أما آن للبركان اللبناني أن ينفجر..؟

هناك نظريّة في علوم الإعلام والاتّصال مهمّة جدّاً. يعتمدها طلاّبنا في معظم أبحاثهم. اسم هذه النظريّة "ترتيب الأولويّات". إنّه التعريب المُنتقى لاسمها الأصلي: Agenda-Setting Theory. تنطلق هذه النظريّة، من فرضيّة وجود علاقةٍ طرديّة؛ بين حجم اهتمام الإعلام بقضيّةٍ معيّنة، وبين حجم اهتمام الجمهور بهذه القضيّة.

أسّست لهذه النظريّة دراسةٌ قام بها في 1972 عالما الاتّصال الأميركيّان McCombs Maxwell وDonald Shaw. افترضت دراستهما، أنّه كلّما زاد تركيز وسائل الإعلام على قصّةٍ ما أو حدثٍ ما، زاد احتلال تلك القصّة أو ذلك الحدث مساحةً أكبر في عقول المتلقّين. وأكثر من ذلك. تبيّن لهما، أنّ موضعة الكلام وتراتبيّته في “جدول الأخبار” عن القضيّة المعيّنة أو الحدث المعيّن، تركِّزان انتباه الناس، في وجهةٍ محدّدة. إذاً، “للأجندة” مغزى تنظيمي لتفكير الجمهور. فهذا جوهر النظريّة الاتّصاليّة المذكورة. إذْ تجعل الجمهور يعتقد أنّ ما تبثّه وسائل الإعلام، إنّما هو أهمّ ما يحصل من شؤونٍ وشجونٍ في هذا العالم. أهمّها على الإطلاق. وهكذا، ينحاز عقله ووجدانه، تدريجيّاً، إلى حيث تشير إبرة بوصلة الميديا. فهي “ترشد الجماهير وتعلّمهم ما يجب أن يفكّروا فيه. وعمّاذا يجب أن يتحدّثوا”، بحسب تعبير المفكّر والصحافي الأميركي Walter Lippmann.

عبر هذه “الأجندة”، تترتّب لدى الجماهير أولويّات الأحداث والمعلومات والقضايا. على شكل “بانوراما” متحرّكة من الصور الذهنيّة، لأحداثٍ تقع في عالمٍ لا يدركه معظم عناصر تلك الجماهير. والخطير في الموضوع، أنّ الإعلام يخلق، غالباً، بيئة زائفة في عقول البشر. كونه يُعَدّ المسرح الأساسي لما يحصل من مناظراتٍ ونقاشاتٍ وسجالاتٍ حول المسائل السياسيّة وغير السياسيّة. والأخطر، عندما يتواطأ الإعلاميّون للترويج “للأجندة” التي يفرض أصحابها هذه المناظرات والنقاشات والسجالات. فنرى كيف يصير الناس يتحدّثون في السياسة، تماشياً مع الخطوط التي ترسمها لهم “الأجندة السياسيّة” عبر وسائل الإعلام. فكم من مرّةٍ سمعتم رفيقاً أو قريباً أو جاراً أو بائعاً يردّد تحليلاً أو موقفاً أو رأياً في السياسة والاقتصاد والصحّة، وتجزمون بينكم وبين أنفسكم أنّ المتحدّث التقطه، بالتأكيد، من “مكانٍ ما”؟ كثيراً نعم.

وأسوأ ما في “الأجندة” هو طبيعتها. فهي تقوم على الفرز والانتقاء والترشيح للمعلومات. ما ينتج عنه، بالضرورة، إنقاصٌ لعدد القضايا التي يشملها أيّ “نظام أجندي”. وتحكُّمٌ بديهي بمحتوى ومضمون وشكل وموقع تلك القضايا، قبل عرضها على المتلقّين. فكلمة “أجندة” تعني، في الأصل، أن يكون لمَن يضعها أهداف (خاصّة أو عامّة). ومصالح (في اتجاهاتٍ مختلفة). صحيحٌ أنّ الإعلام ليس القوّة الوحيدة الصانعة للأجندات. لكنّه الجهة الأبرز والأهمّ بين سائر صانعيها. وذلك لسببٍ بسيط. فعبر أجندتها، تهندس الميديا وتسوّق لأجندات باقي اللاعبين والقوى الأخرى المؤثّرة. أي كلّ الذين يسهمون، بشكلٍ أو بآخر، في “تصعيد” القضايا وجمْع المطالب ومراقبة المخرجات والتأثير في مسارات النقاشات العامّة. ونعني بهم، جهات عديدة فاعلة. مؤسّسيّة وغير مؤسّسيّة. عاملة بشكلٍ مستقلّ أو متزامن. هم، بديهيّاً، قادة الرأي. والنخب المتنوّعة المشارب. وأصحاب المناصب السياسيّة. ومجموعات المصالح. والحركات الاجتماعيّة. كلّها كيانات تتحكّم في بناء “الأجندة”، بين المجتمع والدولة. وتتنافس في ما بينها مع هدفٍ يتمثّل، أحياناً، في كسْب كلٍّ منها لودّ الآخر.

بالتأكيد، يبقى النظام السياسي الجهة الأقدر على حسْم أولويّات “الأجندة”. تبعاً لقيمه ومصالحه وحاجته إلى الاستقرار والتوازن. ولكونه الأقرب إلى العمليّة السياسيّة، فإنّه يتمتّع بالسيطرة الأوسع على المواضيع التي تصل إلى جدول الأعمال السياسي. إلى “الأجندة”. وعلى تحديد كيفيّة مناقشتها (المواضيع). من حيث الانتقاء والتنظيم والتأطير وتخريج المضمون. تعود له صلاحيّة تقرير ما يجب إخفاؤه وطمسه من الأفكار والأحداث والقضايا. أو توقيت “نبْش القبور” لإعادة ضخّ ما توارى لسنوات، ربّما، في التداول الإعلامي. هكذا، من دون أيّ مبرّر. ومن دون أيّ طائل. أَوَليس هذا ما يحصل في لبنان؟ بلى.

فالناس في وادٍ والحُكّام في وادٍ آخر. فالشعب يعيش على كوكب الأرض. والسياسيّون يتسامرون على كوكب الزهرة. هم يتكلّمون في الحوار والانتخابات ومشاريع القوانين والأحوال الشخصيّة في الخليج وحقوق الحوثيّين في اليمن والأوضاع الاقتصادية في أستراليا. ونحن نستجدي الرغيف والدواء والمحروقات والانترنت ومالنا المنهوب في المصارف. لكن، كيف لا يزال يرتضي اللبنانيّون أن تتحكّم بهم هذه الحفنة من الأشرار؟

أفضت متتاليات الفساد والفشل وانعدام المحاسبة وتقويض الثقة والانهيارات، إلى إهدار جهد اللبنانيّين وتبدُّد صحّتهم النفسيّة. بات مئات آلاف المواطنين الجوعى والمشردين مهيّئين (نفسيّاً وجسديّاً) لقبول وتقبّل أيّ شيء. تمّ ترويضهم، بالمختصر. صار جلّ طموحهم الحصول على أبسط متطلّبات العيش غير الكريم

سؤالٌ بحجم الوطن يهمس به لنفسه “الكبير والصغير والمْقَمَّط بالسرير”، كما نعبّر شعبيّاً. وما يُحزِن، أنْ لا جواب على هذا السؤال! عندما أحاول أن أبحث عن خلفيّات صمت اللبنانيّين المطبق حيال ما نعانيه، ينتابني أسى من نوعٍ شرس. فالغيبوبة المجتمعيّة التي غرقنا فيها، لا توصيف لها. عجزت مصطلحات اللغة عن الإتيان بمعنى لها. حالة من الضلال؟ من الفقد؟ من الهزيمة؟ من النكسة؟ من الاكتئاب؟ من العجز؟ من التروما؟ قالت لي الطبيبة النفسيّة التي قصدتُها في باريس سنة 1995 من دون مواربة: “أنتم اللبنانيّين ستُلازمكم التروما (من الحرب) إلى الأبد”! لكنّنا لا نحتاج، حاليّاً، لتشخيص نوع مرضنا المزمن. الأجدى، على الأرجح، معرفة سبب هذا المرض. إنّها “الأجندة”. أيُعقَل!؟ “شو جاب لجاب”، كما نقول بالعاميّة؟ عودوا، يا أصدقاء، إلى 17 أكتوبر 2019. اقرؤوا في كتاب الطغمة الحاكمة. واسمع يا رضا.

إقرأ على موقع 180  الحريري المستحيل صار سلسبيلاً.. "شو عدا ما بدا"؟

عندما اهتزّت الأرض، في ذاك اليوم، تحت “عروش” الستّة رجال ونصف، خافوا. ارتعبوا. تضرّعوا إلى ربّهم وسألوه ما العمل؟ جاءهم الوحي. يجب استيعاب ردّة الفعل الشعبيّة. كيف نستوعبها؟ تشاوروا في ما بينهم وتوزّعوا الأدوار. الأقوياء قمعوها بقوّة السلاح الشرعي وغير الشرعي. اعتقلوا العشرات. جلس قسمٌ منهم في الخندق مع “الثوّار”. سرقوا شعاراتهم. عمّم بعضهم فيديوهات “ما بعد السحسوح” الشهيرة. أمّا الإلهيّون فباشروا بشيطنة المنتفضين. بخّوا السمّ بالحديث عن “الأجندات المشبوهة”. لكنّهم اعطوها اسماً جذّاباً: “جماعة السفارات”. ركعوا جميعاً وصلّوا صلاة الشكر، امتناناً لتفشّي الكورونا وإفراغها للساحات.

هذه سرديّة تعرفونها، يا أعزّاء. عذراً على التكرار. لكنّ الغاية، هي محاولة “التقصّي” في أسباب صمتنا المدوّي بوجه هدير المصائب والويلات والكوارث التي اجترحوها لنا. استعادت السلطة (أو بقاياها) أنفاسها، إذاً. واستأنفت نشاطها بوضع أجندتها الخاصّة لتتصدّى بها “لأجندة” الناس المسحوقين. و”أجندة” ساستنا، هي بمثابة نوعيّة من النمط الإجرامي للحُكم. ولهذا السبب، بلا شكّ، سمعنا رنينها التآمري. سلطتنا متفرِّغة منذ الـ 2019، لتصنيع أولويّاتٍ وهميّة. بما يخدم مصالحها الذاتيّة، حتماً. فأحد أوجه عجزها، تمثّل في تغيير أولويّات وحاجات الناس الفعليّة. أي، خرابهم في معيشتهم ومداخيلهم وطموحاتهم.

فرضت الطغمة الحاكمة على الشعب أجندتها. جنّدت وسائل الإعلام اللبنانيّة كافّةً للترويج لها (تذكّرتم الحديث عن تواطؤ الأجندات؟). ملأت الفضاء  بالأوهام والترّهات. ومضت إلى حدودٍ غير مقبولة في الإنكار والكذب والإجرام. في إنتاج وعيٍ جديد للناس. ومحاولة فرضه عليهم. نجحت في مخطّطها الشيطاني. واعتبرت أنّها حقّقت انتصاريْن على التشرينيّين. على كلّ اللبنانيّين. الانتصار الأوّل، هو ترويضهم وجعلهم يعتادون على الذلّ؛ والثاني، قلْب “الأجندة” وأولويّاتها من خلال إعادة إحياء ذاكرة الحرب. وبعد؟

لقد “تكتكت” السلطة اللبنانيّة، وببراعةٍ موصوفة، لإبراز وتضخيم المآلات المأزومة. عمّمت ثقافة الإلهاءات ونهج المماطلة وتأجيل قوانين المحاسبة، من الحياة الدنيا للناس إلى حياتهم الآخرة. وشيئاً فشيئاً، بدأ الأمل ينكمش بمسوّغاتٍ متعدّدة. صار اللبنانيّون ينصاعون، طوعاً، لتقبُّل الفساد. نجح منطق تيئيسهم وإحباطهم. صار يحلّ، بالتدريج، محلّ غضبهم وحماستهم للاقتصاص من المافيا الحاكمة. ومع مرور الزمن، تمّ تجريف السياسة. وخطف الحرّيّات. وتزييف الإرادات. أفضت متتاليات الفساد والفشل وانعدام المحاسبة وتقويض الثقة والانهيارات، إلى إهدار جهد اللبنانيّين وتبدُّد صحّتهم النفسيّة. بات مئات آلاف المواطنين الجوعى والمشردين مهيّئين (نفسيّاً وجسديّاً) لقبول وتقبّل أيّ شيء. تمّ ترويضهم، بالمختصر. صار جلّ طموحهم الحصول على أبسط متطلّبات العيش غير الكريم. “خلّي يكون في بنزين مهما كان سعرو”. “يعملو شو ما بدهم بس ما ينقطع الحليب عن أطفالنا”. “ياخذو كلّ شي بس ما ترجع الحرب”.

فزّاعة العودة إلى الاحتراب، هي الركن الثاني الأساسي في “أجندة” حُكّام لبنان بعد ترويض الناس بالإذلال والحاجة. فلقد استقدمت السلطة، وبإتقانٍ نادر، كلّ خلافات المنطقة الممزّقة ووضعتها في “أجندة” عملها. رمتها، كعود كبريتٍ مشتعل، على الساحة المحليّة. ومع رفع إصبع التهديد صرخت، بكلّ مَن تسوّل له نفسه مجرّد التفكير بتغيير النظام ومنظوماته، “إيّاااااااكم!”. لكن، لا بدّ من توفير أجواءٍ مسرحيّة لتنفيذ “الأجندة”. مؤثّرات صوتيّة. هندس المهندسون، بعناية، حفلات الردح والهجاء وتقيّؤ الأحقاد. فإعطاء الانطباع عن شدّة الخصومة التي يتبادلها أركان السلطة، تحتاجها القطعان التي تُمَأمِئ وراء كرّازيها. تحتاج للشعور بأنّها مُحقّة في مساندة زعيمها الذي يقاتل بشراسة لانتزاع حقوقها.

لكنّ مهمّة تبادل العداء بسيطة. فكبار السياسيّين ومسؤولي الدولة، عندنا، يكرهون في الواقع بعضهم بعضاً. لا يكترثون باتّخاذ مواقف ودّيّة حيال بعضهم البعض. يتناطحون حتّى الموت. يلتهمون بعضهم بعضاً حتّى الفناء. فريقٌ يريد إعدام الطرف الآخر بالتدقيق الجنائي وفتح الملفات. والفريق الحاقد أكثر من البقيّة يريد تصفية حسابات قديمة. وفريقٌ يصلّي لتنفجر الحرب وينعزل في كانتونه. أمّا الفريق الأقوى فلا تزال مراميه الحقيقيّة، للأمانة، مبهمة. لكنّه يستمتع برؤية حزمة من الموالين يرتجفون خوفاً منه. لا يتجرّؤون، حتّى، على مغازلته والقول له “مَحْلا الكحل بعيونك”.

من أخطاءٍ فادحة إلى أخطاء أفدح. من أزماتٍ مفتعلة إلى أزماتٍ كارثيّة أكبر، تكون كفيلة بالتغطية على سابقتها. باتت حكايتنا شبيهة بهذه المعادلة: تسلّل الذئب. فصاح الديك. فنبح الكلب. فانتبه الراعي. فاستفاق الأهل. ففرّ الذئب. فنجا القطيع. فاطمأنّ الراعي. فاستلقى الكلب. فاحتفل الأهل. وذبحوا الديك. هكذا صارت حياتنا. مذْ غطَطْنا في نومٍ عميق. يقول المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: “النوم عندي أمرٌ يجب الانتهاء منه بأسرع ما يمكن. النوم عندي مُعادِل للموت. مثله مثل أيّ تقليصٍ للوعي“.

طال ارتحالنا، فما آن لهذا البركان أن ينفجر؟ إقتضى أن يكون هذا الارتحال وأسبابه موضوع مقالتي الأسبوع المقبل.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  نقاط إجبارية.. في مفاوضات اليوروبوند