثلاً بحزب الله والطائفة الشيعية على الاحتمال الأول، ورهان المكونات الأخرى ممثلة بأحزاب المعارضة والتغيير، إذا جاز التعبير، على الاحتمال الثاني. متناسين أن الاحتمال الثالث هو المرجح. ومتناسين أن العلاقة بين الصين وأميركا ليست “حرب إلغاء” بل تنافس على الحصص، فالصين ليست الاتحاد السوفياتي، وهي كما يقال دائماً “تريد فرض اليوان الأحمر وليس الكتاب الأحمر”. والعلاقة بينهما محكومة بالتسويات وليس بالانتصارات.

هذه “الأميركا”، عسى ان لا تتدخل لدعم حلفائها في لبنان لا في ملف الترسيم ولا في غيره، لأن اقصى ما يمكن ان تقدمه لهم، إما بواخر سلاح لإشعال حرب أهلية، وإما بوارج لإجلائهم في استعادة لمشهد طائرات مطار كابول

خيار التسويات العاقلة

وعليه فإن المطلوب من “شعوب لبنان” قليلاً من التواضع والبدء ببحث جدي في التسوية الداخلية وعدم انتظار التسوية الإقليمية وتجنب ان يكونوا مجرد وقود لإنضاجها. وقد يكون من واجب حزب الله باعتباره الأقوى وصاحب المصلحة الأكبر في التسوية والتغيير، العمل على تطوير رؤية للحكم والنظام تشمل النواحي الدفاعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتشارك في بلورتها كافة مكونات ونخب الطائفة الشيعية حتى غير المنضوية في إطار “الثنائي” (أمل وحزب الله). ولتشكل هذه الرؤية أرضية لحوار جدي مع بقية الشعوب اللبنانية، حول التسوية الموعودة وليس لحوار فولكلوري كما جرت العادة.

علماً ـ وهذا الكلام قد لا يعجب الكثيرين ـ ان أي تسوية تضمن تجنب الحرب الأهلية وتحفظ لبنان الكبير “كبيراً” لا بد أن تعكس ميزان القوى الحالي الذي يميل لصالح الطائفة الشيعية. ليس لأنها الأقوى من الناحية العسكرية عدة وعديداً وتنظيماً، فهذه قوة وهمية ومؤقتة في بلد الطوائف وارتباطاتها الخارجية، بل من الناحية العددية والموارد المالية والبشرية والالتفاف شبه المطلق حول “الثنائي”، إضافة إلى حالة التهميش التي عانتها والتي تم تجاوزها بفرض أمر واقع، والمطلوب تجاوزها بحكم القانون والدستور. يضاف إلى ذلك العامل الأهم وهو أن أي تسوية إقليمية لا يمكن أن تتم إلا إذا اعطيت إيران وحزب الله حصة وازنة في لبنان.

ويبقى السؤال الكبير، هل تلتقط الطائفة الشيعية هذه اللحظة التاريخية لإبرام تسوية مستغلة تضافر عوامل قوتها المشار إليها، وهي عوامل متغيرة لن تدوم. وهل تنجح الطائفة الشيعية التي فرضت نفسها “كقوة قادرة على التعطيل” منذ اتفاق الدوحة، في فرض نفسها كقوة قادرة ومؤهلة للحكم ولعب الدور الذي لعبته الطائفة المارونية بنقل لبنان إلى مصاف الدول المتقدمة بين الدول النامية. وكذلك الدور الذي لعبته الطائفة السنية بعد اتفاق الطائف بفضل وجود شخصية مثل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تتمتع بكاريزما وقدرات فذة وبدعم دولي وعربي وخليجي وسعودي غير مسبوق وغير قابل للتكرار. علماً ان “الإنجازات” التي حققتها هاتين الطائفتين استندت إلى احتضان عميق للبنان من محيطه العربي ومن المجتمع الدولي. ولتشكل ثروة النفط والغاز عنصراً مهماً تستغله الطائفة الشيعية لتحقيق انجازاتها.

بانتظار نضوج الإجابات، فالمرجح ان يكتفي السيد آموس هوكشتاين كالعادة بـ”برمة العروس” على رؤساء ووزراء و”مستشارين” عارضاً تعديلاته على خط “الزيك زاك”، مرفقة بكم كبير من الابتسامات. وإلى ان تحصل التسوية الخارجية والداخلية التي تؤدي إلى قيام دولة فعلية، فلا طائل من الحديث عن ترسيم حدود وتنقيب واستخراج، وليبقى الغاز أسير الكهوف “تحت سابع بحر”، لأن لبنان الحالي بأحزابه وحُكّامه وقطاعه الخاص الفاسد والمفسد غير مؤهل لاستغلال الثروات، بل لتناهبها فقط.

Print Friendly, PDF & Email
ياسر هلال

كاتب وباحث إقتصادي، رئيس تحرير موقع طاقة الشرق

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  طلال سلمان.. أرثيك وأبكي زماننا العربي الرديء