واقع الممارسة الحزبية في اللحظة العربية الراهنة (بل منذ عقود)، يستحضر إلى الذاكرة نماذج حزبية متعددة وسيئة للغاية، وتنطلق مفاهيمها السياسية من قواعد النظر لذاتها بإعتبارها “النخبة والطليعة” وبأن الجمهور جاهل وغبي، وما هذا الجمهور في مفهموم “الطليعة” إلا عبارة عن أرقام مرقومة لا ضير بالتضحية بها أو إفقارها أو تشريدها في سبيل المُثل العُليا، التي لم تحققها التجربة البشرية في يوم من الأيام ولن تتحقق أبدا إلا بمشيئة رب العالمين.
من أوائل النماذج الحزبية في التاريخ الإسلامي التي افترضت نفسها “نخبة” وخلعت على الجمهور صفة “العوام” والجهالة، كان حزب “المعتزلة”، وعلى الرغم من انزياح هذا الحزب نحو “العقلانية” في بعض فروع تفكيره، إلا أن تطرف “العقل” على ما جاء لاحقا في “نقد العقل المحض” لإيمانويل كانط، دفع “المعتزلة” إلى احتقار الناس، وفي ذلك، نقل المؤرخون والضليعون في الملل والنحل الإسلامية عن الفقيه المعتزلي ثمامة بن الأشرس قوله للخليفة العباسي المأمون: “وما العامة، والله لو وجهت إنسانا، على عاتقه سواد، ومعه عصا، لساق إليك عشرة آلاف من العامة”.
هذا المفهوم الإحتقاري للعامة والناس، سيتمثل به حزب آخر، هو “الحزب القرمطي”، ويُروى عن زعيم القرامطة ابو طاهر سليمان الجنابي (ت 944 م) على ما جاء في “البداية والنهاية” لإبن كثير، أنه (الجنابي) لما هاجم مكة المكرمة، راح يقطع أعناق حجاج بيت الله الحرام، وقيل إنه أهلك عشرات الآلاف، كان يقطع الأعناق وكان يردد:
أنا بالله وبالله أنا / يخلق الخلق وأفنيهم أنا.
وما بين منزلة الإحتقار التي أنزل العقل “المعتزلي” الناس إليها، وبين سيوف البطش التي أمعن بها العقل “القرمطي” بالناس، كم من أحزاب “معتزلية” و”قرمطية” تمتد على مساحة الوطن العربي الكبير، حيث يهلك الجمهور مرة بإحتقاره من قبل “النخب الحزبية”، ومرة ثانية بتجفيف مصادر الأرزاق المتوازي مع قطع الأعناق جراء السياسات الحزبية التي ترفض أن تفهم أن الخبز والعمل والطبابة والتعليم والسكن هم أصل السياسة وفصلها.
وبعيداً عن التاريخ البعيد، وبحسب المفكر المصري إمام عبد الله إمام في كتابه “الأخلاق والسياسة”، لعل الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو (1901ـ1970)، كان من أوائل القائلين “إن الديموقراطية لا تلائم شعوب العالم الثالث”، ولأجل انفراده بالحُكم بعد قيادته حركة تحرر وطني أفلحت بطرد الإستعمار الهولندي من اندونيسيا عام 1945، ابتكر نظاما أسماه “الديموقراطية الموجهة” بهدف “الحد من التسيب في العملية السياسية الجماهيرية”، فعاث قمعا وتنكيلا بـ”الجماهير” بغية توحيدها وتأديبها، إلى أن أطاح به الجنرال محمد سوهارتو (1921 ـ 2008) بإنقلاب عسكري عام 1966، ولم يختلف مفهوم احتقار الناس عند الرجلين إلا بإستبدال راية اليسار براية اليمين.
ما بين منزلة الإحتقار التي أنزل العقل “المعتزلي” الناس إليها، وبين سيوف البطش التي أمعن بها العقل “القرمطي” بالناس، كم من أحزاب “معتزلية” و”قرمطية” تمتد على مساحة الوطن العربي الكبير، حيث يهلك الجمهور مرة بإحتقاره من قبل “النخب الحزبية”، ومرة ثانية بتجفيف مصادر الأرزاق المتوازي مع قطع الأعناق
من أين جاء مفهوم احتقار الناس؟
هذا السؤال يستدعي العودة إلى “الأستاذ الأكبر” لغالبية الأحزاب العربية، الإيطالي نيكولا ميكافيلي (1469 ـ 1527) ففي كتابه “المطارحات” يقول:
“من واجب الحُكّام ألا يعطوا بالا لميول الجماهير، إذ ليس ثمة شي أكثر تفاهة من تقلبات الجماهير” ويمضي قائلاً “يعتقد كثيرون أن مؤسس مدينة روما قام بفعل سيء حين قتل شقيقه وزميله، ولكن الطموحين إلى الحُكم، قد يحذون حذوه ضد من يعارضون سلطاتهم، ذلك أنه من النادر، إن لم يكن من المستحيل، أن تقوم حكومة إذا لم يشرف عليها شخص واحد، فمن الضروري جدا أن يكون ثمة رجل واحد، ترتكز على تفكيره وطريقة عمله، مهمة تنظيم الدولة، وعلى هذا الرجل أن يحزم أمره ويكون صاحب السلطة الواحدة”.
ويعترف ميكافيلي في الكتاب نفسه بأن النظام الجمهوري القائم على حرية الإختيار هو النظام الأرقى والأعلى مثالا، ولكن هذا الأمر يتطلب قدرا عاليا من الوعي غير المتوافر لدى الشعوب كافة، ولذلك ذهب ميكافيلي إلى تحبيذ مفهوم “وصاية الشخص على الشعب”، حتى لو أوغلت تلك الوصاية بدماء الشعب، فالغاية السامية تبرر وسيلة القتل، وقائمة النماذج الحزبية والسياسية بهذا الشأن طويلة، ومنها:
في “حوارات غير منشورة”، يقول المفكر الماركسي الياس مرقص في معرض نقده للتجربتين السوفياتية والصينية “إذا تسلم حزب شيوعي السلطة، وراح يبطش بالبشر، ويُعلن أن هذا البطش وهذا القتل وهذه الميكافيلية من أجل المستقبل الوضّاء، ثم بعد عشر سنوات او عشرين سنة نكتشف أن مستوى معيشة الناس قد انخفض انخفاضا مزريا، فالأحرى إذا أردنا أن نتكلم عن فشل وإخفاق، أن نفتش عن كلمات أقوى”.
ـ ماذا عن الصين في عهد ماو تسي تونغ؟
يقول الياس مرقص “مات الملايين تحت سكين لين بياو”.
ـ وما السبب في نقد التجربتين السوفياتية والماوية؟
يجيب مرقص “ارتكبنا غلطا مميتا حين قلنا إن الدولة جهاز طبقي لسحق الطبقات المعادية”.
أما مجلة “الصين الجديدة” فقد استدركت متأخرة مأساة الثورة الثقافية الصينية، فكتبت في عام 2002 منتقدة التجربة الماوية ومعها مقولة ماو تسي تونع “إن السلطة السياسية تنبع من فوهة البندقية”.
ناقد آخر للتجربة الحزبية اليسارية، هو المفكر منير شفيق، يجادل ويساجل كتاب فلاديمير لينين “الدولة والثورة” في كتاب يحمل الإسم نفسه (الدولة والثورة: رد على ماركس، إنجلز، لينين) ويقول في مقدمته “إن الكفاح من أجل تحرير الشعوب المستضعفة غير ممكن إلى حد بعيد، إلا من خلال نقد الإطروحات الليبرالية الرأسمالية والماركسية اللينينية حول الدولة”.
أكثر من مرة يكرر شفيق أن الماركسية تنظر إلى الدولة بكونها “أداة قمع” ويستشهد بمقولة لينين التالية “ديكتاتورية البروليتارية هي ديموقراطية الفقراء، ديموقراطية الشعب، لا ديموقراطية الأغنياء، تفرض في الوقت نفسه التقييدات على الحرية حيال الظالمين المستثمرين والرأسماليين، يتوجب علينا قمعهم وتحطيم مقاومتهم بالقوة، وواضح حيثما يكون القمع ويكون العنف، فلا حرية ولا ديموقراطية”.
ذلك ما يقوله لينين في لحظة تبريره للقمع والقتل والتضييق على الحريات وتنظيره للحزب “الطليعي”، ولكن كيف يرد عليه منير شفيق؟ يرد بالتالي:
“ما دام لا بد من القمع، فلا حرية ولا ديموقراطية، وعلينا أن نسأل هنا على عجل، هل كان ستالين نبتا غريبا عن ماركس ولينين”؟
صحيح أن منير شفيق يساجل الحزبيات اليسارية في كتابه ذاك، إلا أنه في الوقت نفسه يخشى أن تخطو الحزبيات الإسلامية الطريق نفسه، وإذا ما تم التوقف عند ما يقوله المؤلف بأن كتابه كان معدا للنشر في أوائل التسعينيات الماضية، فالمفارقة أنه استشرف احتمال أن يسلك “إسلاميون سياسيون” سلوكا فرعونيا في حال لم يعالجوا موضوع الدولة الحديثة معالجة سليمة، وحيال ذلك يقول:
“إن من أشد الويلات التي يمكن أن تلحق بالدعوة الإسلامية في هذا العصر، قيام دولة طاغوتية ترفع على جبهتها راية إسلامية، بينما هي في الوقع دولة ظلم وإستبداد، دولة فئة قليلة أو حزب، تتمتع بالإمتيازات والسلطات، وقد جعلت من نفسها عبر أجهزة الدولة، كما حدث مع دولة لينين، دولة طاغية فوق الشرع وفوق المجتمع”.
يُنقل عن عمر البشير قوله لقادة الجيش السوداني إثر اندلاع حركة الإحتجاجات الشعبية في ربيع العام 2019 “اقتلوهم، هناك فتوى تبيح قتل ثلث الشعب، بل هناك فتوى أكثر تشددا تبيح قتل نصف الشعب حتى يعيش الباقون”
هذا الإستشراف الذي سبق ظهور نظام حركة “طالبان” في أفغانستان، وسبق بعقدين إثنين ظهور تنظيمات “داعش” و”النصرة” وما يماثلهما في دنيا الله الواسعة، يوجب استدعاء ذرائع القتل والقمع في تجربة “الحكم الحزبي الإسلامي” في السودان، وحولها يقال:
ـ يروي وزير الإرشاد القومي السوداني محجوب عثمان (1926 ـ2010) أن الشيخ حسن الترابي الذي كان خلف الإنقلاب العسكري على التجربة الديموقراطية السودانية في الثلاثين من حزيران/يونيو 1989، قد قال “إن الشعب السوداني لن يسلك الطريق القويم إلا بالقهر”.
القهر يا شيخ؟
سبحان الواحد القهّار.
سبق القول أن زعيم حزب القرامطة “أفتى” بإفناء خلق الله، وكاد الجنرال السوداني عمر البشير أن يفعلها مستندا إلى “فتوى” اضطرب الفقهاء في مصدرها ومرجعها، وعلى ما قال القائد الميداني لقوات “الدعم السريع” السودانية الجنرال عبد الرحيم حمدان دقلو لصحيفة “الشرق الأوسط” في الرابع من آذار/مارس 2021، فإن عمر البشير قال لقادة الجيش السوداني إثر اندلاع حركة الإحتجاجات الشعبية في ربيع العام 2019 “اقتلوهم، هناك فتوى تبيح قتل ثلث الشعب، بل هناك فتوى أكثر تشددا تبيح قتل نصف الشعب حتى يعيش الباقون”.
ما قاله البشير، أو ما “أفتى” به، كان بول بوت قائد “الخمير الحمر” في كمبوديا، قد أوغل به وصال وجال، فخلال سنوات قليلة من حكمه (1975ـ 1979) أفنى ربع السكان، أي ما يعادل مليونين من أصل ثمانية ملايين كمبودي، وكلما كانت تتوسع حقول الجماجم في ظل نظامه، كانت الدعاية الحزبية تبرر حملات الإبادة بشعار “موت أكثر.. حياة أفضل”، وهذا الشعار مناقض تماما لأرض كمبوديا الخصبة والواسعة (182 ألف كلم2) وقلة عدد سكانها آنذاك واعتقادهم بأنهم “شعب لا يجوع بفعل عناية السماء”، ومن مظاهر إيمانهم بعقيدة انتفاء الجوع عنهم والتي بقيت سائدة إلى عهد الأمير نوردوم سيهانوك (1969) “أن وزير الزراعة يصعد إلى أرجوحة في ليلة رأس السنة، وبعد أن ينزل منها تنزل معه الخيرات من السماء”، كما يقول جبرائيل بقطر في كتاب صادر في القاهرة في أوائل الستينيات الماضية بعنوان “كمبوديا كما رأيتها”.
حين أسقط الفيتناميون نظام بول بوت في عام 1979، عمل الأميركيون على رعاية “مقاومته” لمواجهة المد الفيتنامي، بالتعاون مع الصين وانطلاقا من الأراضي التايلاندية، وعرقلوا مرات عدة حصول نظام ما بعد بول بوت و”الخمير الحمر” على مقعد كمبوديا في الأمم المتحدة معتمدين على نظام النقض (الفيتو)، وهذا يفتح الباب على التحزبات الغربية، ومن آخر مظاهرها ما حدث مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والطلب من أنصاره اقتحام مبنى “الكابيتول” في السادس من كانون الثاني/يناير 2021، متجاوزا القوانين والدولة والمجتمع، وشاهرا بالفعل والقول وصية ميكافيلي القائلة بأن من يصل إلى السلطة عليه البقاء على رأسها.
لا ضرورة لإطالة الحديث عن “فوهرر” الحزب النازي الألماني ادولف هتلر ولا عن “دوتشي” الحزب الفاشي الإيطالي بنيتو موسوليني، ولكن إيراد بعض اقوالهما التي تظهر احتقارهما للجمهور يستوفي الغرض:
ـ في كتاب “كفاحي”، يقول هتلر “إذا فشل رجل الدولة في جذب الأكثرية، هذا الورم الخبيث الذي طغى على النظام البرلماني، فهل معنى ذلك فشله في الحُكم؟ وهل هناك من يعتقد ان تقدم العالم يمكن ان يكون نتيجة تفكير الأكثرية أم دماغ رجل عبقري واحد”؟.
من يُحدّد هذا العبقري؟ هتلر يحدّد نفسه.
ـ في كتاب صادر عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب” للإيطالي جوسيبي دي لونا أن موسوليني خطب في السابع والعشرين من أيار/مايو 1927 قائلاً “لقد أخرسنا كل صحف المعارضة، وقمنا بحل كل الأحزاب المعارضة للفاشية، وأنشأنا شرطة خاصة في كل منطقة لملاحقة المطلوبين المعادين للنظام”.
في الختام؛ عودة إلى سؤال البداية: ما دور الأحزاب بالفعل؟