إستراتيجية “المصطنَع والاصطِناع”.. وأوهام التغيير اللبناني!

التغيير حاصلٌ لا محالة في لبنان في العام 2022. هل هذا واقعٌ موضوعي، أم هو تجريدٌ لواقع موضوعيّ معيّن، أم هو تجريدٌ (Abstraction) "لواقع بلا أصل وبلا واقع" واقعٍ فوق-واقعي (A hyperreal)، على حدّ تعبير عالم الاجتماع والفيلسوف جان بودريلارد؟ هل تسبق تلك "الخريطة" المشتهاة الواقعَ-الإقليمَ اللّبناني، بل وتُنشئه؟ أو على الأقل، هل هناك من يريد لها ذلك؟

“سقطت الطّبقة الحاكمة”؛ “صارت من الماضي”؛ “هناك تغيير كبير سيحصل العام المقبل”؛ “شيء كبير آتٍ إلى لبنان”؛ “ثورة فرنسيّة آتية” (ربّما مع تحريرٍ لسجن الباستيل، وقطعٍ للرّؤوس الملكيّة؟).

البعض يتصرّف على أساس أنّ التغيير في 2022 يقيني التحقّق، أو شبه يقيني التحقّق على الأقل. يبني الآمال على هذا الأساس. يحضّر الخطط والمشاريع، ويرسم المستقبل السياسي للبلد بتفاصيله: سيخترق المجتمع المدني الساحة السياسيّة. ستنشَأ طبقة سياسية جديدة في لبنان. سنطرد الطّبقة الحاليّة، وسيحكم الشباب والتكنوقراط والأكفّاء والمثقّفون. انتهت الطّبقة السّياسيّة، وسيأتي التّغيير لا مُحال، ودائماً في العام 2022.

توجّهٌ وخطابٌ يتبنّاهما، بمستويات مختلفة (لكن عالية) من اليقين، كثير من النّاشطين السّياسيّين والإعلاميّين وبعض المثقّفين والأكاديميّين. هناك في لبنان من يعتقد، حقّاً، اليوم أنّ موسم الانتخابات النيابية المقبل (والمرجو حدوثه) سوف يأتي بتغيير جذريّ وحقيقيّ إلى البلد.

شخصيّاً، أنا أسمع هذا الموّال كلّ يوم في الأماكن التي أتواجد فيها، لا سيّما في العاصمة بيروت، ولكنّني أسمعه أيضاً، كغيري من المواطنين، عبر معظم وسائل الإعلام وأقرأه في بعض الصّحف الورقيّة والإلكترونيّة، كلّ يوم تقريباً.

بعض البرامج التلفزيونية يوحي لك وكأنّ الأمر قد حصل، ويُقنع شابّات وشباب لبنان – بعضهم يشارك في البرامج متحمّساً – بأنّ القضيّة محسومة، وبأنّ الوعد كان مفعولا (يُقنعهم بذلك ولو بطريقة لا شعوريّة). في صباح اليوم التالي، تلتقي ببعض من شباب جيلنا، فترى إلى أي حدّ تؤثّر هذه البرامج المعروفة على تفكيرهم وتوقّعاتهم! شيء يكاد لا يصدّق في أكثر الأحيان!

إستراتيجيّة “اصطناع الحقيقة”

إنّنا فعلاً أمام تجلّيات ظاهرة يتوجّب وضعها في جوهر التّفكير حول دور الإعلام (في لبنان وفي العالم): إذ أنّنا بلا شك نلامس كوكبَ الفيلسوف (وعالِم الاجتماع) الفرنسي المعاصر جان بودريلارد Jean Baudrillard (ت. 2007)، صاحب كتاب Simulacres et simulation، وهو أحد أهم الأعمال[1] المعروفة في إطار دراسة ظاهرة أو تيّار “ما-بعد-الحداثة”. يدعوك بودريلارد إلى التفكّر مليّا بما تصبح “الحقيقة” في العالم ذي الهيمنة الإعلامية والإلكترونيّة الذي نعيش فيه: هل يبقى هنالك حقيقة موضوعيّة “في الخارج”، أم أنّ الواقع نفسَه يصبح تركيباً (أو إنشاءً) ذاتيّا (Simulacre) تقوم به (وتفرضهُ لا شعوريّا) وسائل الإعلام ومن يسيطر عليها وعلى وسائل التّواصل الاجتماعي؟

لا أنفي تردّي الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية الرّاهنة، ولا ضرورة المطالبة بتغيير النّظام اللّبناني الحالي الفاشل، ولا ضرورة المطالبة بدحر الطّبقة السياسيّة الحاليّة عاجلاً لا آجلاً: لكن، أتحدّث هنا عن نقطة معيّنة، هي المحاكاة والتزييف الإعلاميَّين والمعلوماتيَّين، المبالِغَين في توقّع حدوث التّغيير في القريب العاجل

في هذا الإطار أيضاً: ألم تصبح الحقيقة – وكذلك الواقع – إذن، تركيباً ذاتيّا، يُفرَض فرضاً على الجماهير، بطريقة ضمنيّة (أو لا شعوريّة) في أغلب الأحيان؟ وهل أصبحنا لذلك نعيش في عالم اعتباري (أو افتراضي): أي غير حقيقي بالمعنى الفلسفي التّقليدي؟ هل يعيش شاب اليوم العالم الحقيقي نفسه الذي كان أبوه يعيشه في خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي (مثلا)؟ أم أنّ وسائل الإعلام والتّواصل (ونقل – بل اصطناع – المعلومات!) الحديثة قد أنشأت عوالم اعتباريّة (البعض يسمّيها افتراضيّة ربّما) صارت هي “الحقيقة”؟ هل الآراء والقناعات الشخصيّة التي نكوّنها يمكن أن تبقى تصوّرات لواقع موضوعيّ، في عالم كهذا؟ والأخطر: إلى أي حدّ، تصبح توقّعاتنا – التي نظنّها “موضوعيّة” أيضاً – هي أصلا نتاج التخطيطات الاعتبارية والعوالم الافتراضيّة المفروضة علينا؟ وما تأثير ذلك على تصرّفاتنا وقراراتنا اليوميّة؟ وإلى أي حدّ تعتقد بعض النّخب الحاكمة في العالم المعاصر أنّها تصنع المستقبل لا من خلال الأحداث الموضوعيّة بل من خلال “الاصطناع” الاعتباري؟ وإلى أيّ حدّ تصوغ سياساتها على هذا الأساس؟ وهل هذا ما يحدث عمليّا مع بعض دوائر القرار والإعلام والتّنظير الفكري في لبنان، في ما يخص “التغيير” السياسي القادم حتماً!

 دخان ذهني ومعلوماتي

القصّة أعمق وأخطر بكثير من مجرد “همروجة” إعلاميّة ـ أكاديميّة ـ سياسيّة حول التغيير والثّورة: هل ما يقدّمه هؤلاء من تصوّر هو انعكاس للواقع الموضوعي “الحقيقي”؟ أو هو توهّمٌ وتمنٍّ وأضغاث أحلامِ قومٍ صادقين لكن بعيدين عن الواقع؟ أو، لربّما: هل هو عمل مهنيّ مقصود وممنهج ومدروس بهدف فرض رأي – بل وحقيقة – ما على المجتمع، لا سيّما منه الفئة الشّبابيّة المتعلّمة والمتعدّدة الثقافات (في هذا المجال، هناك تصويب خاص، بالطّبع، على المجتمع المسيحي، لهدف سياسي بيّن لا يمكن للأمانة العلميّة أن تسمح بإغفاله)؟

إنّنا أمام سلاح يبدو أنّه يُستعمل ضدّ الشّعوب في كل أنحاء العالم الرّاهن. “تخلق” هذه النّخب المسيطرة الحقيقة والواقع كما تريد، وتتحكم بالتالي بالمعرفة وبالرأي العام وبالتوقّعات وبالتّصرّفات وتتحكم بالتالي بالمستقبل (أو تحاول ذلك على الأقل).

إقرأ على موقع 180  عون: الإنتخابات النيابية في موعدها.. والتمديد يعني الخراب

وبمعزل عن أحقيّة وصحّة مطالب “انتفاضة 17 تشرين” وما تلاها من تحرّكات: هل هناك من يحاول أن يفرض “حقيقة” اعتباريّة ما على اللّبنانيّين، من خلال تسويق تصوّر معيّن عن تغيير قادم لا محالة عام 2022 (ولهدف سياسي واضح لن ندخل أكثر في تفاصيله ولا في أدوات تمويله المحتملة)؟

الإجابة تتطلّب، بالطّبع، طريقا أكثر تعقيدا وتفصيلا مما يمكن اختصاره في مقال واحد. لكنّني أميل شخصيّا إلى الإيمان بوجود دخان (Enfumage) ذهني ومعلوماتي ممنهج، هدفه “المحاكاة والتزييف” على حدّ تعبير بودريلارد وغيره: وذلك لتكوين ثمّ لفرض تصوّر (غير مطابق للواقع بشكل أمين) على فئات لبنانيّة معيّنة تتأثّر بهذا النّوع من الخطاب. ولهدف نهائي هو سياسي بامتياز، يتمثّل بضرب جهات سياسيّة معيّنة لمصلحة جهات سياسيّة (داخليّة وخارجيّة) أخرى.

الأحزاب الطّائفيّة التّقليديّة لا تزال تتحكّم بالسّرديّات الوجوديّة للفئات اللّبنانية. لا زالت تتحكّم “بالمصطَنع” الطّائفي بشكل قويّ ومتين. لا زالت تتحكّم بأمن أغلب النّاس، وبأمانهم الاقتصادي-الاجتماعي-العائلي ولا شيء تغيّر إلا القليل من التذمّر والتّململ هنا وهناك

بالطّبع، أنا شخصيّا لا أنفي تردّي الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية الرّاهنة، ولا ضرورة المطالبة بتغيير النّظام اللّبناني الحالي الفاشل، ولا ضرورة المطالبة بدحر الطّبقة السياسيّة الحاليّة عاجلاً لا آجلاً: لكن، أتحدّث هنا عن نقطة معيّنة، هي المحاكاة والتزييف الإعلاميَّين والمعلوماتيَّين، المبالِغَين في توقّع حدوث التّغيير في القريب العاجل. ما يهمّني هنا هو جانب المبالغة التّسويقيّة والإعلاميّة، بالأخص تجاه فئات لبنانيّة معيّنة، لا أساس المشكلة والطّرح التّغييري.

برأيي أنّ هناك سلاحاً سياسيّا وأمنيّا يتمّ تشغيله جدّيّا في لبنان منذ فترة، وهو مبني على استراتيجيّة “المصطَنَع والاصطناع”.

طبعاً، لست من أتباع بودريلارد والمدارس ما بعد الحداثيّة والبنائيّة (راجع مقالاتي السّابقة)، ولا أؤمن – على الأقل بطريقة كلّيّة – بنظريّة الـHyperreal.. لكن، أعتقد بأنّ هذه النّظريّة تفسّر جانباً لا يستهان به من واقعنا الرّاهن (لبنانيّا وعالميّا)، وأعتقد أيضاً، بأنّ سلاح “ما فوق الحقيقة” لا يزال مجهولا إلى حدّ كبير من قبل النّخب العربيّة واللّبنانيّة، لذلك يجب التّنبّه إليه وتنمية حسّ نقدي حاد تجاه ما يسوّقه (ويختلقه) الإعلام بطرق ممنهجة.

الخريطة VS الإقليم

من المفارقات المضحكة في ما يخصّ الخريطة والإقليم اللّبنانيَّين، أنّنا نعيش عمليّاً ضمن خرائط وأقاليم متعدّدة إلى حدّ بعيد (خصوصا على مستوى الخرائط). لذلك، وبالرغم من مساوئ هذا النّظام الطائفي والفئوي، فمن السّهل، معرفيّاً، الهروب من خريطة-إقليم معيّن إلى خريطة-إقليم آخر، بهدف كشف اصطناع وتزييف الإثنَين معاً. كلّ طوائفنا اصطنعت خرائطها وخلقت بالتالي واقعها الاعتباري المختلف نسبيّا عن خرائط ووقائع الطّوائف الأخرى. هنا: بودريلارد على حقّ إلى حدّ بعيد، إذ أنّنا نعيش ضمن “سرديّات” طوائفنا (مثلا: الخطر على الطّائفة، المسائل الوجوديّة المختلفة، الهويّات القوميّة، السّرديّات التاريخيّة المتعدّدة إلخ.) أكثر مما نعيش في الواقع “الحقيقي”.

لذلك، فبِما يخصّ السّؤال المركزي: يكفي أن نخرج برأيي من بعض أحياء بيروت، ومن بعض ضواحي بيروت، حتّى نكتشف بوضوح أنّ فئة معيّنة من اللّبنانيّين تتعرّض، على الأرجح، لحملة ما فوق حقيقيّة ممنهجة ومدبّرة. يكفي أن نبتعد بضع كيلومترات شرقا أو جنوبا أو شمالا، حتى يتبين، في أغلب الأحوال: أنّ الإقليم الواقعي لا علاقة له بالخريطة المصطنعة المسوّقة من قبل بعض الإعلام وقنوات نقل-اصطناع المعلومات.

الأحزاب الطّائفيّة التّقليديّة لا تزال تتحكّم بالسّرديّات الوجوديّة للفئات اللّبنانية. لا زالت تتحكّم “بالمصطَنع” الطّائفي بشكل قويّ ومتين. لا زالت تتحكّم بأمن أغلب النّاس، وبأمانهم الاقتصادي-الاجتماعي-العائلي ولا شيء تغيّر إلا القليل من التذمّر والتّململ هنا وهناك.

قد يؤدّي ذلك إلى تصويت عقابيّ في بعض الأماكن، وقد يكون هنالك تغيّر نسبي في ما يخص الأغلبيّة النيابية المسيحيّة.. لكن دراسة الخريطة VS الإقليم بعيدة – حتّى الآن – عن توليد أي أمل بتغيير جذري جديد في لبنان، خصوصا عام 2022! لذلك، فالموقف الحكيم برأيي هو أن يحافظ الإنسان على ثوابته الكبرى وتموضعاته الأهم (في ما يخص العقيدة والخط والإقليم).. وأن يتنبّه إلى حملات الاصطناع هنا وهناك، بانتظار قفزة كونية أو إلهيَة معيّنة أو حتى واقعية قد تأتي بتغيير حقيقي ما في المستقبل.. لكن ليس في القريب العاجل (والله أعلم بقفزات العالَمين، أما العباد فلهم مع ذلك أن يحلموا وأن يحاولوا تحقيق أحلامهم..).

[1]  المرجع بالفرنسيّة: Baudrillard, Jean, 1981, Simulacres et simulation, Paris: Editions Galilée.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  يافا والجواهري.. قصائد عشق وحكايات