اللبنانيون إلى نظام.. الزنادقة والعبيد!

في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، نقلت وسائل إعلام محلية ودولية عن رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون قوله إن لبنان بحاجة إلى 6 أو 7 سنوات للخروج من أزمته.

هذا التقدير هو الأول من نوعه الذي يُطلقه أرفع مسؤول لبناني ويُجهر بعمق الأزمة اللبنانية ويعطيها مسافة زمنية طويلة لإحتوائها، وعلى الرغم من أن تقدير العماد عون ينطوي على تفاؤل مفرط، لأن إزالة آثار النكبة اللبنانية قد تتطلب ضعف السنوات التي حددها رئيس الجمهورية، فما يجب ان يعرفه اللبنانيون أن طريق الخلاص معقدة وطويلة أمامهم، وينتظرهم “نظام الأسياد والعبيد” طوال العقد المقبل وما يليه، وفقا لأنماط العيش والمشاهد التالية:

ـ المشهد الأول؛ بذخ أهل السياسة وبؤس العوام:

من حين إلى آخر تكشف وسائل الإعلام المحلية حفلات الأعراس والصخب والتبذير الأسطورية التي يقيمها أسياد القوم لأبنائهم وبناتهم، او لعقد صفقاتهم في ظل انحدار الواقع اللبناني العام نحو الدرك الأسفل من البؤس والفاقة، ولا تأخذهم لائمة في ذلك ولا عقدة ضمير، وهذا المشهد يعيد إلى الأذهان ما كانت عليه طبقة الحكام والنبلاء في القرون الماضية، ومنها العصر العباسي، حيث الثروة محصورة بقبضة قلة، وغالبية الناس تعيش في شظف وقلة، ويصور المسعودي في “مروج الذهب” والطبري في تاريخه، كيف كان الخلفاء العباسيون يبتنون لأنفسهم قصورا شاهقة وعامرة ومضيئة، ابتداء من أبي جعفر المنصور الذي ابتنى مدينة بإسمه، فيما حفلات الزواج والختان العباسية تحولت إلى مضرب أمثال، وفي ذلك يقول المفكر السوري صلاح الدين المنجد (1920ـ2010) المعروف بـ”أبو المخطوطات العربية” في كتابه “الخلفاء والخلعاء”:

“كان الخليفة المهدي، والد هارون الرشيد لا يحفل بالمال، وكان ميالا للبذخ والطرب واقتناص اللذات، ولعل بذخه وترفه يظهران في الزفاف الذي أقامه لإبنه هارون الرشيد عندما تزوج زبيدة، وأنفق عليه خمسين خمسين ألف درهم، وألبس زبيدة ثوبا كله من الذهب، وزينها بالحلى، حتى لم تقدر على المشي لكثرة ما كان عليها من الجواهر”.

كم مِثلُ هذا “العرس الزبيدي” أقامه لبنانيون من “أهل الربط والحل”، في السنتين الأخيرتين، في وقت يكاد أغلب اللبنانيين يتحولون إلى متسولين وشحاذين؟

في رواية أخرى، إنما عن ختان الذكور في العصر العباسي، “أن الخليفة المتوكل أقام حفلة طهور لإبنه المعتز في قصر الهناءة، بلغت النفقة عليه عشرين مليون درهم، ووقف في صحن القصر أربعمائة جارية”، وعن جواري ذاك الزمان، يقول أبو حيان التوحيدي في الجزء الثاني من كتابه “الإمتاع والمؤانسة” إن أبا مسلم الخراساني “اشترى الجارية حبّابة بثلاثين ألف درهم”.

حفلة زفاف بعشرين مليونا للنجل الميمون وجارية بثلاثين ألفا لكونها مليحة وطروب ومغناجة!

ولكن كيف كانت أحوال “العامة” في العصر العباسي؟

في كتابين بالغي الأهمية لفهمي سعد وبدري فهد عن “العامة في بغداد” في القرون الثالث والرابع والخامس الهجري، ما يفيض شرحا عن أحوال البؤساء والفقراء، وبحسب المؤرخ والمفكر المصري احمد أمين (1886ـ1954) في كتابه الخاص عن هارون الرشيد “لم يكن الترف حظ كل المسلمين، ولا أغلبهم، وإنما هو حظ الخلفاء والأمراء وكبار التجار وأضرابهم، أما سائر الشعب ففقراء”، وعلى ذلك أنشد شاعر بائس وجائع في العصر العباسي ما تردّده أكثرية اللبنانيين في زمنهم الأسود الراهن، قال الشاعر العباسي ابو فرعون الساسي:

ليس إغلاقي لبابي أن لي/ فيه ما أخشى عليه السرقا

إنما أغلقه كي لا يرى/ سوء حالي من يجوب الطرقا.

لماذا يغلق اللبنانيون أبوابهم، طالما لا يخشون سرقة بيوتهم الخاوية؟

إزالة آثار النكبة اللبنانية قد تتطلب ضعف السنوات التي حددها رئيس الجمهورية، فما يجب ان يعرفه اللبنانيون أن طريق الخلاص معقدة وطويلة أمامهم، وينتظرهم “نظام الأسياد والعبيد” طوال العقد المقبل وما يليه

ـ المشهد الثاني؛ اللبنانيون العبيد وأموالهم المنهوبة:

بحسب نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي أن الخسائر المالية المترتبة على اللبنانيين مقدرة بـ69 مليار دولار أميركي، ولكن توزيع هذه الخسائر بين الدولة والمصرف المركزي وقطاع المصارف والمودعين غير متفق عليه بعد، وبالنظر إلى السلوك الشائن الذي جرى اعتماده منذ لحظة الإنهيار العام في صيف العام 2019، والقاضي بإقتطاع ما يفوق الثمانين في المائة من أموال المودعين، وبما يعني أن “طبقة النبلاء” تنهب “طبقة العامة”، ومن المرجح أن يدوم هذا النهب، فذلك يستدعي الوقائع ذاتها من التاريخ القديم، حين كان الملوك والأمراء والإقطاعيون يقتطعون ما يشاؤون من محاصيل المزارعين والفلاحين، ويتركونهم في حرمانهم يشقون ويقحطون، ولسان التاريخ يقص صوراً متعددة ومن مجتمعات شرقية وغربية مختلفة:

في “قصة الحضارة” لكبير المؤرخين وول ديورانت أن الممالك الهندية كانت تفرض “ضرائب باهظة على الزراعة والتجارة، وكان على الفلاح أن يتنازل عن سدس أو نصف محصوله، والظاهر أن مجاعة حصلت عام 1556 أدت بالناس إلى أكل اللحوم البشرية”، ويعج تاريخ الهند القديم بنظام الطبقات الذي يسوده “البراهمة” وتقع “الشودرا” في أسفله، وهي الطبقة الخادمة لكل من يعلوها، وكانت تشكل السواد الأعظم من الهنود وهي تعطي كل شيء ولا تملك شيئاً، كما هي حال اللبنانيين الذين صودرت أموالهم وباتوا لا يلوون إلا على الوعد، تماماً مثلما كان يعيش العبيد من أهل الصين في غابر الأزمان، فقد كانوا “يزرعون الحقول بأنواع مختلفة من الحبوب، وفي موسم الحصاد يستولي الإقطاعيون على كل ما تقع أيديهم عليه، وجراء ذلك اقتصر غذاء العبيد في الشتاء على النباتات البرية تقريباً”، كما تقول مجلة “بناء الصين” (العدد 64، بكين، عام 1987).

تقول قصيدة لعبد صيني مَحَقَ الظلم عيشه وحياته:

آه يا سيد ـ ين ـ  القاسي الجليل/  القلوب حزينة فتكتها النار/ ما من أحد يجرؤ على الضحك أو حتى الثرثرة.

وفي اليونان وأوروبا، لم تكن أوضاع العامة أحسن حالاً، ويكشف الشاعر الإغريقي هزيود الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد أن “الفقر المدقع كان يعاني منه أرقاء الأرض وصغار المزارعين الذين يقوم على سواعدهم مجد الأشراف والملوك وعبث الحروب”، كما يقول ديورانت. وفي ألمانيا على ما يشرح المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل (1804ـ 1859) في كتابه الشهير “النظام القديم والثورة الفرنسية” أن العبد “كان يمكن أن يصير مالكاً عقارياً، غير أن ملكيته تبقى ناقصة دوماً، ولا يجوز أن يبيعها أو يرهنها”.

إقرأ على موقع 180  ميقاتي إنْ كُلّفَ: التأليف قبل التكليف.. وإلا سيناريو الحريري!

أوليس هذ ما يحدث مع عامة اللبنانيين؟

ألا يقول “الأسياد والنبلاء” للمودعين إن لكم أموالا في المصارف ولكن لا يمكنكم سحبها أو التصرف بها؟

يا للأقدار حين تحفر حفائرها.

ـ المشهد الثالث؛ الطائفية والعبودية:

منذ قيام دولة لبنان الحديثة في عام 1920، وفاحشة “الطائفية السياسية” تضرب أطنابها في الممارسة السياسية المحلية، وإذ جاءت “اتفاقية الطائف” لتفتح المجال لإلغاء “الطائفية السياسية” كما تنص مواد الدستور الجديد من مقدمته إلى المادة 95، فإن أهل النظام أقفلوا أبواب التطوير والتنوير، وشاؤوا للطائفية ان تتحول عبودية سياسية، فلا يخرج منها اللبنانيون ولا يستطيعون إلى إلغائها سبيلا، حتى غدت قيدا أو وشما لا فكاك منها، وهي حال العبيد الذين كانوا ممنوعين من الخروج عن ربقة أسيادهم، ولأجل ذلك سُنّت القوانين وشُرّعت حتى يبقى العبد عبداً، وأمثلة التاريخ تكتظ بشواهدها:

في مقدمة “في تاريخ الحضارات القديمة ـ تاريخ العراق القديم”، يقول العلامة العراقي طه باقر “إن العبد كانوا يعدونه شيئاً من الأشياء، ولذلك لم يُذكر في التسجيلات بإسم نسبه لأبيه وإنما بإسم صاحبه، وكانوا يسجلون العبيد بهيئة عدد من الأشياء المقتناة أو عدد من الرؤوس، وكانوا يميزون العبيد عن بقية أفراد المجتمع بقص شعر رؤوسهم أو صمغ أجسامهم، وعاقبت شريعة حمورابي من يزيل العلامة الموسوم بها العبد”.

اللبنانيون على ما يبدو، وبفئاتهم الأوسع، ذاهبون إلى أن يكونوا عبيدا وزنادقة في آن واحد، وكلما طالت نكبتهم اقتربت عبوديتهم وزندقتهم

وفي الصين القديمة، “كان مُلاّك العبيد يقيّدون عبيدهم بالحبال للحؤول دون هروبهم من أعمال السخرة”، كما أوردت مجلة “بناء الصين”، ويشير ألكسيس دو توكفيل إلى “أن الفلاح في المانيا لم يكن باستطاعته أن يغادرالإقطاعية، وإن غادرها، فمن حق الإقطاعي أن يلاحقه في كل مكان ويعيده بالقوة، وكان الفلاح حينئذ يخضع للعدالة الإلهية”.

وحيال ذلك، ماذا على العبد أن يفعل ويقول؟ لا يفعل إلا ما يقوله له سيده ولا يقول لسيده إلا نعم، وهذه مشهدية شعرية من العراق القديم بين العبد وسيده يوردها قاسم الشواف في الجزء الثالث من “ديوان الأساطير” الذي أشرف عليه الشاعر أدونيس:

ـ أيها العبد تعالى هنا وامتثل لأوامري 

ـ نعم سيدي نعم 

ـ إسرع إذهب وأعد لي العربة كي أذهب إلى القصر

ـ إذهب إلى القصر سيدي إذهب، فتكون هناك فائدة لك 

ـ كلا يا عبد لن أذهب إلى القصر

ـ لا تذهب سيدي لا تذهب 

ـ أيها العبد تعالى هنا وامتثل لأوامري

ـ نعم سيدي نعم 

ـ إسرع إذهب وآتني بماء لغسل يدي قبل تناول العشاء

ـ تناول عشاءك سيدي تناول عشاءك، فالعشاء المتوازن يبهج القلب 

ـ كلا يا عبد لن أتناول عشائي 

ـ لا تتناول عشاءك سيدي لا تتناول عشاءك.

وهكذا تمضي الحوارية بين فعل الأمر وفعل الإمتثال، وما على العبد سوى الإنجرار وراء أهواء مالكه والحاكم بأمره.

أي ختام يمكن أن تليه النقطة الأخيرة على آخر السطر الأخير؟

منذ وقوع لبنان في جحيم النكبة المالية والإقتصادية قبل عامين، تعالت وترفعت غالبية القوى السياسية عن الإعتراف بمسؤوليتها عن سوء إداراتها للدولة وإسقاطها إياها وإفلاسها، فتلك القوى “لا تخطىء” فكيف تعترف بخطيئة لم ترتكبها؟ ومثل هذا “التعالي والترفع” يفتح الذاكرة على شاهدين، واحد من مصر الفرعونية وآخر من بغداد العباسية:

ـ في مصر الفرعونية: كان رئيس الكهنة ينزه الفرعون عن الخطايا، ويلوم الخدام الذين زودوه بأفكار خبيثة، كما يقول تيودور الصقلي في شهادته عن مصر القديمة.

ـ في بغداد العباسية: كان أبو جعفر المنصور يعفي نفسه من كل مسؤولية، وما يقوم به نابع من عقيدة الجبر وفقا لقراءة محمد عابد الجابري في “العقل السياسي العربي”، ولذلك لا يقع عليه وزر ولا إثم، فالمأثومون هم الناس، وأما هو فيعلو على الأوزار والآثام.

من يأثم؟ ومن يخطىء؟ هم الناس، ولذلك رمى العباسيون مخالفيهم بالزندقة، ومن هم الزنادقة؟ يوضح احمد أمين ذلك بالقول:

“كانت كلمة الزندقة غير محدودة المعنى، وهي تهمة يتهم بها الشخص عدوه لينال السلطان منه، وكانوا يطلقونها على المرشحين للخلافة حتى يكرههم الناس ويسهل على الخليفة عزلهم، أو على الشخص الذي يريد الخلفاء أن يتخلصوا منه، وعلى البرامكة، وعلى قوم عُرفوا بأصالة الفكر مثل عبد الله بن المقفع”، وسرت آنذاك مقولة “من تمطنق تزندق”.

من بقي في خارج دائرة الزندقة؟

لم يبقَ إلا الموالون للسلاطين، وأما عموم الناس فهم الخطاؤون، وهؤلاء على قسمين: عبيد في خدمة السلطان، وزنادقة يجيز السلطان إفناءهم.

اللبنانيون على ما يبدو، وبفئاتهم الأوسع، ذاهبون إلى أن يكونوا عبيدا وزنادقة في آن واحد، وكلما طالت نكبتهم اقتربت عبوديتهم وزندقتهم.

سؤال النبضة الأخيرة:

هل يقال للبنانيين في نهاية العام: كل عام وأنتم بخير؟.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ليس بالباخرة أو المؤتمرات يحيا لبنان