قد يستنظر كثرٌ أن يكون المكان الطبيعي لتعبير “الوطن العربي” في الأدبيات والنقاشات السياسيّة والإيديولوجية المرتبطة بطروحات الوحدة العربية للبعثيّين والقوميّين العرب ومن شاكلهم.
كما استوقفتني قبل ذلك مقدّمة المعلم بطرس البستاني التي فيها يهدي “الوطن العربي” عينه معجمه “محيط المحيط”، وذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين كانت فكرة تشكيل العرب لأمّةٍ ودولةٍ واحدةٍ لمّا تتبلور بعد.
عمّ يعبّر إذن هذا الإستحضار اللاإيديولوجي لفكرة الوطن العربي في كلتا الحالتين، على الرغم من المسافة الشاسعة، زمنيّاً وذهنيّاً وثقافيّاً بينهما؟
لقد شغلني هذا السؤال لسنةٍ خلت، ترسّخت خلالها تدريجيّاً قناعتي بأنّ المسألة ليست هامشيّة. ذلك أنّ التأمّل فيها قد يُسهم في الإضاءة على معنى العروبة بعيداً عن السائد من نظريّات القوميّة العربيّة الكلاسيكية التي قد تلغز أكثر ممّا تضيء. ولعلّ المدخل إلى الإجابة على الأسئلة أعلاه تكمن في فهم الطبيعة اللاإيديولوجيّة لاستحضار الوطن العربي على انّها ليست فقط غيابٌ للإيديولوجيا بل حضورٌ لشيءٍ آخر.
برأيي إنّ هذا الشيء الآخر هو السرديّة. لقد أطنب المؤرّخون والباحثون في التنظير للّغة العربيّة على أنّها ركنٌ أساسيٌ في تشكيل هويّةٍ عربيّةٍ جامعة. هذا الزعم، على رجاحته، غير كافٍ. ذلك أنّ اللغة ينبغي ان تندرج في قالبٍ سرديٍّ لكي تؤدّي دورها. السرديّة إذن طابقٌ يعلو أسّ اللغة في التخاطب بين البشر. والأرجح أنّ الغاية من السرد ليست فقط الإفصاح حياديّاً عن مضمونٍ ما، بل بثّ روحٍ جماليّة في هذا المضمون تنفذ إلى كلّ زواياه وتشعّباته حتّى يكاد الإثنان يتماهيان معاً. ليست هذه العمليّة محصورةً بسرديّات الفنّ الرفيع من أدبٍ وشعرٍ وغناءٍ، بل تتخطّاه ومعه أشكاله الشعبيّة وحتّى الهابطة إلى جميع جوانب التخاطب بين البشر.
ففي أيّ حديثٍ مهما كان اعتيادياً، يلجأ المتخاطبون إلى أدواتٍ وحيلٍ شتّى لبثّ روحٍ جماليّةٍ في روايتهم سعياً منهم لتعزيز فعاليّتها وحجّتها. فانظر مثلاً إلى زمرةٍ من شبيبة الحي، يروي أحدهم تفاصيل عراكه مع شبّانٍ أتوا من حيٍّ مجاورٍ أبلى فيه البلاء الحسن. في سياق سرده لأحداث هذا العراك، قد يستعين هذا الشاب بصورٍ عن الشهامة والمروءة تستحضر قوافي عنترة والمتنبي، وقد يورد مثلاً شعبيّاً أو أكثر لإسناد حقّه في وجه باطلهم. وقد يسعى بإيماءاته ونبرات صوته جهراً وهمساً إلى إضفاء إيقاعٍ مسرحيٍّ أو كوريغرافي على روايته. حتّى كيله السباب والشتائم لا بدّ من عدّها ضمن هذه الأدوات السردية الجماليّة. كل هذا إن دلّ على شيء فهو ليس جدارة هذا الشاب الأدبية بقدر ما هو انفجار وتذرّر جماليّات السرديّة ونفاذها إلى كل جوانب وثنايا التخاطب البشري، كائناً من كان المتخاطبون.
بالعودة إلى العروبة وعلاقتها بالسردية، فهنا برأيي يكمن بيت القصيد. فالرأي السائد بأنّ العروبة ولدت من رحم نظريّات وطروحات القومية العربية فيه الكثير من الإختزال لواقع العروبة الراسخ في ألباب الجماهير الناطقة بالضاد من المحيط إلى الخليج. إذ يبدو لي جليّاً انّ اللحظة السردية في تشكّل العروبة بوصفها تخيّل العرب أنفسهم جماعةً واحدةً هي سابقةٌ على اللحظة الإيديولوجية. وقد ولج العرب دار عروبتهم المتخيّلة عن طريق السرد لقرونٍ خلت قبل أن يبدأ بالتنظير لها إيديولوجيو القوميّة العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر. وبرأيي أنّ هذا النسيج السرديّ للعروبة ما يزال قائماً بيننا برغم الوهن الذي أصاب إيديولوجيات القوميّة العربيّة، لا بل زاده هذا الوهن منعةً و حيويّةً.
إنّ أسبقيّة الطبيعة السرديّة الجماليّة للعروبة هي نتاجٌ لصيرورةٍ تاريخيّةٍ تستأهل بنظري دراسةً وافية. لا يسعني في هذا المقال إلّا العرض تكهّناً إلى الخصائص التاريخيّة الّتي تنفرد بها اللغة العربيّة، لا سيّما ارتباطها بالعروبة وجماعتها المتخيّلة. إذ لا يمكن الزعم، كما في حال اللغات الأوروبية المعاصرة مثلاً، أنّ شكل هذه اللغة الحاضر هو وليد العصر الحديث. فالعربيّة، كما اللاتينيّة والسانسكريتيّة، ضاربةٌ في القدم. ولكنّها على عكسهما لم تندثر مثلهما بل تأقلمت مع معطيات التاريخ والجغرافيا حتّى استحالت لهجاتٍ عامّيّةٍ لا تحصى على المساحة الممتدّة من المغرب الأقصى إلى العراق. ولكنّ هذه اللغة بتشعّباتها العامّيّة أبت فكّ الإرتباط بفصحى القرآن، أو الفصحى المعاصرة ذات العلاقة الوطيدة من جهة بلغة القرآن، والموحّدة من جهةٍ أخرى على امتداد “الوطن العربي”. كما أنّ وحدة اللغة والسرديّة العربيّة لا يمكن الزعم أنّها انعكاسٌ لتشكيلٍ سياسيٍّ-اجتماعيٍّ-اقتصاديٍّ كما هو الحال في أممٍ-دولٍ كفرنسا أو ألمانيا. إذ لا يمكن مثلاً النظر بجدّيّة إلى مقولات من نوع أنّ أقطاراً كالمغرب ومصر والعراق هي جزء من منظومة اجتماعيّة أو اقتصاديّة واحدة، لا لسبب إلّا لأنّ هذه الأقطار لم يحدث أن كانت جزءاً من دولةٍ مركزيّةٍ واحدة منذ بدأت الدولة العباسيّة بالتفكّك الّذي يُرجعه الكثير من المؤرخين إلى أواخر القرن الثامن الميلاديّ.
لذا فالسرديّة العربيّة وجماليّاتها قد تكون تجاوزاً “من تحت” لواقعٍ سياسيٍّ-اجتماعيٍّ-اقتصاديٍّ مجزّأ، أكثر منها ترجمةً أو انعكاساً لمجهودٍ قوميٍّ وتوحيديٍّ تفرضه نخبٌ سياسيّةٌ وثقافيّةٌ “من فوق”. ويبدو مصطلح “جذموريّ” (rhizomatic) الّذي ابتدعه أحد الفلاسفة الفرنسيّين لتحليل الأنماط المعرفيّة والثقافيّة دقيقاً في توصيف منابت السرديّة العربيّة وتجذّرها في وجدان الناطقين بالعربيّة، عن طريق شبكاتٍ لامتناهية من التخاطب البشري لا هرميّة لها ولا مركز. لمَ هذا العناد على “التجاوز” السرديّ لواقعٍ مادّيٍّ يناقضه جذريّاً سؤالٌ مهمٌّ، إلّا أنّ أيّ إجابةٍ عليه في غياب دراسةٍ تاريخيّةٍ وافيةٍ قد تكون محض تكهّناتٍ لا تستثني كاتب هذه السطور. حسبي والحال هذه أن أخوض في حاضر سرديّات العروبة ومغازيها ومآلاتها، تاركاً الحكم في تاريخيّتها لمن هم أدرى بشعابها.
ما مغزى سرديّة العروبة إذن؟
لقد حاولت أعلاه أن أعرض بإيجاز كيف أنّه في أيّة سرديّة لا يمكن فصل المضمون عن شكله الجمالي، بحيث أنّ الإفصاح عن معنىً ما قد يتعذّر من دون قالبٍ جماليٍّ. وقد يذهب البعض إلى أنّ الجماليّة قد تكون غايةً بحدّ ذاتها للسرديّة. كما أنّي سعيت إلى طرح فهمٍ موسّع للجماليّة على انّها ليست حكراً على سرديّات الآداب الرفيعة بل تتعدّاها لتشمل جميع أشكال التخاطب البشريّ. قد يكون ذلك تعبيراً عن نزوعٍ إلى اللهو عند البشر يسبغون به معنىً على واقعهم المعاش. ويقيني أنّه في حال الناطقين بالعربيّة، يتخطّى هذا النزوع فردانيّته ويتّخذ منحىً جماعيّاً يقترن بتخيّل العرب لأنفسهم جماعةً واحدةً تسكن دار العروبة وتأنس لها.
سرديّات العروبة وجماليّاتها هي إذن الأداة الطيّعة الّتي بها يُحقّق العرب وحدتهم في الحاضر. العروبة ليست مشروعاً للمستقبل بقدر ما هي واقعٌ يعاشُ ويتحقّقُ في حاضرٍ لامتناهٍ. كما أنّ النزوع إلى اللهو الكامن في سرديّات العروبة ليس مسألةً ثانويّة. ربّ قائلٍ إنّ اللهو ليس متاحاً للبشر إلّا عند الفراغ من تلبية آخر حاجاتهم الأساسيّة. عندها فقط يمكنهم تجاوز كفافهم والنفاذ إلى حيّز الرفاه الّذي هو شرطٌ لممارسة الحرّيّة. بتعبيرٍ آخر، إنّ إرادة اللهو مرتبطةٌ عضويّاً بإرادة الرفاه والحرّيّة والعيش الكريم.
ماذا عن دور الإيديولوجيا في نشأة وتكوين العروبة؟
هنا أيضاً تتوالى فصول صيرورةٍ تاريخيّةٍ لا مجال للخوض فيها في هذا المقال. ما يعنيني من كلّ ذلك هو حصراً تلك العلاقة الجدليّة بين إيديولوجيات العروبة وسرديّاتها. وقد أسلفت أنّ اللحظة السرديّة سابقةٌ للحظة الإيديولوجيّة في تكوين العروبة. معنى ذلك أنّ إيديولوجيّات العروبة لم تكن لتولد إلّا استجابةً لتحقّق العروبة سرديّاً. وكانت المسؤوليّة التاريخيّة تملي على النخب الإيديولوجيّة الّتي نظّرت للعروبة تحت مسمّى القوميّة العربيّة أن تعي الحاضنة السرديّة للعروبة وأن تنظّر إليها جدليّاً. لكنّ ما حصل بدلاً من ذلك كان توالياً لفصول تراجيديا عربيّةٍ دُمّرت خلالها الجسور الجدليّة الّتي تربط الإيديولوجيا بالسرديّة. ولعلّ الطريق الأنجع لرواية فصول هذه التراجيديا هي من خلال طرح جملةٍ من الثنائيّات الّتي استحالت تناقضاتٍ تاريخيّةٍ حادّةٍ استعصت معها المقاربات الفكريّة والسياسيّة الجدليّة الطابع. ومن خلال هذه الثنائيّات احتقرت الإيديولوجيا العروبة سرديّتها وأزاحتها لصالح مشروعٍ للمستقبل لا مكان فيه للحاضر.
ففي حين تنفذ جماليّات السرديّة العربيّة إلى ألباب الناطقين بالضاد وتتماهى مع وجودههم المتجسّد في إرادة اللهو والرفاه والحرّيّة، تستعيض الإيديولوجيا عن الجماليّات بخطابٍ أخلاقيٍّ مجدبٍ لا يقيم وزناً لكون الأخلاق ذاتها لا تستقيم من غير وساطةٍ جماليّة. ولنا عبرةٌ في العديد من اللغات اللاتينيّة الّتي يتضمّن فيها اللفظ الدالّ على الجماليّة ذلك الدالّ على الأخلاق (لفظا estetica وetica في اللغة الإيطاليّة مثلاً)، وكأنّ الأخيرة تولد من رحم الأولى. وفي حين أنّ السرديّة العربيّة كامنةٌ في الحاضر والوجود والوجدان العربيّ، تنزع الإيديولوجيا العروبة من حاضر ووجود العرب، وتنقض بذلك كمونها، وتمسخها مشروعاً متسامياً للمستقبل لا حاضر ه. وإذا كان حاضر العرب نزوعٌ للّهو ونشدانٌ للرفاه والحرّيّة تعبّر عنها سرديّاتهم أبهى تعبير، تروّج الإيديولوجيا وأخلاقيّاتها إلى حاضرٍ من الكفاف يستلزمه النضال الألفيّ لتحقيق العروبة في مستقبلٍ هو أقرب إلى صنمٍ للعبادة منه إلى حاضرٍ مؤجّل. فكانت الأمّة ووحدتها الّتي تغنّى بها القوميّون والبعثيّون العرب، ولم يسلم من سحرها حتّى خصومها من شيوعيّين ومنادين بقوميّاتٍ أخرى إذ انصرف كلٌّ منهم لرفع أصنامٍ متساميةٍ يعبدونها، وكلّهم متساوون في الدعوة الأخلاقيّة إلى حاضرٍ ملؤه الكفاف.
أمّةٌ موحّدةٌ وكفافٌ؟
لو حدث أن كان للسرديّة العربيّة لسانٌ لعاجلت به إلى الإجابة على هذا السؤال-المأساة بأن لا طائل من مساعي توحيد الأمّة، طالما أنّ الوحدة تتحقّق على أيديها هي في كلّ لحظةٍ من حاضر العرب. ولعلّ الأجدر بالنخب السياسيّة والثقافيّة العربيّة لو كان سؤالها الشاغل، بدلاً من ذلك، “دولةٌ سويّةٌ ورفاه”. والمعني هنا الدولة القطريّة الّتي احتقرتها هذه النخب عقائديّاً في مساعيها الوحدويّة، إذ لا إطار بديلاً عن هذه الدولة في حمل إمكانيّات الإستجابة لإرادة الرفاه والحرّيّة المُستدَلّ عليها من السرديّات العربيّة وجماليّاتها. هذا الإحجام عن شأن الدولة والرفاه لم يأتِ بالوحدة، بل عمّم عوضاً عن ذلك حالاً من البؤس العربيّ تتخلّله جزرٌ من الرفاه النفطيّ الفصاميّ هي الإستثناء الّذي يؤكّد القاعدة.
ثمّ كان زلزال 2011 بثوراته العربيّة الّتي لمّا تنتهِ فصولها بعد. وقد سال حبرٌ كثيرٌ في توصيف هذه الثورات، جلّه في محاولة سبر أغوار مسبّباتها الإقتصاديّة والإجتماعيّة وإدراك الجوانب السياسيّة والتنظيميّة التّي أتاحت لها النجاح، ولو لبرهة. إلّا أنّ معظم هذه القراءات، على قيمتها، لم تولِ مسألة العروبة الحيّز الجدليّ الّذي تستحقّ، ولو أكثرت من إلصاق نعت “العربيّة” بهذه الثورات. ولعلّ السبب الرئيس في ذلك اختلاط الأمر على الكتّاب والمحلّلين، إذ أصاب كثرٌ منهم لمّا رأوا في هذه الثورات هزيمةً لإيديولوجيّات العروبة، توقّفوا عند هذا الحدّ. لم يروا في المقابل أنّ في ذلك إعادة اعتبارٍ لعروبةٍ من نوعٍ آخر. عساني أفلحت من خلال هذه السطور في برهان أنّ تلك العروبة الأخرى كامنةٌ في سرديّات جمهورها الناطق بالضاد من المغرب إلى المشرق مروراً بأرض الكنانة.