“صدمة الطوفان”.. ثقافةً وأسئلةً وتحولات

"من الضروري إجراء تغيير ثقافي في غزة مُماثل للتغيير الذي حدث في ألمانيا واليابان". هذا ما قاله رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في حديثٍ إذاعي قبل أيام قليلة.

قبل إغلاقها بأشهر (2016)، نشرت لي صحيفة “السفير” مقالاً تحت عنوان “في شكر داعش وأخواتها”. يومها، كتبت ما زبدته أنّ ظاهرة داعش، وما يشبهها من تنظيمات إسلامية، حوّلت الأحاديث والأسئلة الفكرية التي كانت حبيسة الكتب إلى نقاش شعبي، كان مقدّمة لحراك ثقافي حقيقي بغضّ النّظر عن مدى عمقه ونتائجه.

داعش بالتحديد، بحجم إجرامها وطرق التّفنّن به، قبل أن يكون الموضوع فكرها وما تعتنقه، شكّلت صدمةً مرعبة للوعي العربي، وكانت، مع أخواتها، بمثابة واحدة من الظواهر المعاصرة الكبيرة، برغم بروز أمثالها في التاريخ.

ومع كلّ حدث كبير، كما جرت العادة، تُخلط الأوراق الأساسية وتُفتح. يعود سؤال الهوية ليفرض نفسه. يتجدد الجدال حول القيم. يزداد الغوص في الذات بما تعنيه في قبالة نفسها، وفي قبالة الآخر. تنحت الأحداث الضخمة الهويات نحتاً. تطرق على أقلّ التفاصيل أهمية فيها، كما على أقصاها. تُعيد رسم السرديات. تُفعّل التناقضات وتظهرها. تُبرز روايات الخلاص وتُعليها. تُضعضع الأفكار وتهزّها.. وهكذا دواليك.

فاقت الصدمة القدرة على الاستيعاب، وخاف البعض من اعتبارها فيصلاً للتأريخ: ما قبل الطوفان، وما بعد الطوفان.. فحاولوا إعادة البوصلة إلى الداعشية. نحن نحارب داعش في غزة. إنها حرب الخير ضد الشر. إنها حرب الحضارة ضد الهمجية. إنها حرب في العمق ثقافية ويجب إحداث تغيير ثقافي في غزّة

جدلٌ دينيٌّ كبيرٌ، أعقب الحدث الداعشيّ، وأدى إلى اغتراب الكثيرين عن جذورهم العقدية والدينية. ثمّ ساهم لاحقاً، عند البعض، لا سيما من غير ذوي الاختصاص والعمق، في إضفاء نوعٍ من التكبّر الثقافي على كل ما هو ديني، أو في اعتبار كل ما هو ديني بأنه دُوني. بعد ذلك، تجلّى “تيار علموي” في بلادنا واكتسحها، وكشفت الأحداث النقاب عن لبرلة ثقافية تزداد وتتسع يوماً بعد يوم، وتتمظهر في أقل النقاشات الاجتماعية وأقصاها، من النسوية إلى المثلية إلخ..

زُعزِعت المجتمعات من جذورها، وأفرزت هذه الزعزعة قبالتها خطابات متعددة، منها المتطرّف ومنها التوفيقي ومنها ذاك الناتج عن الذهنية المؤامراتية، ومنها ما كان عنصرياً ومنها ما كان تفكيكياً، وغير ذلك من ارتدادات. لقد كان ما حدث بمثابة الهزّة الكيانية. وهي هزّةٌ ساهمت مع غيرها من العوامل الكثيرة في إفراز جيل من “التيكتوكر”، وما هبّ ودبّ من مقدّمي المحتوى الفوضويين، الذين ينشدون الأتباع أو المال أو الشهرة.

صدمة داعش هذه، لا يريد لها المستفيدون أن تنتهي، وأن ينتهي مفعولها. بل يسعون بأقصى جهدهم أن يكون التاريخ الداعشي هو الفيصل بين الما قبل والما بعد. بين باطنٍ كان مكبوتاً وظاهرٍ كشف عن نفسه بوضوح. بين تفسير قديم للأحداث السياسية وتفسير جديد لقديم هذه الأحداث وجديدها انطلاقاً مما كشفته الحالة الداعشية. التأريخ الحديث، ابتداءً من داعش، لم يكن عن عبث. هو تأريخٌ دونه شرق أوسط جديد، بأبعادٍ شتّى. هكذا أراده المستفيدون الكبار، الذين نجحوا في إضفاء مسار إبراهيمي على السياسة، كما على المجتمع، ووظّفوا ذلك بشكل واضح في مسارات التطبيع، وبعناوين باتت معروفة وممجوجة.

الاستثمار في الداعشية كان مربحاً. بدت الأمور لكبار المستثمرين وكأنها تتم على أكمل وجه. زاد طمع هؤلاء في شتى المجالات، حتى ظنّوا أن الأمر بلغ مبلغاً “حميداً” لا إمكانية بعد للرّجعة عنه.. ثمّ حدث ما لم يكن في الحسبان. طوفان. وما أدراهم ما الطوفان!

صدمةٌ جديدةٌ وكبيرةٌ، في عمق الوعي “الإسرائيلي” أولاً، والعربي ثانياً، فاقت بحجمها وجديدِها صدمة داعش التي عرف التاريخ مثلها أساساً، ليس في الدين الإسلامي وحسب، بل في مختلف الديانات. هي صدمةٌ من النوع الذي لا يحدث إلا مرّة، لكنّه يخلط الأمور خلطاً من الجذور، وإن لم يؤدِ إلى تغيير الواقع جذرياً في السياسة.

فاقت الصدمة القدرة على الاستيعاب، وخاف البعض من اعتبارها فيصلاً للتأريخ: ما قبل الطوفان، وما بعد الطوفان.. فحاولوا إعادة البوصلة إلى الداعشية. نحن نحارب داعش في غزة. إنها حرب الخير ضد الشر. إنها حرب الحضارة ضد الهمجية. إنها حرب في العمق ثقافية ويجب إحداث تغيير ثقافي في غزّة.

لم يكن هذا الخطاب سوى محاولة أخيرة لإمساك الأمور من الخيط السابق على الحدث الضّخم. ردّة الفعل الكبيرة والعنيفة والمباركة عالمياً هي في إحدى مبتغياتها إظهار هذا الحزم في الإمساك بالأمور من حيث انتهت إليها الأحداث قبل الطوفان. لكنّ هذا “الحزم”، وتلك المباركة، كانتا تماماً بحجم صدمة الطوفان وتأكيداً عليها. كانتا دليلاً على أن الطوفان كان عظيماً، فعل فعله، ترك أثره، زلزل العالم، وأحدث ارتدادتٍ من بعده.

عنف كيان العدو المبارك عالمياً، كان من بين أولى الهزات الارتدادية لزلزال الطوفان. لكنه، بحدّ ذاته، شكّل هو الآخر صدمة للمراقب، خصوصاً الغربي أو المُستغرِب. وغداً عندما تنتهي الحرب، سوف تبقى الـ”تروما” قائمة، وستفتح معها الكثير من الأوراق، بغض النظر عن نتائج هذه الحرب سياسيّاً.

إقرأ على موقع 180  "درون" لإستهداف السفارة الأميركية في عوكر.. بتوقيع "داعش"

ربما، من حيث الشكل، ومن زاوية الحروب والصراعات، قد يبدو المشهد اعتيادياً في التاريخ. التاريخ مليء بجرائم البشر والدول وانتصارات التّوحش وفظاعات “الأقوياء”. هكذا كان العالم ولمّا يزل. يهيمن القويّ، يستغل، يبطش، يستأسد، يمكر، يغير الأدوات، ثم يغيّرها بعد مرّة، ثم يعود إلى ما كان عليه، ثمّ يُبدّل خططه وأسلوبه وثيابه، لكنّ الباطن ظاهرٌ في النتائج. والنتائج تلقي بظلالها على من هم أضعف، فيقومون بردّات الفعل، عنيفة أم غير عنيفة، مدروسة أم غير مدروسة، إرادية أم لا إرادية، مقاوِمة رافضة أم مساوِمة ومتكيّفة. أفعالٌ، وردود أفعال، ثم نتائج جديدة، بعضها يُرسّخ واقعاً سابقاً أو يكشفه، وبعضها يُبدّله في الظاهر ويُبقي على الباطن، وبعضها يأتي بواقع جديد، ليس بالضرورة أن يكون أفضل، وقد يكون.

هذا كلّه في الشّكل. في السياسة ظاهراً. في الصورة الخارجية. لكنّ الحدث الذي كان بحجم قضية، شاء من شاء، وأبى من أبى، ستأتي الأيام لتُثبت أنّه بات عنواناً تأريخياً لا مناص منه. وهذا التأريخ، سيُفرز ما قبله من وعي وظواهر وأفكار ورؤى، وما بعده منها.

يُريد بنيامين نتنياهو أن يُغيّر ثقافة غزة بطريقة خشنة ووحشية هذه المرة، لا بالطرق الناعمة. سيبقى يُقدّم نفسه كمُخلص ثقافيّ للبشرية جمعاء. لكنه لا يعلم، أن العالم في عهده يشهد ما سيكتب عنه اللاحقون بأنه كان بداية تحوّلات كبرى، وأسئلة كبرى، لن تُغلق بعد أن فُتحت.. أبداً.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  البطالة في سوريا... أكبر من مجرد أرقام