روسيا لا تثق بالولايات المتحدة أبداً. تخشى أن يطوقها “الناتو”. حاول حلف الأطلسي ضم أوكرانيا وجورجيا، وأقام شراكات مع أذربيجان وأرمينيا وكازاخستان ومولدوفيا، ما تسبب في إثارة قلق كبير لدى روسيا التي شعرت بتهديد نفوذها. الآن، في حالة أوكرانيا، يمكننا أن نرى كيف أن سياسة “الناتو” ساعدت في التعجيل بالغزو الروسي وتسببت في وقوع عدد لا يُحصى من الضحايا المدنيين والدمار الهائل في البنى التحتية.
وفي حين كانت هناك أسباب متعددة دفعت بالرئيس الروسي لكي يبدأ العملية العسكرية ضد أوكرانيا، غير أن الحقيقة هي أن “الناتو” هو من استفزه.
إن محاولات “الناتو” المتكررة؛ على الأقل منذ عام 2008؛ لضم أوكرانيا إلى صفوفه، كانت السبب الأول والرئيسي لهذه العملية العسكرية. فنوايا “الحلف” لم تكن سياسية فقط، فقد كانت هناك تدريبات ومناورات عسكرية كبيرة مع الجيش الأوكراني، سبقها نصب ترسانة ضخمة من الأسلحة الثقيلة في الأراضي الأوكرانية. وكان هناك أيضاً بناء قواعد عسكرية، منها قاعدة التدريب التي يديرها ضباط “الناتو” في “يافوريف” بالقرب من “لفيف” على الحدود البولندية، والتي تعرضت للقصفت مؤخراً. ففي هذه القاعدة تم تدريب أوكرانيين ومتطوعين أجانب، وتخزين أسلحة مضادة للدبابات وغيرها من الأسلحة الثقيلة التي قدمها “الحلف”.
“الناتو” طوَّر موانئ أوكرانيا لتستوعب السفن الحربية الأميركية والبريطانية.. وخطط لدمج البحرية الأوكرانية في عملياته في البحر الأسود
وحتى وقت قريب، كان فوج الفرسان المدرع الرقم 278 التابع للحرس الوطني في ولاية تينيسي يشارك في إدارة مركز التدريب هذا. وبحسب موقع “ميليتري تايمز” فقد تم تصميم قاعدة “يافوريف” على غرار مراكز التدريب المماثلة في “فورت بولك” في لويزيانا، و”فورت إيروين” في كاليفورنيا و”أوبرفليس” في ألمانيا لتقدم “برنامجاً غامراً مصمماً لإعداد جنود جاهزين للقتال في أي لحظة”.
بالإضافة إلى ذلك، جرى تطوير موانئ أوكرانيا بحيث تصبح ملائمة لإستيعاب السفن الحربية الأميركية والبريطانية. ونفذ خبراء الموانئ الأميركيون والبريطانيون مهامهم في “أوتشاكوف” في منطقتي “نيكولاييف” و”يوجني”، على بعد حوالي 30 كيلومتراً شرق أوديسا عند البحر الأسود.
كما أُجريت مناورات بحرية مهمة تحت علم “الناتو”، في إطار دمج البحرية الأوكرانية الصغيرة في عمليات الحلف في البحر الأسود. وفي الوقت نفسه، قام الأوكرانيون أيضاً بتجريف وتعميق موانئ أخرى بما في ذلك “خيرسون” و”إيزيل” و”تشرنومورسك” و”أوديسا”.
وأرسلت الولايات المتحدة عناصر من القوات الجوية والحرس الوطني إلى أوكرانيا لتقديم مساعدات للجيش الأوكراني؛ بما في ذلك السلاح الجوي؛ شملت التدريب والتنظيم والإدارة والتسليح وتطوير فنون التنظيم الحربي وبناء خطوط الدفاع. بالإضافة إلى ذلك، قدمت الولايات المتحدة و”الناتو” معلومات استخباراتية لكييف ودورات تدريبية على كيفية إدارة حرب سيبرانية.
الحلف نفذ “حلاً بديلاً” يضمن له جميع “الفوائد” العسكرية في أوكرانيا من دون أن تكون عضواً ولا حتى جزءاً من نظامه الأمني الجماعي
التهديد النووي كان وشيكاً
باختصار، ومن وجهة نظر روسيا، كان هدف “الناتو” دمج عملياته وقواعده في أوكرانيا برغم أنها ليست عضواً في الحلف. فبعض الأعضاء امتنعوا عن دعم هذه العضوية بسبب التهديدات والتحذيرات الروسية.
لذلك، نفذ الحلف “حلاً بديلاً” يضمن لنفسه بشكل أساسي جميع “الفوائد” العسكرية من دون أن يعرض بشكل فعلي على أوكرانيا أن تكون جزءاً من نظامه الأمني الجماعي، الذي يتجسد في المادة (5) من ميثاق “الناتو“.
تنص المادة (5) على أن أي هجوم أو عدوان مسلح ضد طرف من دول الحلف يُعد عدواناً على جميع الدول الأعضاء فيه، وبالتالي تُعتبر هذه المادة هي المحور الرئيسي لفكرة الحلف، وتفعيلها في الظروق الحالية يعني حرباً عالمية ثالثة.
وأيضاً من وجهة نظر روسيا، الديناميكية الرئيسية الثانية، هي إمكانية وضع أسلحة نووية بالقرب من أراضيها. فقد شكك الروس في أن “الناتو” كان يضع أنظمة نووية في أوروبا الشرقية، ربما في مواقع يقودها “الناتو” أقيمت على الأراضي الأوكرانية.
فأوكرانيا لديها معرفة نووية واسعة النطاق، اكتسبتها خلال الفترة التي كانت فيه جزءاً من الاتحاد السوفيتي. وهناك محطتان رئيسيتان للطاقة النووية: تشيرنوبيل (بالقرب من مدينة بريبيات المهجورة، تعرض أحد مفاعلها لإنفجار عام 1986)، ومحطة زابوريزجيا (جنوب شرق) وهي أكبر موقع للطاقة النووية في أوروبا (ستة مفاعلات). وكلا المحطتان (تشيرنوبيل وزابوريزجيا) هما الآن تحت سيطرة القوات الروسية.
وهناك أيضاً مركز أبحاث نووي هو “معهد خاركيف للفيزياء والتكنولوجيا“، وقد تعرض لهجوم من قبل الروس.
في 23 شباط/فبراير، كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن بلاده قد تطور أسلحة نووية لمواجهة روسيا. كذلك، تحدثت موسكو عن ما يمكن أن يكون قاذفات أسلحة نووية، من طراز “مارك 41” التي تعمل وفق نظام الإطلاق الرأسي، تم نصبها في بولندا ورومانيا. وهذه القاذفات قيد التشغيل، ويمكنها إطلاق نماذج مختلفة من الصواريخ الاعتراضية (كروز وتوماهوك) الأميركية الصنع، التي تصيب أهدافا على بعد 1600 كيلومترا، والقابلة للإطلاق من السفن بأسرع من الصوت، وبوسعها التحليق على ارتفاعات منخفضة، كما بوسعها التحليق لفترات طويلة وتبديل مسارها بأوامر من أنظمة التحكم.
ولأن نظام AEGIS يمكنه إطلاق” توماهوك” فإن الروس يرونه تهديداً نووياً محتملاً بالقرب من حدودهم، ما يجعل الإنذار المبكر صعباً.
لا تثق روسيا بما يفعله “الناتو”؛ أي الولايات المتحدة؛ لناحية زيادة قدراته النووية. وازداد قلقها بشكل كبير بعد أن ألغى الرئيس السابق دونالد ترامب معاهدة القوة النووية الوسيطة (كان الروس يغشون بموجب هذه المعاهدة).
باختصار، إذا صدقنا ما يقوله الروس، فإنهم يرون أن قوة “الناتو” النووية تزداد في أوروبا الشرقية، وتحديداً في أوكرانيا، ما يعني أن الأخيرة يمكن أن تطرح سلاحاً نووياً، وهذا تهديد مباشر لروسيا، وعن قرب.
أبعد من “الناتو”
وبعيداً عن “الناتو” ومحاولاته وسلوكه، تنطوي الحرب الروسية الأوكرانية على قضايا أخرى مهمة بالنسبة للروس.
روسيا كانت قد ضمَّت القرم في عام 2014، ما عرَّضها لعقوبات فرضتها الولايات المتحدة وشركاء آخرون في “الناتو” ( يجادل الروس بأن ضم القرم جرى على أساس استفتاء تم وفق حق شعب القرم في تقرير مصيره بيده).
كما اعترفت روسيا مؤخراً بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك (في دونباس)، بعد أن رفضت أوكرانيا منحهما الحكم الذاتي خارقة بذلك اتفاقية مينسك الثانية. وفي أي تسوية لهذه القضايا، هناك أسئلة حول المناطق الإقليمية المشمولة فعلياً (خاصة بالنسبة لجمهوريتي الدونباس) وقضايا البنية التحتية بما في ذلك الطاقة والمياه.
والتسوية ستطال أيضاً “الوضع النهائي” لأوكرانيا: هل تكون منزوعة السلاح؟ هل تصبح دولة محايدة مقيدة بتنظيم خاص يحدد حجم الأصول العسكرية وكيفية التصرف فيها؟
هل سيسمح الوضع الجديد بوجود شركاء أجانب؟ هل سيتعين على أوكرانيا رفض برنامج شراكة “الناتو”؟ هل ستدير برامجها النووية بنفسها، أم أن منشآتها النووية ستخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو سلطات أخرى يتم الإتفاق عليها؟ كيف سيتم ضمان أمنها في المستقبل؟ وهل ستستطيع أن تضمن أمنها؟
إستفزازات وإفتراءات
لقد أخطأ “الناتو” في نواحٍ عديدة، بدءاً من طرد المراقبين الروس من مقره في بروكسيل قبل بدء العملية العسكرية الروسية، وصولاً إلى تصريحاته الإستفزازية حول حق أوكرانيا في اختيار تحالفاتها (بمعنى الإنضمام للحلف).
كان هناك أيضاً رفض “الناتو” التراجع عن إعلان قمة بوخارست لعام 2008 الذي قال إن جورجيا وأوكرانيا “ستصبحان عضوين في الحلف”. وربما كانت أفظع البيانات الصادرة عن أعضائه الرئيسيين مؤخراً، وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وبولندا، هي أن الحلف لن يدعم أوكرانيا عسكرياً إذا تم غزوها. وكان العذر الرسمي، الذي قدمه الأمين العام ينس ستولتنبرغ، إستفزازي للغاية عندما قال: “أوكرانيا لم تكن عضواً في الناتو”.
هذه اللغة المثيرة للغضب؛ وهي اللغة ذاتها التي استخدمها الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والمستشار الألماني أولاف شولز، وآخرون؛ منحت الروس تصريح مرور مجاني لمهاجمة أوكرانيا بدون خوف من أي رد عسكري من “الناتو”، سواء في أوكرانيا أو على طول الحدود المشتركة مع دول الحلف.
إن الحجة القائلة بأن “الناتو” لا يستطيع التدخل لأن أوكرانيا لم تكن عضواً هي بالطبع محض هراء. فالحلف نفذ عمليات عسكرية عدة في أماكن مختلفة وبمشاركة دول ووجهات غير أعضاء.
الأمثلة على ذلك عديدة: البوسنة والهرسك (1992-2004)؛ صربيا وكوسوفو (1999)؛ البحر الأبيض المتوسط (2001-2016)؛ أفغانستان (2001-2014)؛ ليبيا (2011)؛ عملية درع المحيط والبحر الأحمر وخليج عدن (2009-2016).
فلو أراد “الناتو” اتخاذ إجراء ضد روسيا لدعم أوكرانيا، لكان بإمكانه ذلك. لكنه لم يفعل.
ما بعد حرب أوكرانيا
يصعب التنبؤ بما سيحدث ما بعد حرب أوكرانيا، بالنسبة لهذا البلد ولروسيا و”الناتو” والعالم أجمع. فإذا تماسكت روسيا بالفعل، من المحتمل أن تجري تغييرات كبيرة على كيفية خوضها لأي قتال في المستقبل. قد ينتهي الأمر بروسيا أيضاً بحكومة مختلفة وتغيير السياسات المحلية والدولية.
على مدى السنوات الخمسة الماضية، كان تركيز بعض الأوروبيين ينصب فقط على كيفية تطوير نظام دفاعي أوروبي مستقل عن “الناتو”
ومثلما ستواجه روسيا على الأرجح اضطرابات، يحتاج “الناتو” إلى إجراء تغييرات كبيرة في القيادة والطموح. لا يمكن للحلف التظاهر بعد الآن بأنه تحالف دفاعي دون الدفاع فعلياً عن أعضائه. من المؤكد أن الدول الأعضاء، ولا سيما الجُدد منهم، يعانون من الصدمة إزاء ما رأوه في أوكرانيا، وما سمعوه من تصريحات معادية لروسيا، من دون أن يروا أي إجراء فعلي على الأرض.
هؤلاء الآن يحمدون ربهم لأنهم محظوظون ولم يتعرضوا للموقف الذي تعرضت له أوكرانيا.
فهل أحد بعد اليوم يريد أن يرى مدنه مدمرة، مثل المدن الأوكرانية؟ هل يستطيع “الناتو” حماية دول الأعضاء من التعرض لأي خطر؟ هل سيحميهم من الانهيار الاقتصادي؟ هل هناك بدائل لنظام “الناتو”، أم يستطيع كل لاعب (عضو) عقد صفقات مستقلة عن الحلف؟
يبدو أن البعض، مثل المجر، يحاول بالفعل.
وهكذا، وكما يبدو أن مستقبل روسيا قيد التشكل، كذلك هو مستقبل “الناتو”.
المصير المحتوم
ثمة الكثير من الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن الطموحات السياسية لحلف “الناتو” قد تجاوزت فائدتها. فبعد أن تنتهي العملية العسكرية في أوكرانيا (على افتراض أنها لن تتحول إلى صراع طويل الأمد)، ستبدأ دول “الناتو” التحدث فوراً عن تعزيز تحالفاتها وشراء أسلحة جديدة وتشكيل دفاعاتها الجوية والدروع والمدفعية.
لكن من غير المؤكد ما إذا كانت أوروبا ستبذل كل جهودها من أجل “الناتو”، ولا إذا كانت ستواصل دعم وجود الحلف من أساسه. فعلى مدى السنوات الأربع أو الخمس الماضية، كان تركيز بعض الأوروبيين؛ الألمان والفرنسيون والإيطاليون على وجه الخصوص؛ ينصب فقط على كيفية تطوير نظام دفاعي أوروبي مستقل عن “الناتو”.
“الناتو” أصبح ضعيفاً بسبب رده الباهت ومسؤوليته المباشرة عن تأجيج النيران التي دفعت بوتين لشن عملية عسكرية ضد أوكرانيا
لا شك أن القادة الأوروبيين سعداء كونهم يحصلون على أموال من الولايات المتحدة، وكون القوات الأميركية “جاهزة” للدفاع عن أوروبا من دون مقابل؛ أو مقابل القليل. ومع ذلك، هناك استياء أوروبي منذ فترة طويلة تجاه الهيمنة الأميركية. وعندما تنتهي الفوضى في أوكرانيا، قد نشهد مواجهات عديدة، ومزيداً من النداءات المطالبة بالانفصال وفك الإرتباط عن واشنطن.
هل سيصمد “الناتو” ويستمر، أم يصبح كياناً غير ذي أهمية أو يتحول إلى تحالف جديد بأعضاء جُدد (تاركاً أوروبا الغربية لسياساتها الخاصة).. كل هذا ليس سوى احتمالات.
هناك فرصة جيدة جداً لأن تتراجع أوروبا وبسرعة عن عقوباتها إذا تم إبرام صفقة بين أوكرانيا وروسيا.
سوف ترتفع الأصوات من أجل إبرام تسوية مع روسيا، على افتراض أن موسكو سوف تتعافى من كارثة أوكرانيا، وتتجاوز العقوبات وتتحمل بعض المسؤولية عن الفوضى التي أحدثتها.
في الوقت نفسه، إن فقدان “الناتو” لمصداقيته يعني أيضاً خسارة الولايات المتحدة مصداقيتها. وذلك سيؤثر بشكل كبير على كيفية تطور الأحداث في أماكن أخرى من العالم؛ في كوريا الشمالية واليابان وتايوان، على سبيل المثال.
إن حلف “الناتو” يضعف حتماً بسبب ما يحدث في أوكرانيا، وجراء مسؤوليته المباشرة عن تأجيج النيران التي دفعت بروسيا لشن عمليتها العسكرية. وليس من المبالغة القول إن “الناتو” فقد مصداقيته بالفعل.
(*) النص بالإنكليزية على موقع “آسيا تايمز“