أنا سماء أبو شرار، إبنة الثائر الفلسطيني ماجد أبو شرار الذي إنضم الى القائمة الطويلة من الشهداء في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1981 عن عمر لم يتعدَ 47 عاماً. تعود أصول والدي ووالدتي الى قريتين جميلتين بالقرب من مدينة الخليل، هما دورا وبيت جبرين. التحق والدي كالعديد من أبناء جيله بالثورة الفلسطينية في الستينيات الماضية خلال فترة عمله في السعودية. أجهل تماماً إن كان يعرف حينها أن قراره هذا سيقلب حياتي وحياة أخوتي رأساً على عقب. سؤال، من ضمن الكثير من الأسئلة، التي كنت سأدفع حياتي لأسأله إياه، لو كان لدي متسع من الوقت.
غالباً ما يسألني الأصدقاء عن كيفية تعاملي مع الخسائر الفادحة التي منيت بها في مرحلة مبكرة من حياتي، ودائماً ما أعطي الاجابة نفسها؛ إنها نعمة الحجب. لقد علمت نفسي على حجب الكثير من الناس والأشياء والذكريات من عقلي، حتى أتمكن من الحفاظ على توازني الذهني كي أستمر.
توفيت والدتي وهي في السادسة والثلاثين من عمرها بعد معركة شرسة مع مرض السرطان. كنا حينها في لبنان، وقد تهاوى عالمنا رأساً على عقب. أذكر عندما أجلسنا خالي جواد، شقيقي سلام وأنا، ليبلغنا بالأخبار التي لا تُحتمل؛ “والدتكم مع الله الآن، فهو لا يريدها أن تعاني أكثر من ذلك”. هذه كانت كلماته نيابة عن أبي الذي لم يكن في حال تسمح له بأن ينقل الخبر الفظيع. لم أفهم على الإطلاق لماذا إختار الله أن يأخذ أمي منا ليريحها من ألمها بدلاً من أن يشفيها من أوجاعها. للمرة الاولى في حياتي تعرفت على مصطلح جديد سيطاردني لسنوات: “يتيم”. منذ طفولتي كرهت الشفقة تجاهي وتمردت عليها. ولكن مع ذلك، فإن الشفقة كانت تطاردني، ألحظها في نظرات الناس، وأسمعها في أحاديثهم السرية التي وصلت غالباً الى مسامعي: “آه للأطفال المساكين تيتموا في هذا العمر المبكر”، جملة سمعتها مراراً وتكراراً. حينها، لم يكن يخطر في بالي على الاطلاق أنه بعد سنوات قليلة سأصبح يتيمة الوالدين، وستضاف الى قاموسي عبارة جديدة: “إبنة الشهيد”.
بين المدارس الداخلية وعطل نهاية الأسبوع التي كنا نمضيها مع والدي، تمكنا أنا وأخي سلام من الصمود ومواصلة حياتنا. كنت في الثامنة من عمري، وسلام في السادسة. لم أفهم يومها ما كان يفعل والدنا من أجل لقمة عيشنا. إستغرق الأمر سنوات طويلة لأكتشف أنه كان مسؤول الإعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية، وأمين سر المجلس الثوري وعضو اللجنة المركزية في حركة فتح، فضلاً عن مناصب عديدة. جُلّ ما كنا نعرفه آنذاك أنه كان مشغولاً للغاية، ولم يكن بمقدوره العناية بنا بشكل دائم، حتى أننا كنا نضطر أحياناً إلى الاقامة مع أصدقاء مقربين خلال عطل نهاية الأسبوع. ومن المفارقات أنه بعد سنوات من إغتيال والدي أدركت قيمته الحقيقية كإنسان وما يمثله كشخصية ثورية وطنية فلسطينية.
على الرغم من رفضنا في البداية، سلام وأنا، تقبل ما أقدم عليه، إلاّ أن والدي تزوج من جديد. كانت مكافأتنا مغادرة المدرسة الداخلية والعيش مع والدنا وزوجته الجديدة إنعام، التي كانت متزوجة سابقاً من القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية هاني الحسن، وإبنتها عزة. بعد عام من زواجهما، رزق ماجد وإنعام بدالية. ومع قدوم أختي الصغرى، أصبحنا رسمياً عائلة. ولسنوات أربع عشنا حياةً طبيعيةً نسبياً، في شقتنا الدافئة في كورنيش المزرعة ببيروت. كنا نهرب أحياناً إلى جبال لبنان لتجنب حمى القصف المتقطع، لكن في تلك الفترة إستمتعنا بدفء المنزل من جديد وإختبرنا طعم الحياة الأسرية.
الشيء الوحيد الذي لم يساوم عليه ماجد هو هويتنا الفلسطينية وعلاقتنا بفلسطين التي كان يحلم بها محررة. كان يُمرّر رسائل مبطنة ولكن حازمة. “بإمكانكم التحدث باللهجة اللبنانية مع أصدقائكم ولكن في البيت نحن نتكلم باللهجة الفلسطينية”. ذكّرنا مراراً وتكراراً بأننا ضيوف في لبنان، وأن وطننا كان وسيظل دائماً فلسطين
كان بيتنا ملتقى للضيوف من جميع الجنسيات، غالباً لتناول وجبة العشاء، فقد كان والدي يفتخر بطهي طبقه المفضل؛ “المنسف”. لا أذكر منزلنا فارغاً بإستثناء يوم وردنا خبر إغتيال ماجد. كنا وحدنا في المنزل عند وصول الحبيب محمود، سائق والدي وحارسه الشخصي، لإبلاغنا بالخبر الذي لم يجرؤ أحد غيره على نقله. بعد ذلك بوقت قصير تدفقت حشود من الناس إلى شقتنا.
لقد نسجتُ مع ماجد وفلسطين علاقة إشكالية بعد إستشهاده، إذ مررت بمرحلة طويلة من الكراهية والغضب ورفض كل ما كان يمثله، بما في ذلك حبه لفلسطين، قبل أن أتمكن من التصالح مع الاثنين. في البداية، كرهت والدي لأنه تركنا بعد فترة قصيرة من غياب والدتي، وفي الوقت نفسه، حسدت فلسطين التي تركنا من أجلها. لم أتمكن من إستيعاب كيف تمكن من فعل ذلك وهو يعرف تماماً أنه لم يتبق لنا والد غيره. قبل إغتياله، كنا ماجد وأنا قد بدأنا ببناء علاقة وطيدة. لم يكن بالنسبة لي أباً فحسب بل أيضاً صديقاً مقرباً. وعدني في رحلته الأخيرة إلى روما بشراء فستان لي، لأنني “كبرت وأحتاج إلى شيء أنيق للمناسبات الخاصة”. لم أرَ الفستان. كذلك لم أرَ والدي مرة أخرى. لطالما تساءلت عن الفستان الذي إشتراه لي.
قد يكون الوقت الذي قضيته مع ماجد قصيراً ومتقطعاً لكنه كان ذا مغزى. لقد إحتضن فضولي وشعوري بعدم الأمان وشكوكي حول العديد من الأمور. وكان يقوم بذلك بسلاسة تامة من دون تقويض مشاعري. أذكر يوماً لدى عودتي من المدرسة وقد توجهت إليه بسؤال: “هل تؤمن بالله”؟ إبتسم وأعاد طرح السؤال علي من جديد. في مواجهة صمتي، قال: “هناك راحة نفسية وروحية يشعر بها الإنسان عندما يؤمن بوجود الله”.
الشيء الوحيد الذي لم يساوم عليه هو هويتنا الفلسطينية وعلاقتنا بفلسطين التي كان يحلم بها محررة. كان يُمرّر رسائل مبطنة ولكن حازمة. “بإمكانكم التحدث باللهجة اللبنانية مع أصدقائكم ولكن في البيت نحن نتكلم باللهجة الفلسطينية”. ذكّرنا مراراً وتكراراً بأننا ضيوف في لبنان، وأن وطننا كان وسيظل دائماً فلسطين. الحميمية والدفء اللذان كان يتحدث بهما عن وطنه كانا معديين. حدثنا عن فقاقيس، وهي قرية صغيرة تنام على تلة تبعد تسعة كيلومترات عن دورا، التي “منها يمكن رؤية بحر غزة”. كان يحلم أن يتقاعد في فقاقيس لتكريس وقته للكتابة. كان يتحدث بشغف عن المعارك البطولية التي خاضها باجس أبو عطوان ضد المحتل الإسرائيلي في جبال الخليل. خلال زيارتي الأولى لفلسطين، تعمدت الذهاب إلى فقاقيس. أردت التأكد من أنه بإمكاننا رؤية بحر غزة من الخليل. وقعت في حب هذه القرية الجبلية وأدركت حينها لماذا أراد ماجد أن يتقاعد فيها. لكن الحب الغامر لفلسطين الذي حفره فينا كأطفال، لم يعطه، في نظري، الحق في تركنا من أجلها.
ولهذا، فإن رحلتي للتصالح مع والدي ووطني مرت بمراحل عدة طرحت خلالها على نفسي الكثير من الاسئلة الوجودية ومنها؛ هل يحق للثوري تكوين أسرة؟ وكيف بإمكانه فعل ذلك لا سيما بالنظر إلى التأثير الهائل الذي يمكن أن يحدثه قراره على الأسرة؟
بداية، إعتبرت أنه تصرف أناني تقبلته على مضض. لا أدعي أنني أملك إجابة مؤكدة على هذا السؤال وغيره، ولكنني تعلمت، وإن بمشقة، أنه كلما أسرعنا في تقبل مسائل لا نستطيع تغييرها، كلما كان من الأسهل علينا المضي قدماً. إخترت المضي قدماً. دفنت ماجد في أعماق قلبي وأخفيت كل غضبي وإمتعاضي منه، وقمت بما أجيد القيام به. تطوعت في مستشفى في محلة الحمراء ببيروت خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 وساعدت الجرحى. بعد ذلك بسنوات، خلال دراستي في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، أصبحت مدافعة عن القضية الفلسطينية. لم أدخر فرصة للدفاع عن قضيتنا. “إنجازاتي” الصغيرة التي حققتها أصبحت ملموسة أكثر عندما بدأت عملي كصحفية وباحثة. ركزت في عملي على قضايا تتعلق بفلسطين، وتحديداً قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. أصبحت زائرة دائمة الى المخيمات. أيقنت ما يعنيه أن تكون لاجئاً فلسطينياً في لبنان. فالمظالم الهائلة التي يتعرض لها اللاجئون هي تذكير دائم بضرورة الكفاح من أجل التغيير. المفتاح بالنسبة لغالبية اللاجئين ليس الاغاثة الانسانية التي تسجنهم في كبسولة مقيتة تعتمد على المساعدات الدائمة، بل التمكين. وما أعنيه بالتمكين هو إنشاء مشاريع توفر فرص عمل في دولة تحرم اللاجئين الفلسطينيين من العمل في مجالات عدة، كما تحرمهم من حقوقهم الانسانية الأساسية.
كل ما أعرفه أن ماجد وتعاليمه جعلتني الشخص الذي أنا عليه اليوم. وبعد سنوات طويلة من البحث الداخلي، أدركت أن أي معتقد جوهري يتطلب التضحية. وهذا المعتقد الجوهري كان وسيبقى دائماً، فلسطين
ضمن هذا السياق، جاء إنشاء “مؤسسة ماجد أبو شرار الاعلامية” بمساعدة إخوتي وبعض الأصدقاء، كإستجابة للحاجة الملحة لتمكين اللاجئين. فمن جهة، جاءت المؤسسة لتكريم ماجد والعمل الذي لم يتمكن من إتمامه. ومن جهة أخرى، فهي تعمل على تمكين اللاجئين الفلسطينيين في مجال الاعلام. من خلال التدريبات الصحفية، كان الهدف إعطاء الشباب الصوت والقدرة على سرد قصصهم بعيداً من الصور النمطية التي غالباً ما تضعهم فيها وسائل الاعلام. طوّرنا هذا العمل من خلال إطلاق موقع “شبابيك” الإلكتروني الشبابي التدريبي، لتزويد الصحفيين الطموحين بمنصة لنشر أعمالهم ووسيلة لمواصلة رحلتهم التعليمية.
اليوم، أجد نفسي مليئة بكل أنواع الفخر. فخورةٌ بهذا المشروع والشباب الذين يقفون وراءه. فخورةٌ باللاجئين الذين يعيشون في ظل ظروف لا توصف ولكنهم لا يزالون قادرين على النجاح. فخورةٌ بشعب فلسطين داخل أرضه وخارجها. هذا الشعب المتمسك بقداسة فلسطين والحق في العودة إليها. فخورةٌ بماجد ومسيرته الثورية. فخورةٌ بالرجل الذي بعد سنوات طويلة من إغتياله ما يزال يلهم الكثيرين على المستويين السياسي والثقافي. فخورةٌ بكوني إبنته.
هل أشتاق لماجد؟ نعم بالتأكيد. هل أفتقد للأوقات التي قضيناها سوية والأوقات التي كنا سنقضيها معاً؟ نعم بالتأكيد. هل أطرح على نفسي سؤال: ما هي مآلات حياتي لو كان لا يزال جزءاً منها؟ نعم بالتأكيد. هل كنت سأقوم بما قام به لو كنت مكانه؟ لا أدري. هل أعتقد أن التضحية بحياته كانت تستحق العناء مع الأخذ في الاعتبار ما آلت اليه أحوال الثورة الفلسطينية؟ أيضاً لا أعرف. كل ما أعرفه أن ماجد وتعاليمه جعلتني الشخص الذي أنا عليه اليوم. وبعد سنوات طويلة من البحث الداخلي، أدركت أن أي معتقد جوهري يتطلب التضحية. وهذا المعتقد الجوهري كان وسيبقى دائماً، فلسطين.
(*) مقالة نشرت بالإنكليزية في مجلة “discontent” الصادرة في لندن، ضمن ملف بعنوان “بنات الثورة”.
(**) ماجد أبو شرار مناضل وقيادي وكاتب فلسطيني إغتيل في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1981 بتفجير إستهدف غرفته بأحد فنادق روما.