بحكم موقعها الجغرافى لم يكن ممكنًا لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أى ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربى بأي ذريعة.
ولا كان بوسع مصر، التى باتت قوة إقليمية عظمى بأثر النتائج السياسية لحرب السويس (1956)، ألا يمتد بصرها لما يحيق بالوطن السورى من مخاطر تتهددها بالانقلابات العسكرية الممولة، أو بالاحترابات الأهلية الماثلة، أو بالغزو من الخارج بقيادة رئيس الوزراء العراقى «نورى السعيد»، الوجه الأبرز لـ«حلف بغداد».
السياق التاريخى ضرورى لفهم ما جرى من تدافع للحوادث وصلت ذروتها بإعلان الوحدة المصرية السورية.
كان «جمال عبدالناصر» يخوض حربًا مفتوحة ضد سياسات ملء الفراغ والأحلاف العسكرية، التى تبنتها الولايات المتحدة القوة الدولية العظمى الصاعدة بعد تقويض مكانة الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية.
عندما تشاهد على شرائط مسجلة مئات آلاف البشر تتدافع إليه عندما زار دمشق لأول مرة فلا بد أن تنصت لصوت التاريخ، وتدرك بالعمق أنها كانت تهتف للمعنى قبل الشخص، وأن هذه لم تكن «انفعالات عواطف» بل حقائق تاريخ يجسدها رجال.
فى (٢٨) سبتمبر/أيلول (١٩٦١) جرى فصم الوحدة المصرية ــ السورية بانقلاب عسكرى رعته الاستخبارات الأمريكية ومولته دول إقليمية عديدة.
كان ذلك إنذارا مبكرا بما سوف يحدث تاليا من حروب على العروبة نفسها، أحلامها وتطلعاتها ونزوعها لاستقلال القرار الوطنى والتنمية المستقلة.
باليقين فإن «عبدالناصر» يتحمل جانبًا من المسئولية.
لم يكن «عبدالحكيم عامر» مؤهلًا لإدارة دولة الوحدة من دمشق والانقلاب حدث من داخل مكتبه.
كما أن عدم تغييره بعد الانفصال كان خطأ جسيمًا أفضى ــ ضمن أسباب أخرى ــ إلى الهزيمة العسكرية فى يونيو/حزيران (1967) بالحجم الذى حدثت به.
رغم ذلك تتبدى الوحدة فى الذاكرة العامة كحلم يستعصى على محاولات الإجهاز عليه.
أجهزوا على تجربة «عبدالناصر» واصطادوها من ثغراتها، لكن للأحلام مناعة أكبر وعمرًا أطول.
قالوا إن الوحدة «وهم ناصرى»، وأن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية، أو أى شىء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.
فـ«مصر» ــ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ــ مشدودة إلى محيطها العربى، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع فى المكانة منذ سبعينيات القرن الماضى وما بعدها.
يستلفت الانتباه فى أداء «عبدالناصر» لحظة الانفصال مدى إدراكه للحقائق فى سوريا وخشيته على مستقبلها.
بعد الانفصال بأسبوع، قال فى خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: «إن الوحدة الوطنية فى الوطن السورى تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربى والوحدة الوطنية فى سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية».
«لست أريد أن أقيم حصارًا سياسيًا أو دبلوماسيًا من حول سوريا، فإن الشعب السورى فى النهاية سوف يكون هو الذى يعانى من هذا الحصار القاسى».
وكان مما قال فى ظروف الانفصال: «ليس مهمًا أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا».
فى لحظة الانكسار تبدت سلامة الرؤية.
أوقف التدخل العسكرى المصرى بعد أن أرسلت قوات إلى اللاذقية خشية إراقة الدماء.
وكان ذلك إجراء سليمًا، رغم صعوبته، فلا وحدة تتأسس على إراقة دماء.
قيمة «عبدالناصر» فى التاريخ ليست أنه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كله يستحق مراجعته بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيرة. قيمته أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربى قويًا معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجىء تاريخيًا لمصر إلا ربع ساعة كل مائة سنة
كان للانفصال عواقب استراتيجية أوصلتنا إلى الكوابيس المقيمة.
تراجع زخم حركة التحرر الوطنى فى العالم العربى وقوة حضور المشروع القومى.
رغم استقلال الجزائر بعد إعلان الانفصال والدخول فى معارك مفتوحة أخرى مثل الحرب فى اليمن لحماية نظامه الجمهورى والسيطرة على استراتيجية البحر الأحمر لم يستعد ذلك المشروع زخمه، الذى تبدى ذات يوم فى عاصمة الأمويين.
كان من بين ثغرات تجربة الوحدة، التى أفضت إلى إجهاضها، الاعتماد على رجال الأمن أكثر من رجال السياسة وضعف الاتحاد القومى، الذى أنشئ عام (١٩٥٧) على أنقاض «هيئة التحرير».
كان تنظيمًا وحدويًا بلا وحدويين، بالمعنى الفكرى.
كل عيوب «هيئة التحرير» انتقلت إليه بأمراض أحزاب السلطة.
كما أن البعثيين، الذين انضموا إليه بعد الوحدة المصرية ــ السورية، لم يعطوه ولاءهم، وظلوا يجتمعون خارجه حتى بدت النهايات محتمة.
إحدى المآسى الكبرى، التى نالت من مشروع الوحدة، الصراعات التى جرت بين الناصريين والبعثيين حيث أنهكت جسد دولة الوحدة الوليدة وفتحت المجال واسعًا للانقلاب العسكرى عليها.
لم تكن تجربة الوحدة رحلة نيلية ذات صيف، بقدر ما كانت مواجهات مفتوحة امتدت بعمق الخريطة العربية، وقد ارتبطت بالتحرر من الاستعمار والتبعية واستقلال القرار الوطنى، دارت معارك مع سياسة الأحلاف.
لم تخترع ثورة «يوليو» المشروع العروبى، لكنها جسدته أملًا حيًا على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها.
قيمة «عبدالناصر» فى التاريخ ليست أنه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كله يستحق مراجعته بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيرة.
قيمته أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربى قويًا معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجىء تاريخيًا لمصر إلا ربع ساعة كل مائة سنة، بتعبير الكاتب الصحفى «محمود عوض».
التعبير مجازى لكنه يعبر، بصورة أو أخرى، عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أن قوة مصر فى عالمها العربى والخروج منه يفضى إلى عزلتها وتقويض ثقتها فى نفسها، كما يفضى إلى إضعاف العالم العربى واستباحته.
كان ذلك هو المقصود تماما من تصويب السهام، كل السهام، حقبة بعد أخرى على تجربة الوحدة المصرية السورية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“.