بداية، تتعين الإشارة الى أن مقترح الحكومة، غير النهائي بعد، قائم أساساً على رد 76% من اجمالي الودائع الدولارية الباقية وقيمتها 104 مليارات دولار بالليرة (ليلرة). بأسعار مختلفة: 5 و12 و20 الف ليرة للدولار تحمل ضمناً نسب “هيركات” او اقتطاع قسري تراوح بين 40 و75% على أكثر من نصف الودائع. والنصف الثاني، يسدد جزء منه بسعر 20 الفاً للدولار، وآخر يستبدل بسندات أبدية. وهناك خيار تحويل ودائع الى مساهمات في البنوك (بايل إن). ولا يدفع بالدولار الحقيقي إلا ربع الإجمالي (25 مليار دولار) على مدى 15 سنة، وهي المدة عينها المفترض تطبيقها على كل الأجزاء الأخرى من الحل المقترح.
وبحساب التضخم المتوقع، خصوصاً مع ضرورة ضخ أو طبع 700 تريليون ليرة لزوم “الليلرة”، يضمحل جزء كبير من تلك القيم الإسمية ولا يبقى منها فعليا إلا اليسير، “يعني من الجمل إدنو”!
وفي المحصلة الأولية بتاريخ اليوم، المودعون يتحملون 55% من الخسائر مقابل 26% لمصرف لبنان و19% لمساهمي المصارف. وتتغير النسب مع الوقت وفقاً لحسابي الدفع الفعلي و”البايل إن” والتضخم في مدى 15 سنة.
تقول جمعية المصارف ان هكذا مخطط (اذا كان معتمداً) يُدمّر الثقة بالقطاع المالي لفترة طويلة وهو نهج تصفية لا يؤدي إلا لمزيد من التدهور الاقتصادي. وترفض المصارف “الهيركات” الإسمي على الودائع (ليلرة وخلافه)، ولا تقبل الإجهاز على رؤوس الأموال المصرفية، ولا تناقش الا تحمل بعض الخسائر على سندات الدين العام بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز) وخسائر القروض الممنوحة للقطاع الخاص. كما ترفض عرض ضخ مليار دولار من المُلاك الحاليين للبنوك ليحافظوا على حصص الأغلبية في مصارفهم. وهذا عرض حكومي ممكن بدلاً من تحويل ودائع كبيرة الى مساهمات بنسبة 72% من اجمالي الرساميل فلا يبقى لملاك المصارف الحاليين إلا أقل من ثلث ملكياتهم.
ما ذنب المودع اذا استثمر البنك في شهادات ايداع البنك المركزي او اكتتب في سندات الدين العام بالعملة الأجنبية (يوروبوندز)؟ مبدئياً، لا ناقة له ولا جمل فيما تدعي المصارف ومصرف لبنان ان الدولة اجبرتهما بشكل أو بآخر على الانغماس في لعبة الدين العام حتى اذنيهما. كانت لعبة “مونوبولي” ضمن ناد مالي مصرفي سياسي مغلق، الكل يعرف أوراق الكل فيها
ما سبق يطرح جملة ملاحظات كالآتي:
أولاً؛ عن أي ثقة تتحدث جمعية المصارف؟ وماذا بقي منها؟ فالجدوى الأولى لأي مصرف هي أساساً في قبول ودائع ومنح قروض. والنشاطان متوقفان بشكل شبه كلي منذ أكثر من سنتين، فتحول الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد “كاش” يخشى فيه من عمليات تبييض أموال على نطاق واسع، وهذه النقطة حذّرت وتُحذّر منها جهات دولية.
وبفعل تعاميم مصرف لبنان، البادئ مسلسلها مع شرارة اندلاع الازمة (17 تشرين/أكتوبر) لصرف ودائع بالقطارة وبأسعار أقل من القيمة الحقيقية للدولار، راوحت نسب الاقتطاع (القسري) ما بين 70 و85%. فنشبت نزاعات حادة بين البنوك وعملائها، وقضايا في المحاكم، وكسر وخلع في بعض الاحيان. في المحصلة، يمكن القول ان لا ثقة حالياً بين البنوك ومعظم المودعين والعملاء. فعن أي ثقة تتحدث جمعية المصارف، ومم هي خائفة أكثر؟ فالواقعة وقعت!
ثانياً؛ واضح جداً أن ملاك مصارف يرفضون الاعتراف بأنهم أساؤوا الأمانة. تمنعوا عن رد الودائع الدولارية لاصحابها، بحجة ان أموال المودعين هي في مصرف لبنان والدولة.
يرد المودعون بانهم ائتمنوا البنوك على أموالهم ولم يودعوها في مصرف لبنان ولم يقرضوها للدولة. عملياً، لا علاقة للمودع بما قام به البنك من استثمار للأموال سواء في شهادات إيداع في البنك المركزي بحدود 80 مليار دولار، او بسندات “يوروبوندز” كانت بقيمة 14 ملياراً ثم هبطت الى نحو 10 مليارات بعدما سيّلت بنوك جزءاً من تلك السندات ببيعها لستثمرين أجانب.
وللتكرار: ما ذنب المودع اذا استثمر البنك في شهادات ايداع البنك المركزي او اكتتب في سندات الدين العام بالعملة الأجنبية (يوروبوندز)؟ مبدئياً، لا ناقة له ولا جمل فيما تدعي المصارف ومصرف لبنان ان الدولة اجبرتهما بشكل أو بآخر على الانغماس في لعبة الدين العام حتى اذنيهما. كانت لعبة “مونوبولي” ضمن ناد مالي مصرفي سياسي مغلق، الكل يعرف أوراق الكل فيها. اما المودعون فهم انواع، ولا شك في أن بينهم من غامر وطمع بفوائد عالية جداً.
ثالثاً؛ برغم هذا الوضوح، تحرف المصارف الأنظار عن حقيقة أنها مسؤولة أمام عملائها بالنسبة لأموالهم، وتريد لهم معها القاء المسؤولية على الدولة. والأنكى ان انكشافها الأكبر على مصرف لبنان، وليس الدولة، لكنها لا تستطيع لوم الحاكم رياض سلامة ببنت شفة خوفاً منه ومما يستطيع فعله معها، ترهيباً وترغيباً وربما تصفيةً وتفليساً اذا اقتضى الأمر. لذا يصب المصرفيون جام غضبهم على الدولة في تجهيل مريب للفاعل، فمن هي الدولة المقصودة برأيهم، وهم أول العارفين بأن للسياسيين ومن لف لفهم مساهمات (وصداقات وتسهيلات مقابل حمايات) في معظم وحدات هذا القطاع حتى انكشف ستار المسرح عل مصرفيين وسياسيين ينامون مع حاكم مصرف لبنان جنباً الى جنب في السرير نفسه؟
رابعاً؛ لافت للإنتباه في بيان الجمعية رفضها للـ”هيركات الإسمي” على الودائع. فهل تريده “فعلياً”، ليهوي سيف الاجحاف قاطعاً لا لبس فيه على رقاب المودعين من الحكومة ومصرف لبنان، وهي تتنفس الصعداء على “البارد المستريح”؟.
خامساً؛ تقول المصارف انها لا تقبل الا نقاش بعض خسائر “اليوروبوندز” وخسائر القروض الممنوحة للقطاع الخاص. بحساب آخر لا تناقش الا خسارة اقل من 20% من مبلغ 69 مليار دولار.
مصرف لبنان يؤجل هذه الغربلة منذ سنتين. لا يريد تصفية أي بنك ولا دمج أي بنك بآخر، ولا يريد وضع يده على أي بنك.. يمعن في ايهام الناس والعالم ان القطاع المصرفي قائم ولم يفلس، وبالتالي الودائع موجودة. انها لعبة تعمية حوّلت مصارف كثيرة الى “زومبي”
سادساً؛ قمة الانكار في رفض المساس برؤوس أموال المصارف، أنهم يتنكرون لأبسط قواعد النظام الرأسمالي القائمة؛ فالخسارة تأتي أولاً على رأس المال ولاحقاً على الدائن او المودع. مصارف لبنان تريد من الرأسمالية كل شيء إلا قاعدتها الأساسية. تريد دعماً على طول الخط على قاعدة “دللوني ما عندكم غيري”!
وترفض البنوك أيضاً مبدأ تحويل ودائع الى مساهمات كي لا تفقد السيطرة على مصارفها، ويرفض مساهمون ضخ مليار دولار كاش (فرش) ليحافظوا عى حصص الأغلبية في مصارفهم.. “احترنا يا قرعة منين بدنا نبوسك”!.
سابعاً؛ في موقف المصارف موقف منطقي عندما تتحدث عن معالجة أوضاع المصارف كل حالة منها على حدة. هذا صحيح، بيد أن مصرف لبنان يؤجل هذه الغربلة منذ سنتين. لا يريد تصفية أي بنك ولا دمج أي بنك بآخر، ولا يريد وضع يده على أي بنك.. يمعن في ايهام الناس والعالم ان القطاع المصرفي قائم ولم يفلس، وبالتالي الودائع موجودة. انها لعبة تعمية حوّلت مصارف كثيرة الى “زومبي” تعيش على مص الدماء بالعمولات غير المبررة والباهظة لتدفع رواتب لموظفيها ومديريها، وتحقق ارباحاً لمساهميها في أسوأ مرحلة من تاريخ لبنان الإقتصادي ـ المالي.
ثامناً؛ محقة البنوك أيضاً عندما تؤكد ان الخطة الحكومية (المفترضة) لا تؤدي الا إلأى مزيد من انهيار الاقتصاد. فهناك شبه اجماع على ان “ليلرة” عشرات مليارات الدولارات من الودائع سيخلق تضخماً هائلا بفعل طبع 46 تريليون ليرة سنوياً، مع الأخذ في الاعتبار ان الكتلة النقدية المتداولة حالياً هي أقل من 50 تريليون ليرة.
ولا يفوت المصارف التذكير بأن الحكومة لم تقدم بعد الخطة الخاصة بالتعافي الاقتصادي، ولم تضع جدولاً زمنياً لتطبيق الاصلاحات الهيكلية والبنيوية والمالية والضريبية والقطاعية.. وتضع اللوم كما العادة على حكومة حسان دياب التي توقفت عن السداد. وتريد لدياب أن يحمل هذا الوزر حتى مماته.. العمر الطويل انشالله دولة الرئيس.
تاسعاً؛ لم يعد سراً أن الحل الذي ترتضيه المصارف لن يقل عن استخدام أصول الدولة بيعاً أو استثماراً لتستطيع الدولة رد دينها لمصرف لبنان، ويبادر الأخير برد ودائع للمصارف فتقوم بدورها برد جزء من حقوق المودعين. وهنا بيت القصيد. والسؤال هل يمكن إئتمان المنظومة الحاكمة على التصرف بأصول الدولة، وماذا يبقى للأجيال المقبلة اذا تفتقت الأذهان على بيع وتصفية “عن أبو جنب”؟
عاشراً؛ الكل يلعب غميضة (cache cache). السياسيون متلهون بالنكايات في ما بينهم ويركزون على استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية ويستمرون في تفويض رياض سلامة ابتداع الحلول المالية بتركيب الطرابيش، سلامة يلعب على الوقت من الآن حتى نهاية ولايته وبعدها “فخار يكسر بعضو”، المصارف تختبىء وراء حماية الحاكم والسياسيين. أما المودعون، وعموم اللبنانيين الآخرين فلا حول لهم ولا قوة الا السب والشتم على وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة.. بانتظار سوقهم زرافات ووحدانا الى المذبح الانتخابي الطائفي قرباناً لصيغة لبنان الهشة التي لن ترتقي يوماً الى دولة.