“في ليل السادس من ابريل/نيسان عام 1979، بدأ مصباحان يخترقان ظلمة الليل فوق الرصيف باشعتهما الصفراء والبيضاء وذلك خارج مستودع شحن قرب الواجهة البحرية (الريفييرا)، ومع اقتراب السيارة التي تُطلق هذين الضوءين كانت بقعة النور تكبر فاذ بها سيارة سياحية من طراز “فيات 127” راح محركها “يقرقع” و”يخشخش” الى ان توقف كلياً على بعد حوالي مائتي ياردة (قرابة 180 متراً) من البوابة الامامية للمستودع. بالمقابل، هناك حارسان على الجهة الداخلية للمستودع الواقع في منطقة “لا سين سير مير” غرب منطقة تولون الفرنسية على ساحل البحر الابيض المتوسط.
كان المستودع المذكور تابعاً لشركة “مجموعة سنيم” المتخصصة بتصنيع المكونات المعقدة للسفن والمفاعلات النووية. هناك دائماً حارسان يقومان بالحراسة على الباب بثلاث نوبات كل واحدة منها ثماني ساعات، وهي مهمة مملة. اقترب الحارسان من البوابة الداخلية عندما فتحت ابواب السيارة التي خرجت منها فتاتان جميلتان، وكان الارباك والغضب بادٍ عليهما وهما تقتربان من البوابة، فسألت احداهما الحارسين من وراء السور باللغة الفرنسية “هل بامكانكما مساعدتنا؟” بعد ان شرحت لهما انهما سائحتان انكليزيتان خرجتا لقضاء ليلة ممتعة على الريفييرا ولكن سيارتهما كانت تتعطل معهما كل الوقت، واطلقت ابتسامة اغراء ووعدت الحارسين بالإنضمام اليهما في احد المرابع الليلية الساحلية. على الفور، جمع الحارسان بعض المعدات وخرجا من البوابة باتجاه السيارة والبسمة على وجهيهما”.
بعد ساعات قليلة من وقوع الانفجار، اعلن الناطق باسم مجموعة تطلق على نفسها اسم “مجموعة البيئة الفرنسية” مسؤولية منظمته عن التفجير، ولكن أحداً لم يُصدق ذلك وبالتأكيد لم تصدق ذلك الاستخبارات الفرنسية، فالكل كان يعتبر ان “الاسرائيليين” هم وراء التفجير لانهم المستفيدون الوحيدون من ذلك.. والمستهدف هو العراق
يتابع بيرغمان: “خلف هذين الحارسين كان يختبىء خمسة من عملاء وحدة “الحربة” التابعة للاستخبارات “الاسرائيلية” سارعوا إلى تسلق سور البوابة بهدوء بالغ في حركة تدربوا عليها طويلاً في احدى القواعد العسكرية عند الشاطىء الجنوبي لـ”اسرائيل”، وبهدوء ايضاً شقوا طريقهم نحو المستودع، وفي داخله الصقوا عبوات ناسفة شديدة الانفجار على اسطوانتين ضخمتين وشغلوا ساعة التوقيت المربوطة بالعبوات وانسحبوا عائدين بالطريقة ذاتها واختفوا في عتمة الليل بلا أي ضجيج. ولم يتجاوز الوقت الذي استغرقوه للدخول وزراعة العبوات والخروج اكثر من خمس دقائق. خلال هذا الوقت، كان الحارسان على الرصيف خارج المستودع قد تمكنا من اعادة تشغيل محرك سيارة الفتاتين معربين عن مفاجأتهما كم كانت المهمة سهلة. عندها وعدتهما الفتاتان (العميلتان “الإسرائيليتان”) بان تلتقيا بهما لاحقاً وغادرتا بالسيارة.
على بعد مسافة قصيرة من المكان، كان هناك رجل وامرأة يمسكان بأيدي بعضهما البعض ويتمشيان ببطء، وبدا عليهما انهما مشغولان بمداعبة بعضهما برومانسية. كان شعر الرجل اسود اللون، حريري الملمس اشبه بهامفري بوغارت. أحنى رأسه على كتف المرأة للتأكد أن سيارة الفتاتين قد غادرت الموقع، فاستدار مع صديقته عائدين باتجاه شوارع بعيدة بعض الشيء عن المكان ومن هناك غادرا بسيارة كانت بانتظارهما. لم يكن هذان الزوجان سوى مايك هراري رئيس وحدة “قيساريا” في الاستخبارات “الاسرائيلية” وتمارا احدى عميلات “الموساد”.
بعد ثلاثين دقيقة، دوى انفجار كبير في المستودع وانطلقت اعمدة اللهب لتضيء عتمة الليل عند الواجهة البحرية الفرنسية بضوء برتقالي واحمر. نجح رجال الاطفاء في اخماد الحريق قبل ان يؤدي الى تدمير كامل المبنى وتضرر محتويات المستودع بصورة كبيرة ومن ضمنها آلات صُنعت بحرفية عالية على مدى اكثر من سنتين، ولو لم يتم تدميرها لكان بامكان هذه الآلات ان تشغل مفاعلاً نووياً بقوة سبعين ميغاوات وهو من القوة بمكان ان يحمل اسم مفاعل اوزيريس. وهذا الاسم، اوزيريس، هو لآلهة ما بعد الحياة والأموات والعالم السفلي عند المصريين القدماء. كان الفرنسيون يبيعون هذا المفاعل للديكتاتور العراقي صدام حسين الذي كان يعتبر نفسه التجسيد الحديث لنبوخذ نصر، الملك البابلي الذي دمر مملكة “اسرائيل” القديمة.
بعد ساعات قليلة من وقوع الانفجار، اعلن الناطق باسم مجموعة تطلق على نفسها اسم “مجموعة البيئة الفرنسية” مسؤولية منظمته عن التفجير، ولكن أحداً لم يُصدق ذلك وبالتأكيد لم تصدق ذلك الاستخبارات الفرنسية، فالكل كان يعتبر ان “الاسرائيليين” هم وراء التفجير لانهم المستفيدون الوحيدون من ذلك.. والمستهدف هو العراق
في تلك الفترة، يقول رونين بيرغمان، وبينما كان العديد من الجهود والموازنات “الاسرائيلية” مُكرساً للصراع الدموي الدائر في لبنان، كان التهديد الوجودي لدولة “اسرائيل” يقلق قادة جهاز “الموساد”، وأهم تهديد كان يأتي من العراق، البلد الذي يحكمه جزار مختل يحمل طموحاً بعيد المدى بأن يصبح صلاح الدين (الأيوبي)، وكان اسوأ كوابيس الجيش “الاسرائيلي” هو سيناريو تشكيل جيش عراقي ضخم العدد ينضم الى الجيش الاردني لخلق جبهة تُهدّد الحدود الشرقية لـ”اسرائيل”. وكانت القوات “الاسرائيلية” منشغلة بصورة سرية منذ ستينيات القرن الماضي بهذا الموضوع العراقي عندما ثارت الاقلية الكردية ضد السلطة المركزية في بغداد فقامت “اسرائيل” بتزويد الاكراد بالسلاح وقام ضباط وعملاء من الجيش “الاسرائيلي” و”الموساد” بتدريب المقاتلين الاكراد على حرب العصابات، وكانت الفكرة من وراء ذلك، بحسب ما يقول رئيس “الموساد” حينها مائير اميت، “خلق شرق اوسط يكون بامكاننا فيه ان نعمل ضد اعدائنا على عدة جبهات في الوقت نفسه”. ولتبسيط الامر اكثر، كان العراق عدواً لدولة “اسرائيل” وكان الاكراد اعداء لبغداد، وعدو عدوي هو صديقي، وفي الوقت نفسه كان هناك تحالف مماثل، مع شاه ايران محمد رضا بهلوي وامبراطور اثيوبيا هيلاسيلاسي، وهاتان دولتان تحاذيان الدول العربية المعادية لـ”اسرائيل” وقد سمحتا لـ”الموساد” بتركيب قواعد تنصت وامور استخبارية اخرى على اراضيهما، يقول بيرغمان.
بيرغمان: كان صدام حسين يعتبر ان العراق لن يكون قوة يحسب لها حساب ما لم يمتلك ترسانة عسكرية لا تقهر وان الطريقة الوحيدة لغزو الشرق الاوسط هو بامتلاك القوة.. لذلك قرر صدام إمتلاك السلاح النووي
بدءاً من العام 1969، اخذ المستشارون “الاسرائيليون”، وبينهم خبير المتفجرات ناتان روتبيرغ يسمعون من اصدقائهم الاكراد بالرجل الذي كانوا يطلقون عليه لقب “جزار بغداد”. كان هذا الرجل صدام حسين التكريتي الذي دخل صفوف صانعي الانقلاب العسكري الذي نجح فيه حزب البعث بالوصول الى السلطة في العراق قبل ذلك بعام واحد، وقد تم تعيين صدام نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة – الرجل الثاني في النظام الجديد والمسؤول عن القوات المسلحة واجهزة الاستخبارات وهو الذي امر بالقاء القنابل على المدنيين (الأكراد) ومنع وصول امدادات الغذاء للسكان المتمردين على سلطته واقام شبكة من غرف التعذيب كان هو شخصياً يشرف على معظم عمليات التعذيب فيها بنفسه. فطلب الاكراد من “الاسرائيليين” مساعدتهم بقتل صدام، ووصل الامر الى ان قام روتبيرغ نفسه بتجهيز عبوة ناسفة في كتاب قرآن لهذه الغاية على غرار العبوة الناسفة التي استخدمت لاغتيال رئيس المخابرات المصرية عام 1956. لكن رئيسة الحكومة حينها جولدا مائير رفضت ان توقع “اللائحة الحمراء” (اللائحة التي تتضمن اسماء من تريد اجهزة الاستخبارات “الاسرائيلية” تصفيتهم) خوفاً من عدم قدرة الاكراد على الاحتفاظ بسر الدور “الاسرائيلي” في العملية، ما يؤدي الى وقوع اسرائيل في تداعيات فضيحة عالمية لا سيما امام السوفيات والاميركيين الذين كانوا يتوددون حينها بصورة جدية لصدام. وكانت مائير سابقاً قد رفضت خطة مشابهة من اجل قتل الرئيس المصري جمال عبد الناصر خشية تشريع عمليات مشابهة من اجل قتلها هي ووزرائها.
وهكذا تُرِكَ صدام حسين حياً، مع طموحاته ووحشيته ليتولى زمام الامور في حزب البعث وفي العراق كله. وفي العام 1971، عندما كان في الرابعة والثلاثين من العمر، تمكن صدام من ازاحة كل منافسيه الجديين في النظام العراقي واحكم قبضته على مقاليد السلطة تاركا الرئيس احمد حسن البكر مجرد صورة رئيس (ولكنه ازاح اخيرا البكر عن السلطة كليا في العام 1979). كان صدام يعتبر نفسه شخصية تاريخية وقائداً عربياً سيجعل من العراق قوة اقليمية وقوة قائدة للعالم العربي وبنفس قوة ايران في ذلك الحين. وكان صدام يعتبر ان اليهود هم “خليط من النفايات وبقايا امم متعددة” وكان يريد ان يعيد رسم خريطة الشرق الاوسط بمحو اسرائيل كلياً منها، ولم يخف العراقيون هذا الرأي، فقد كتبت صحيفة “الجمهورية” العراقية الناطقة بلسان حزب البعث في مارس/اذار عام 1974 “ان وجود كيان صهيوني مصطنع يرمز الى الغاء الحق العربي التاريخي في الوجود واهانة الشرف العربي. هذا الكيان العدواني هو لا شيء سوى سرطان مخيف يتمدد بصورة خطيرة خارج حدوده، علينا محاربة الصهيونية.. بكل طريقة ممكنة. ان القدس العربية تنتظر صلاح الدين العربي (اي صدام حسين) لتطهيرها من التلوث الذي طبعت الصهيونية به اماكننا المقدسة”. وكان ذلك يعني بشكل واضح ان صدام حسين يريد ان يكون النسخة الحديثة لصلاح الدين الايوبي ليطرد الكفار من ارض فلسطين. لكن صدام ـ يختم بيرغمان ـ “كان يعتبر ان العراق لن يكون قوة يحسب لها حساب ما لم يمتلك ترسانة عسكرية لا تقهر وان الطريقة الوحيدة لغزو الشرق الاوسط هو بامتلاك القوة.. لذلك قرر صدام إمتلاك السلاح النووي”.