التعريفات الأحادية للإسلام.. ولادة أصوليات (24)

إذا نظرنا في مسألة تعريف الإسلام، فنحن أمام موضوع لطالما شغل تفكير علماء المسلمين وغير المسلمين، متديّنين وعلمانيّين، مثقّفين وجهلة، وكانت النتيجة تعريفات متعددة وأنّه لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك تعريف واحد للإسلام إلا في إطار نمطي نستمدّه من بعض الواقع أو من التنظير المفرط ونفرضه على كلّ الواقع فنؤثر فيه. لذلك يصبح التعريف أداة تمييز وعصبيّة وإضطهاد وإستعلاء، اي عكس المُراد له.

لنبدأ مع التعريف التقليدي القائل إنّ الإسلام هو شهادة أن لا إلله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، الصلاة، الصوم، الزكاة، والحجّ. كيف يمكن لهذا التعريف أن يقودنا إلى فهم كامل التراث الديني الإسلامي على تشعّباته وتناقضاته؟ وكيف يمكنه أن يقودنا إلى فهم المسلمين ومعتقداتهم وعاداتهم وأفعالهم؟ هذا السؤال له أهميّة كبرى كون التعريف هدفه المعرفة بالشيء المُعرّف عنه. فإذا كان التعريف لا يقود إلى المعرفة، فهو إمّا خاطئ وإما بلا جدوى. مشكلة التعريف أعلاه، مثلاً، ليس فقط أنّ كثيراً من المسلمين عرّفوا الإسلام بطرق مختلفة، بل في أنّه لا يساعدنا إذا ما التقينا بمسلم في الطريق أن نعرف مسبقاً إذا كان يصلّي ويصوم ويحجّ ويُزكّي، أو إذا كان يؤدّي بعضها ولا يؤدّي البعض الآخر، أو إذا كان لا يفعل أيّاً منها.

لذلك عندما نُسأل عن تعريف الإسلام، علينا أن نَسأل السائل ما يقصده تحديداً: هل هو الإسلام كدين أو كحضارة أو كهويّة؟ هل يقصده كعقيدة أو شريعة أو فريضة أو مزيجاً بينها كلها؟ هل يعني الإسلام السنّي أو الشيعي أو المذهبي (الحنفي، الشافعي، الإثنا عشري، إلخ)؟ هل يعني التاريخي أم الحالي؟ الفلسفي أم الكلامي أم الفقهي أم الصوفي؟ القرآني أم التراثي؟ السوسيولوجي أم السيكولوجي إلخ. بعبارة أخرى، تعريف الإسلام يتطلب معرفة الإطار الفكري الذي من خلاله نطرح السؤال ونحاول الإجابة عليه، حتى لا نتوه في تشعبات كثيرة وعميقة تجعل التفكير في الموضوع (على متعته) أمراً صعباً. قصارى الأمر أن نحاول تجنّب العموميّات لأنّها تبقينا على السطح وتمنعنا من الغوص في العمق لمعرفة التفاصيل و”القطب المخفيّة” التي على أساسها نفهم الأمور ونتجنّب النمطيّة والأصوليّة الفكريّة.

هل المسلم الملمّ باللغة العربيّة أفضل من المسلم الذي لا يتكلّمها؟ هل إسلام الحافظ للقرآن أحسن من الذي بالكاد يعرف منه آية أو آيتين؟ هل إسلام الرجل أفضل من إسلام المرأة؟ هل الفلسفة أنجع للمسلم من الكلام أو الفقه أو التصوّف؟

أقول إنّه علينا أن نفرّق بين تعريف الإسلام كدين أو كحضارة أو كهويّة لأنّ تعريف الإسلام كدين ينطلق من مفهوم الإيمان بالله وبنبوّة محمّد، بينما تعريف الإسلام كحضارة أو هويّة ليس له بالضرورة علاقة بالإيمان، كون كثير مِمَن يُعرّفون أنفسهم كمسلمين حضاريّاً أو هويّةً ليسوا بمؤمنين.

كذلك الأمر عندما نُعرّف الإسلام وفقاً لمذهب من المذاهب السنيّة، فهو أمر لا يساعدنا في فهم المذاهب السنيّة أو الفرق الإسلاميّة الأخرى. وعندما نُعطي تعريفاً فلسفياً، فذلك لا ينطبق على من يُعرّف الإسلام كعقيدة كلاميّة أو من منطلق فقهي. كما أن التعريف السوسيولوجي مرتبط بفهم الإسلام كمجتمع، بينما يرتبط التعريف السيكولوجي بالعوامل النفسيّة والعقليّة التي تؤثّر في تصرّفات الناس (أفراداً أم مجموعات). وفي بعض الحالات تتداخل الأمور ببعضها البعض (السيكولوجي بالسوسيولوجي، الفلسفي بالفقهي، السنّي بالشيعي، إلخ)، وتزيد الأمور تعقيداً وتجعل التعريف التجريدي مستحيلاً.

حتّى إذا أصرّينا على تعريف الإسلام، ندخل في مشكلة الفترة الزمنيّة التي ينطبق عليها ذلك التعريف. هل ينطبق على زمن النبي محمّد، أم زمن ما قبل النبي محمّد (كون بعض الفكر الديني الإسلامي يؤكّد أنّ الأنبياء قبله كانوا مسلمين)، أم زمن ما بعد النبي محمّد عندما بدأ تأسيس الفرق الدينيّة التي أنتجت مجتمعةً ما نسميه الإسلام؟

وندخل أيضاً في إشكاليّة معنى كلمة إسلام التي يجب أن نستخدمها لنُعرّف الإسلام. لنأخذ مثلاً الآية: “إنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰام..” (سورة آل عمران 19). كيف نعرّف كلمة إسلام هنا (أو كلمة دين)؟ هل هو خضوع لله والإيمان به أم هو اتباع لشريعة محدّدة؟ هل يدخل فيه أيضاً تبنّي لعقيدة معيّنة وعمل فرائض محدّدة وتجنّب محرمات؟ ومن يعرّف لنا ما هي هذه العقائد والفرائض والمحرّمات؟ ما نعرفه أنّ المسلمين لم يتّفقوا على جواب لهذه الإسئلة. إذاً، في حال أصريّنا على تعريف محدّد فنحن فعلياً نصبح أصوليّين ومحازبين، وينتفي العلم وأصوله.

وإذا إقترحنا تعريف الإسلام على أنّه مبني حصريّاً على القرآن والسنّة معاً لا نصل إلى نتيجة شافية، لأنّ في ذلك خلاف حول معنى هذه العبارة والتي على أساسها نفهم ما يقصده كل فريق. هنا ندخل في “القطبة المخفيّة” والتي تفرض علينا أن ندخل في عمق العبارات. لنأخذ مثلاً النقاش حول مفهوم الحكم في الإسلام بين من يقول أنّ الإسلام هو دين ودولة ومن يقول إنّه دين وليس له علاقة بتاتاً بالدولة. يقول علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”:

“ترى من هذا أنّه ليس القرآن هو وحده الذي يمنعنا من اعتقاد أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو مع رسالته الدينيّة إلى دولة سياسيّة. وليست السنّة هي وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنّة حكم العقل وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها إنّما كانت ولاية محمّد صلّى الله عليه وسلّم على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم.”

بينما نجد الإمام الخميني يقول عكس ذلك في كتابه “الحكومة الإسلاميّة”:

إقرأ على موقع 180  هكذا تكلم منتظري: فضيحة كونترا وإعدام هاشمي(1)

“لذا فإنّ الله عزّ وجلّ قد جعل في الأرض – إلى جانب مجموعة القوانين – حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة. .. نستفيد من سنّة الرسول (ص) وسيرته ضرورة تشكيل الحكومة. أمّا أولاً: فلأنّه هو بدوره قد شكّل الحكومة..”

رأيان متناقضان، كلّ منهما يستنجد بالله والقرآن والسنّة كدليل على صدق زعمه. إذاً، عبارة القرآن والسنّة لا يمكن أن تعني نفس الشيء لعبد الرازق والخميني. يستخدمها كلّ منهما ليصل إلى ما ينشده هو عكس ما يقوله غيره. إذاّ، هي غير مجدية كتعريف للإسلام.

حتى يكون إسلام الشخص كاملاً وصحيحاً، هل هو بحاجة ليكون متعلّماً (أي يقرأ ويكتب)؟ هل عليه أن يجيد العربيّة؟ أن يحفظ القرآن؟ أن يكون رجلاً؟ أن يلبس زيّاً محدّداً؟ أن وأن..؟ إذا أجبنا بنعم، ماذا يحصل للمسلم الذي يجهل العربيّة؟ أو لا يحفظ شيئاً من القرآن؟

ميزة التعريف أنّه يصبح أداة تحليليّة (analytical tool)، لذلك عندما نعرّف الإسلام يصبح التعريف وسيلة “لفهم” الدين الإسلامي والمجتمع الإسلامي، بما في ذلك معتقدات المسلمين وتصرّفاتهم. لكن ما نقوم به فعليّاً هو أنّنا نقول أنّ هذا هو الإسلام الصحيح ونقيس على أساسه ونقرّر مَن مِن المعتقدات والمجتمعات الإسلاميّة على صراط مستقيم ومن منها على ضلال. والأخطر من ذلك، هو أنّها تخلق إعتقاداً (خاطئاً) أنّ المسلمين الحقيقيّين خاضعون لإملاءات هذا الإسلام ويمكننا أن نعرف مسبقاً كيف يفكّرون ويتصرّفون، أي يمكن التنبّؤ بما سيفكّرون وسيتصرّفون. وهذا نوع من الخداع الفكري يمكن أن يقود إلى نتائج كارثيّة، إن في ما يتعلّق بالمحلّل الذي يستخدم التعريف، أو في ما يتعلّق باستخدام الصور النمطيّة التي تنتج عنه من أجل أسر المسلمين داخلها والحكم عليهم مسبقاً، كما يحدث في زمننا هذا.

ونسأل هنا، حتى يكون إسلام الشخص كاملاً وصحيحاً، هل هو بحاجة ليكون متعلّماً (أي يقرأ ويكتب)؟ هل عليه أن يجيد العربيّة؟ أن يحفظ القرآن؟ أن يكون رجلاً؟ أن يلبس زيّاً محدّداً؟ أن وأن..؟ إذا أجبنا بنعم، ماذا يحصل للمسلم الذي يجهل العربيّة؟ أو لا يحفظ شيئاً من القرآن؟ أو هو إمرأة أو متحوّل جنسيّاً؟

ولتكن مقاربة السؤال مختلفة: هل المسلم الملمّ باللغة العربيّة أفضل من المسلم الذي لا يتكلّمها؟ هل إسلام الحافظ للقرآن أحسن من الذي بالكاد يعرف منه آية أو آيتين؟ هل إسلام الرجل أفضل من إسلام المرأة؟ هل الفلسفة أنجع للمسلم من الكلام أو الفقه أو التصوّف؟ يمكن أن نسأل هذه الأسئلة بأشكال مختلفة والجواب واحد: كلّ ديك على مزبلته صيّاح. بل أكثر من ذلك، كلّ ديك يعتقد أنّ مزبلته أفضل لغيره. فالمتعلّم لا يفهم أو ينظر بدونيّة إلى إسلام الغير متعلّم، وهذا ليس لأنّ إسلام المتعلّم أفضل، بل لأنّه لا يفهم إسلام الأمّي. والفقيه الرافض للتصوّف لا يفهم إسلام المتصوّف.

ولنسأل السؤال من زاوية أخرى: هل يمكننا أن نجد تعريفاً للإسلام يشمل كلّ المسلمين (وهم حوالي 1.7 مليار شخص اليوم) على إختلافاتهم الدينيّة والعقائديّة والعرقيّة واللغويّة والجغرافيّة والسياسيّة والإجتماعيّة و..؟

إذاً، لا يمكن تعريف الإسلام إلا إذا أضفنا إلى الكلمة عبارات تساعدنا في تحديد الإطار الذي ينطبق عليه التعريف، ومن خلال ذلك يصبح للتعريف فائدة حسنة. مثلاً، الإسلام السنّي الفقهي يعلمنا أن التعريف الذي نحن بصدده ينطبق فقط على الإسلام السنّي ويقارب الدين من منطق فقهي، بعكس الإسلام السنّي الصوفي الذي يقارب الإسلام من منطق صوفي داخل الإطار السنّي. وهناك فرق بين الإسلام السنّي الصوفي والإسلام الشيعي الصوفي (الذي يتقيّد في الإطار الشيعي العام) والإسلام الصوفي الذي لا يتقيّد بإطار مذهبي. إلخ

في الخلاصة، عندما نفرض تعريفاً واحداً على عنوان غني كالإسلام، فنحن فعليّاً نؤسّس لهيمنة نمطيّة معيّنة تخلق واقعاً يجبر المسلم على تغيير فهمه للإسلام من أجل أن ينساق إلى تعريف بذاته. هذا ما فعلته السلفيّة الوهّابيّة في العالم الإسلامي عندما فرضت تعريفها للإسلام بقوّة البلطجة والمال والإرهاب. وهذا ما يفعله أيضاً كثير من رجال الدين في هذه الأيّام حيث يُفصّلون الإسلام على مقاساتهم ويلبسونه للناس. عندما نفرض تعريفاً محدّداً للإسلام، ننتج أصوليّة فكريّة ودينيّة وسياسيّة أوّل ضحاياها هم المسلمون.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  منصب المُرشد في إيران.. هل يُخشى من الفراغ؟