

شكّل حضور الأحزاب في العالم العربي ملمحاً أساسياً في كل مرحلة بلغ فيها حامل الدعوة للأمة درجة مؤثرة في دولته، كما حين استلم حزب البعث السلطة في كل من سوريا والعراق في مطلع ستينيات القرن الماضي، وكما هو حال حزب الله في لبنان في امتلاكه القوة الأكبر. وأنعش هذان الحضوران آمالاً باستعادة حضور الأمة، وأفضى إنكفاء الحضور الأول عن الأمة إلى السلطة إحباطاً عند القائلين به وعند العامة، وها هو الحضور الثاني يتخبط بين الأمة وعنوانها في الأمس القريب الانخراط في معركة إسناد غزة من جهة وهموم السلطة في لبنان وهموم الدولة الراعية له من جهة ثانية.
لم تكن هذه القضية مطروحة في الدول الأوروبية؛ إذ أتاح نمو الرأسمالية تشكّل سوق واحدة وقيام دول حديثة تماهت مع الأمة، وإن ما زال الإرباك القومي لدى بعض الاقليات قائماً حتى اليوم في بريطانيا واسبانيا وايطاليا. في حين شكّلت اشكالية نظرية عند المفكرين ذوي العلاقة ومشكلة عملية عند العاملين في الشأن العام في المجال العربي. وتعود هذه الإشكالية النظرية والمشكلة العملية إلى عوامل:
- محاولة العاملين في السياسة ومفكريها الإحتذاء بالتجربة الأوروبية، وهي في هذا المجال الدولة القومية والحزب الحديث.
- حداثة الكيانات التي قامت وارتباط قيامها بإرادة إستعمارية قصدت منها خدمة مصالحها؛ وكانت بمعنى ما معاكسة لدولة واحدة كانت تديرها (الدولة العثمانية)، وهي بمعنى ما آخر مجافية لهوية واحدة لسكانها هي الهوية العربية، لغة وتأريخاً، والدين الاسلامي الغالب. وهي بمعنى ثالث لم تلبِ شروط بناء سوق واحدة، كما حصل في قيام الدول الأوروبية، ولم يتح تطور اقتصادها، لأسباب متعددة، بناء هذا السوق.
- المظلومية الفلسطينية المزامنة لقيام هذه الكيانات والمستمرة بالاقتلاع والاغتصاب والوحشية الصهيونية المرعية عالمياً، وهي مظلومية تطال الناس، إنسانياً وقومياً وإسلامياً وجغرافياً.
- سلطوية العمل/ النضال السياسي، فالنخب العاملة بالسياسة والمفكرة بها هي، بحكم طبيعة السياسة، هادفة للمشاركة في السلطة أو الاستيلاء عليها الذي عنى ويعني إشتغال في حدود الكيان/ الدولة، لا في حدود الأمة.
إنّ المهام القومية تبدأ من الأدنى لا الأعلى، فما يصح في الدعوة: تطلب الأقصى، الوحدة، لا يصح في السياسة التي تستدعى الأدنى والممكن، ويستبعد أن تشذّ أحزاب حديثة وصاعدة داعية لتجاوز الدولة، قومياً أو اسلامياً، عن تجربة أحزاب قومية في مرحلة سابقة السلطة في الدولة، لا مشروع دولة الوحدة
ولم تخبُ هذه القضية، فكرياً وسياسياً بعد الاستقلالات، لا بل زادت تأججاً حين استلم الحكم أو شارك فيه في بعض الدول أحزاباً وشخصيات قالت بالدولة – الأمة ولم تفلح في تحقيق ذلك، وهي متأججة، باستمرار، مع تمادي إسرائيل في عدوانها وقيام منظمات فلسطنينية تقاومها، كما حدث بعد حرب 1967 وقيام المنظمات الفدائية وكما يحصل في غزة منذ “كوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى يومنا هذا.
وشكّلت هذه القضية إشكالية نظرية عند المفكرين، وبخاصة ذوي العلاقة بهذه الأحزاب، ومشكلة عملية عند المناضلين والسياسين فيها، وبخاصة إبّان الأزمات العامة، وبخاصة المشاركة في السلطة وقضية فلسطين، وإبّان التأسيس فيها، والأمثلة البارزة: في الستينيات في حزب البعث العربي الإشتراكي إبّان استيلائه على السلطة في العراق وسوريا في العام 1963 وتجدد مع استلام جناح آخر السلطة في العراق في العام 1968. وفي السبعينيات إبّان الصراع حول وجود الفدائيين الفلسطينيين في لبنان ثم ولوج الأحزاب القومية والتقدمية الحرب الأهلية (1975-1990) دعماً للفلسطينيين من الموقع القومي، ودخول حزب الله الحرب (1982) في الثمانينيات من موقع إسلامي، وانخراطه في حرب غزة (2023) برغم الانقسامات حول حدود الدعم في المعركة، إنخراطاً فعلياً أو دعماً بحدود ضمن إطار الدولة وبحدودها.
وقد يكون مجال مناقشة الإشكالية يتجاوز حدود المقال وكذا تقديم الحلول للمشكلة، وقد سال حبر كثير في نقاشهما؛ من دون أن يفضي ذلك إلى تصور واضح مسلم به، فلا العوامل الفاعلة في تكونها زالت؛ فالكيانات التي شُكك بقيامها في مطلع القرن العشرين لم ثبتت، لا بل تتهاوى، والسوق الرأسمالية، وطنية أو قومية، لم تُبنَ، لا بل زادتها الشركات الخارقة للدول تشظياً، وإسرائيل ما زالت تلغ في دمنا وأرضنا، ولم يغب التزاحم على السلطة عن العاملين في السياسة، لا بل خرج عن أي معايير.
وبالمقابل، ما زال القوميون العرب، أحزاباً وقوى وافراد، على قولهم بالوحدة العربية والأمة العربية الواحدة، برغم تعثر تجربتهم في الحكم، وما زال القوميون السوريون على قولهم بوحدة الهلال الخصيب والأمة السورية، برغم عجزهم عن انتاج وحدة تنظيماتهم، وما زال الاسلاميون، بقديمهم الإخواني مثالاً، وجديدهم الحزب اللهي على قولهم بالأمة الاسلامية، إن بنبرة مشددة على شيعيتها أو سنيتها، برغم عجز قديمهم عن تحقيق ذلك لا بل تعثرهم في إدارة دولة وتغليب مصالح قطرية في دولة أخرى، وعجز حديثهم عن ذلك إن بمغالاة في الهوية المذهبية أو بانعاش هويات مذهبية وعرقية وقبلية، ولم يساهم تفكك الكتلة السوفياتية وحزبها الموجه في خيارات الأحزاب الشيوعية في تبلور رؤية لهذه القضية، وبتحديد موقف من الدولة، بعد تفكك الأمميات.
وإزاء هذا التعثر النظري والعملي في انتاج رؤية للعلاقة بين الأمة والدولة/ الوطني والقومي/ الوطني والإسلامي والأخذ بها، وإزاء استمرار إقامة العوامل المنتجة لها، وإزاء عدم إيلاء الأحزاب القومية والإسلامية واليسارية هذه القضية والمشكلة في مواجهة أزماتها، يمكن طرح أفكار قد تصلح لنقاش جدي وراهن في مواجهة هذه الأحزاب لأزماتها وللمهمات المفترض التصدي لها:
- إنّ العمل السياسي، بما فيه عمل الأحزاب، يستهدف الوصول إلى السلطة، أياً كانت الغاية التي يعلنها والدعوة التي يندرج ضمنها.
- إنّ الدولة الوطنية، القطرية وصنيعة اتفاق سايكس بيكو، لم تُؤسس قاعدة مادية لوجودها، إقتصاداً وقانوناً، لا بل تتعرض لتشظٍ، مناطقي وطائفي وقبلي وعرقي، في وجودها.
- إنّ اسرائيل التي كانت، كصهيونية في مطلع القرن المنصرم، تستهدف الفلسطينيين، أرضاً وشعباً، تمادت في استهدفها الدول المجاورة، عسكرياً، والدول العربية، كافة، اقتصادياً، والفلسطينيين، إرهاباً وتقتيلاً، بحيث أصبحت خطراً يتجاوز فلسطين.
- إنّ الرأسمالية الغربية التي كانت، حين تأسيس الدول، في مرحلة التوسع الامبريالي، تصدير بضاعة ورأسمال وتحديث بنى يخدم ذلك، أصبحت اليوم، في مرحلة الشركات الخارقة للدول قادرة على الاستغلال المباشر وفي بنية هذه الدول والمجتمعات، مهدّدة القانون الساري والكيانات التي ساهمت في بنائها.
- إنّ الهوية، قومية أو إسلامية أو إنسانية، التي حملتها النخب المثقفة وناضلت أحزاب لأجلها تعرضت، بفعل التطور التكنولوجي في الاتصالات والمواصلات إلى تجاوزين متناقضين: تعمق وتوسع طبيعتها الجامعة من جهة ونماء الهويات المحلية الطائفية والإثنية والقبلية من جهة ثانية.
- إنّ الأحزاب المتجاوزة للدولة، قومية أو أممية، التي تصدرت المشهد السياسي العربي وعُرفت بخطابها اليساري تراجعت في المرحلة الراهنة، وجوداً وفعالية، لا قولاً، وصعدت أحزاب اسلامية حاملة الدعوة إلى أمة اسلامية في مجال تتعدد المذاهب في الدين الواحد ويحضر فيه أقليات دينية أخرى وإثنيات كثيرة.
السؤال المطروح: كيف نُوفق بين متطلبات العمل/النضال السياسي الهادف إلى استلام السلطة، وهي، حكماً سلطة في اطار اجتماعي محدد، هو في السياسة دولة، وبين هوية لا تُحقّقها الكيانات القائمة وعدوانية إسرائيلية لا تردعها قوى محلية مهما كبرت وتوسع رأسمالي خارق للدول؟
يمكن أن يكون المدخل العودة إلى السياسة باعتبارها فن الممكن دون التخلي عن حمولتها الدعوية وذلك من خلال الآتي:
- صياغة البرنامج الممكن لإنجاز المهام الراهنة، بما هو مهام لمرحلة زمنية محددة، هادف إلى تحقيق موقع في توازن القوى السائد؛ إطاره الحكمي وهدفه الأول الدولة؛ إعادة بناء المتعثر منها وتعزيز القانون وحكمه فيها.
- إنّ المهام القومية تبدأ من الأدنى لا الأعلى، فما يصح في الدعوة: تطلب الأقصى، الوحدة، لا يصح في السياسة التي تستدعى الأدنى والممكن، ويستبعد أن تشذّ أحزاب حديثة وصاعدة داعية لتجاوز الدولة، قومياً أو اسلامياً، عن تجربة أحزاب قومية في مرحلة سابقة السلطة في الدولة، لا مشروع دولة الوحدة، وأمامُنا مثلان حالياً: حكم الاخوان المسلمين في تركيا والأممية الشيعية في إيران بتفرعاتها العديدة حيث تتحكم مصلحة السلطة في البلد الأم في قرارات هذه الأحزاب.
- إنّ المهام القومية في المرحلة الراهنة قاعدتها ومنطلقها الدولة القائمة، على علاتها، وبديلها الخارج عن الدولة والمتطلب الأقصى مدغدغ للعواطف، لكنه عاجز عن إقامة الوحدة وتحرير فلسطين ومواجهة التغول الرأسمالي العالمي، لا بل يخدم فرط القائم من دول وتعزيز الولاءات الإثنية والمذهبية.
- قد يكون دعم النضال الفلسطني وتعزيز العمل العربي، إقتصاداً وثقافة واتصالات ومواصلات، وبناء اقتصاد وطني على قاعدة الدولة هي مهام قومية في هذه المرحلة.
- إنّ بناء قوة ضمن الكيان/ الدولة تستطيع فرض توازن جديد هو المدخل للولوج في سياق بناء الدولة/ الأمة ومواجهة إسرائيل والرأسمالية العالمية.