بكل المعايير والمقاييس، تعد الأزمة الراهنة، أكثر تعقيداً وتشابكاً، وتنطوي على مضامين وأبعاد إقليمية ودولية مختلفة، ويبقى الأبرز في هذا الإطار، هو أن نتائجها ومفاعيلها مفتوحة على سيناريوهات مركبة واحتمالات مفتوحة وتحتاج إلى بعض الوقت كي تتبلور بصورة واضحة.
تبيّن الوقائع والمعطيات الميدانية في هذا الإطار، أن عملية الحسم العسكري الروسي في الميدان، لم تجر حتى اللحظة، كما أنها لم تتم بالسرعة والسهولة التي كان يظنها أو يعتقد بها البعض، لأسباب عديدة ومختلفة، تبدأ من حجم المقاومة الأوكرانية الكبير للقوات الروسية، مروراً بالدعم الغربي (الأمريكي والأوروبي)، التقني واللوجستي والاستخباراتي للأوكرانيين، وتنتهي برغبة روسيا بإعطاء فرصة كبيرة للحلول السياسية والدبلوماسية وعدم الرغبة في إراقة الدماء، واحتمال صدور مبادرة ما من الجانب الأوكراني، تقود إلى حوار سياسي، وحل سلمي، يقدر قلق روسيا، ويأخذ بالحسبان هواجسها الأمنية، ويضمن المصالح الإستراتيجية لروسيا، في مجالها الحيوي في منطقة البحر الأسود، وفي المجال الأوراسي، ويوفر المزيد من إراقة الدماء في الجانبين الروسي والأوكراني، وهو مطلب وخيار كانت قد أصرت عليهما روسيا الاتحادية بقوة منذ سنوات لكن أوكرانيا أصرت بالمقابل على إستراتيجية مختلفة، مضمونها الإنعتاق من المضمون التاريخي للجغرافيا السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية لأوكرانيا، والالتحاق بنادي دول الإتحاد الأوربي، وحلف الناتو.
لم يأت القرار الروسي بالتدخل المباشر في أوكرانيا مفاجئاً، فقد سبقه الكثير من الحوارات والرسائل الروسية والتوضيحات السياسية والدبلوماسية، من قبل روسيا لأوكرانيا، إذ طالبتها مراراً وأكدت مطالبها في المحافل الدولية، بضرورة الالتزام بمبادئ اتفاقية (مينسك) ومضامينها، وأكثر من ذلك، وجهت لها العديد من دروس العبر والرسائل السياسية والعسكرية من خلال تدخلها المباشر في جورجيا واستونيا وأبخازيا، واجتياح شبه جزيرة القرم واستردادها لروسيا، والتدخل العسكري المباشر في كازاخستان. لكن أوكرانيا أصرت على تجاهل الرسائل الروسية.
تُصنف الحرب الدائرة في أوكرانيا، كحربٍ مفتاحيه بالمعنى الإستراتيجي، إذ أنها تسببت في خلط الأوراق بطريقة شائكة ومعقدة، وجعلت المشهد مفتوحاً على احتمالات مختلفة، بطريقة قد تؤسس لخلق تمفصلات جديدة في بنية العلاقات الدولية، كما أنها ستنتج تحالفات بسيطة وأخرى مركبة، يشوبها الكثير من التناقض واللبس والهشاشة، وفرض حالة من التوتر وعدم الاستقرار المديد
لقد فشل خيار السلم والحوار، وانتصر خيار الحرب والمواجهة العسكرية، بين روسيا والغرب في أوكرانيا بصورة مباشرة، وذلك بعد أن كان قد بدأ بصورة غير مباشرة في سوريا، وهي مواجهة غير تقليدية (نوعية) في الأدوات والوسائل، إذ يُستحضر فيها الاقتصاد والعقوبات الاقتصادية والحرب البيولوجية بقوة كبيرة جداً، وتُستخدم فيها تقنيات أدوات الجيل الرابع من الحروب بصيغها وأساليبها المختلفة. وفي الواقع إن طبيعة هذه الحرب والإصطفافات الدولية الراهنة، والملابسات المحيطة بالحدث (الحرب الدائرة في أوكرانيا)، وما قد يترتب عليها من تداعيات واحتمالات، تدفع لطرح مجموعة كبيرة جداً من التساؤلات، يبقى الأبرز منها والأهم هو:
لماذا هذه الحرب الآن؟ وهل تأخرت؟ هل أخطأ الرئيس فلاديمير بوتين في تقدير الأبعاد، أو هل أغفل عن بعض متغيرات السيناريو، الذي اختارته روسيا؟ هل كان لدى بوتين خيارات أخرى؟ كيف فُرض عليه هذا السيناريو؟ هل سقط مشروع بناء النظام العالمي عن طريق تجمع دول البريكس، وهو المشروع الذي طبل وزمّر له كثيرون، من المناهضين للدور وللنفوذ الأمريكي حول العالم؟ لماذا مطلوبٌ من ألمانيا الآن أن تنفق (100) مليار يورو على الدفاع والتسليح، وقد كان محظوراً عليها ذلك بالأمس إذ كانت تخضع لبرنامج ضبط ومراقبة شديدة؟ لماذا طلب وزير خارجية أمريكا أنتوني بلينكن من بولندا رفع ميزانية الإنفاق على التسلح، بمقدار (10%)؟ أين سوريا مما يجري؟ وكيف سينعكس ذلك على الملف السوري في الداخل والخارج؟ ما هي القيمة المُضافة التي يمكن أن تقدمها الدول المحيطة بروسيا، والتي لا تمتلك تصنيفاً اقتصادياً للاتحاد الأوربي في حال انضمامها؟ لماذا ساندت وشجعت الولايات المتحدة الأمريكية قادة أوروبا على تسهيل انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الإتحاد الأوربي، ومن ثم إلى حلف الناتو؟ لماذا أُبقي الدور العسكري لألمانيا بعيداً ومُستبعداً، وتم استحضاره أمريكياً بقوة الآن في الحرب الأوكرانية؟
أولاً؛ هل تأخرت الحرب؟
تخضع السياسة كما تخضع الطبيعة وكذلك المجتمع لقوانين موضوعية، لا يمكن تفادي مفاعيلها. فالنظام الدولي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، يسير بفعل قوة دفع القاطرة الأمريكية فقط، وما زال حتى هذه اللحظة، وربما لأجل قد يطول. ما أثقل كاهل البنية الدولية برمتها، إذ أنتج الانتصار الأمريكي لفترة ما بعد الإتحاد السوفييتي، حالة من الاستقرار الإستراتيجي الدولي في حالة سلبية، قوامه الرضوخ والإذعان من قبل جميع القوى التقليدية، وفي مقدمتها (روسيا)، والقوى الصاعدة وفي مقدمتها الصين، للنموذج الأمريكي. وتجنباً للصراع والمواجهة، حاولت جميع القوى المذكورة التكيف إيجابياً (قسراً) مع شروط ومتطلبات الدور الأمريكي، وهذا يخالف القانون السياسي الموضوعي، الذي يحكم عمل المنظومات (بنيوياً)، ما أنتج حالة كامنة تحت الرماد قابلة للانفجار إلا أن انفجارها تأخر بمفاعيل قانون التكيف، الذي أخّر الانفجار، لكنه لم يغير المسار الحتمي، (أي وقوع الحرب)، فقد بدأت طلائع المواجهة غير المباشرة من سوريا، وانتهت بمواجهة ميدانية مباشرة في أوكرانيا.
ثانياً؛ أوكرانيا
تعد أوكرانيا من الدول التي كانت تشكل مكوناً مهماً من جغرافيا الإتحاد السوفيتي السابق، فهي دولة غنية بالموارد الطبيعية (المعادن، الفحم، الغاز، والحديد)، وقد ورثت من الإتحاد السوفييتي تركة ضخمة وهائلة من البنى التحتية العسكرية، ومؤسسات الصناعة والتصنيع العسكري والمدني، إضافة إلى إمتلاكها عدداً مهماً من المؤسسات والمحطات النووية، فضلاً عن كونها بلداً زراعيا متنوع الإنتاج والمحاصيل الزراعية الإستراتيجية كالقمح وغيره، ما يعني أنها يمكن أن تؤثر بقوة في سلة الغذاء العالمي.
شأنُ أوكرانيا كدولة ومجتمع، يشبه شأن جميع دول أوروبا الشرقية، التي كانت تدور في فلك الإتحاد السوفيتي السابق، إذ أنهم وبغالبيتهم يعيشون على حلم الالتحاق بأوروبا، والانضمام لنادي الإتحاد الأوربي، وإنشاء علاقات مميزة مع دول أوروبا الغربية، كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد نجح بعضهم في تحقيق هذا الحلم، كرومانيا وبولندا، والبعض الآخر ما يزال ينتظر.
ثالثاً؛ روسيا والغرب
لم تكن العلاقات الروسية يوماً مع الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، علاقات طبيعية محكومة بالمصالح المتبادلة. فقد شابها الكثير من الاحتواء، والمجاملة، وبعض التوتر من وقتٍ لآخر، وقد حرص الروس بصورةٍ دائمة، على ممارسة سياسات ضبط النفس والاحتواء، والمجاملة الدبلوماسية لسنوات طوال، مع الأخذ بالحسبان، أن ملامح هذه العلاقات واتجاهاتها، كانت قد شهدت مسارات وتوجهات متباينة طوال العهود والحقب الرئاسية الروسية المتوالية، بدءاً من ميخائيل غورباتشوف وانتهاءً بالرئيس بوتين، إلا أنها بالمجمل، كانت علاقات يشوبها الكثير من الإذعان والشك، والتجاهل والاستخفاف من قبل أمريكا والدول الغربية بمكانة روسيا ومصالحها الإستراتيجية. ومع ذلك لم ترغب القيادة الروسية، وعلى رأسها بوتين ولأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية موضوعية (يقدرها الروس بصورةٍ واقعية) بالدخول بمواجهة مباشرة مع الغرب الأمريكي والأوروبي. لذلك وبناءً عليه اتجهت القيادة الروسية للعمل في مستويين اثنين:
المستوى الأول: دولي وفيه اتجهت القيادة الروسية للعمل على ثلاثة محاور إستراتيجية تتمثل بالآتي:
1ــ الانفتاح على الغرب الأمريكي والأوروبي، بصورةٍ شابها الكثير من الحلم والرومانسية التي كانت تسيطر تحديداً على الذين يعتقدون ويحلمون بأن روسيا يجب أن تكون جزءاً من أوروبا وليس من آسيا.
2ـــ الإمساك ببعض الأوراق الإستراتيجية، المتعلقة بالنزاعات الدائرة حول العالم، وبعض الملفات الشائكة، كالملف النووي الإيراني، والملف البيئي العالمي، وحقوق الإنسان، وملف محاربة الإرهاب الدولي، والملف السوري والليبي واليمني وغير ذلك من الملفات.
3ــ الالتزام ببناء علاقات وتفاهمات إستراتيجية مع إسرائيل، تحديداً لجهة ما يتعلق بالملف السوري، والتواجد الإيراني في سوريا، كما اتجهت نحو الالتزام بعلاقات تكتيكية مع تركيا.
المستوى الثاني: داخلي وفيه اتجهت روسيا نحو التأسيس لبناء نموذج اقتصادي ليبرالي، يفتقر في بعض مكوناته للمعيارية وللحوكمة الاقتصادية. يعتمد الليبرالية الاقتصادية، والانفتاح أكثر على رأسمال العالمي، لا سيما الأوروبي والأمريكي، في الوقت الذي ذهب فيه البنك المركزي الروسي لبناء احتياطي استراتيجي من الدولار يتجاوز حدود (600) مليار دولار، إضافة إلى احتياطي ضخم من الذهب، لكن نقطة الضعف الاقتصادية الكبرى تكمن في طبيعة النموذج القائم على النزعة الاستهلاكية، والإنفاق الكبير على الاستيراد من أوروبا، فيما استمر الطابع الريعي للاقتصاد الروسي، إذا يعتمد نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة عالية جداً على مصادر الدخل الريعية كـ(النفط والغاز والمعادن والخامات وبعض الموارد الطبيعية)، في الوقت الذي يعاني فيه قطاع التقانة والتكنولوجيا من تخلف نسبي، بالمقارنة مع التقانة والتكنولوجيا الأمريكية والأوروبية.
يعتقد القادة الروس بقوة أن السلوك السياسي والعسكري الاستراتيجي (الاستفزازي بحسب الروس)، للدول التي كانت تدور في فلك الإتحاد السوفيتي السابق، والتي تنتمي جغرافياً للمجال الحيوي لروسيا الاتحادية (منطقة البحر الأسود، ودول البلطيق) يشكل مصدر تهديد للأمن القومي للإتحاد الروسي
يعتقد القادة الروس بقوة أن السلوك السياسي والعسكري الاستراتيجي (الاستفزازي بحسب الروس)، للدول التي كانت تدور في فلك الإتحاد السوفيتي السابق، والتي تنتمي جغرافياً للمجال الحيوي لروسيا الاتحادية (منطقة البحر الأسود، ودول البلطيق) يشكل مصدر تهديد للأمن القومي للإتحاد الروسي، الذي مارس أعلى درجات الاحتواء وضبط النفس، لطالما ظن الروس وقدروا لبعض الوقت بأن الاستفزاز، لم يرق إلى درجة التهديد الإستراتيجي، وأن الناتو ما زال في مناطق لا تشكل مساساً بأمن روسيا الاتحادية ويمكن احتواؤه، وتعد بولندا الدولة الأكثر تحدياً في هذا الإطار، والآن أوكرانيا؟ لكن الأمر لم يعد كذلك في أوكرانيا وما قد يليها.
رابعاً؛ أمريكا وحرب أوكرانيا
لقد تعلمت أمريكا كثيراً من تجربتيها في العراق وأفغانستان، ولذلك اتجهت نحو صياغة إستراتيجية جديدة مختلفة، تتميز بالواقعية والمرونة، وتعتمد بصورة كبيرة على آلية استخلاص العبر والدروس. لذلك وبناء عليه، فإن محددات الموقف الأمريكي لجهة ما يتعلق بالحرب الدائرة في أوكرانيا الآن باتت تقوم على الأسس الآتية:
- إدارة الصراع والحرب، وعدم الانغماس المباشر فيها، واللجوء إلى الوكلاء والمرتزقة والشركات الأمنية.
- الصبر والانتظار، والرهان على عامل الزمن، كمتغيرات إستراتيجية، تساعد في إغراق روسيا أكثر في أوحال الحرب الأوكرانية، وبالتالي استنزافها وصرف الأرصدة الروسية سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً.
- الحشد والتعبئة، وشراء المواقف والذمم السياسية، وصياغة تحالفات وتفاهمات جديدة، لاستثمارها في هذه الحرب.
- تجميع المرتزقة والوكلاء والشركات القتالية والأمنية، وتقديم التسهيلات والدعم اللوجستي للأوكرانيين.
- استنزاف ألمانيا (اقتصادياً) وإضعافها، وذلك عن طريق تغيير وظيفتها ودورها، والتخلي عن الإستراتيجية الأطلسية (الأوروبية – الأمريكية) حيالها، والتي كانت تنطلق من هدف مركزي يقوم على ضرورة تحييد ألمانيا، وعدم السماح لها بالإنفاق على برامج التسلح والتصنيع العسكري، وتصدير التقنيات العسكرية الألمانية، ودفعها للانغماس المباشر الآن في الحروب والنزاعات الدولية.
- تكثيف الحديث الأمريكي حول ضرورة تفعيل دور حلف الناتو، وإعطائه دوراً أكبر في حماية أمن أوروبا من (الأطماع الروسية)، ومن الإعمال الإرهابية، ومن الخطر القادم من العالم الإسلامي، وإيران (الساعية بحسب الغرب نحو امتلاك القنبلة النووية)، ما يتطلب زيادة ميزانيات التسلح لدول أوروبا، والإنفاق أكثر على مشتريات السلاح والتقانة العسكرية، وأنظمة الضبط والمراقبة والإنذار المبكر من الولايات المتحدة الأمريكية، والعمل على ضم أطراف أخرى تنتمي للمجال الحيوي لروسيا، تقع في حوض البحر الأسود، ومجموعة دول البلطيق. وقد برز هذا المطلب بوضوح أثناء زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن لبولندا وألمانيا ودول أخرى في أوروبا الشرقية. ويبقى السؤال لماذا هذا التوجه الأمريكي لخلق دور أكبر لحلف الناتو، وإثارة شهية الدول الأوربية للانضمام إليه؟
مهما كانت النتائج التي ستنتهي إليها الحرب في أوكرانيا، فإن الهدف الإستراتيجي المركزي للولايات المتحدة، هو إثارة الرعب والقلق الإستراتيجي لدى جميع الدول الأوربية [دول الإتحاد الأوربي، ودول البلطيق والبحر الأسود، وجميع الدول المحيطة بروسيا، تحديداً الدول الواقعة ضمن المجال الحيوي لروسيا الاتحادية] من النزعة الروسية والطموح الروسي، الذي يسيطر على سلوك القادة الروس (التوسعي بحسب مزاعم الأمريكان). وربما (كما نقدر)،لا تنزعج الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً إن خسر الأوكرانيون الحرب، وانتصر الروس في أوكرانيا (بصرف النظر عن طبيعة وحجم وشكل أوكرانيا المستقبل، (أي أوكرانيا ما بعد الحرب)، مقسمة أم غير مقسمة، داخل الناتو أم خارج الناتو)، لأن انتصار الروس، سواء كان عن طريق تنصيب حكومة موالية لروسيا في أوكرانيا، أو تقسيمها إلى (شرقية وغربية)، أو أي سيناريو آخر، كل ذلك سيساعد الولايات المتحدة في تشديد قبضتها على أوروبا (القلقة والخائفة)، لا سيما أوروبا الشرقية، وسيساعد أمريكا أكثر، في عملية شد العصب الأوربي، تحت مظلة الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، سياسياً وتكنولوجياً وتمويلياً، ما سيساعد في خلق فضاءات أوسع للاقتصاد الأمريكي، تولد مصادر دخل ونمو اقتصادي أكثر استدامة، إذ سيسهم زيادة الإنفاق العسكري الأوربي على متطلبات التسلح والدفاع، وعلى مشتريات التقانة والتكنولوجيا العسكرية وغير العسكرية الأمريكية وعلى متطلبات التدريب ومستلزمات الدعم اللوجستي، سواء كان من دول داخل الناتو أم من دول خارجه، سيسهم في انتعاش الصناعة العسكرية ومجمعات التصنيع العسكري الأمريكي، وصادرات السلاح الأمريكية، وبالتالي انتعاش الاقتصاد الأمريكي، ما يكرس التبعية الأوربية بكل أشكالها، وفي مقدمتها التبعية العسكرية والأمنية والاستخباراتية لأمريكا، وذلك على حساب الاقتصادات الأوربية، لا سيما الاقتصاد الألماني الذي يعد قاطرة اقتصاد دول الإتحاد الأوروبي، حيث تخطط الولايات المتحدة لاستنزافه هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر ستدفع روسيا [القلقة من زيادة النفوذ الأمريكي والأوروبي، من داخل الناتو ومن خارجه] لضخ المزيد من الإنفاق العسكري على برامج التسلح، وبناء الجيوش، والبنى التحتية العسكرية، كل ذلك سيتم على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنمو الاقتصادي لروسيا ولدول القارة الأوروبية والاقتصادات الناشئة.
خامساً؛ التداعيات المحتملة على سوريا
تعد روسياً حليفاً استراتيجياً لسوريا في مواجهة الإرهاب، وقد ساندت سوريا كثيراً في المحافل الدولية (الأمم المتحدة، مجلس الأمن، مجلس حقوق الإنسان، منظمة حظر الأسلحة الكيماوية..)، وقدمت روسيا الكثير من المساعدات للشعب السوري، في عموم الجغرافيا السورية، وعليه فقد جاء الموقف السوري من الحرب، منسجماً مع طبيعة العلاقة الإستراتيجية، التي تربط البلدين، ومتفهماً لقلق روسيا المشروع، الناجم عن عملية تمدد حلف الناتو شرقاً، ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكية تطويق روسيا عن طريق الانتشار في الدول التي تنتمي للمجال الحيوي لروسيا.
أن تراجعاً روسياً انقلابياً ودراماتيكياً، لن يحصل وغير وارد على الإطلاق، لأنه سيضع القيادة الروسية، وعلى رأسها بوتين في مواجهة كبرى في الداخل، يدرك الرئيس الروسي بقوة مخاطرها على الدولة الروسية. كما أن التراجع الروسي سيشجع أمريكا لممارسة المزيد من الاستباحة للأمن القومي الروسي
ستتأثر سوريا، كما سيتأثر معظم دول العالم بمفاعيل هذه الحرب، جراء ارتفاع أسعار الطاقة (النفط والغاز)، والارتفاع المؤكد في تكاليف النقل والتأمين والشحن بكل أشكاله، فضلاً عن العقوبات، التي ستؤثر من دون شك على الاقتصاد الروسي، وعلى قدرة روسيا على تقديم المساعدة والدعم لسوريا، لطالما أصبح لديها (أي لروسيا) أولويات مختلفة، وأصبحت تخضع لعقوبات اقتصادية وغير اقتصادية مشددة، غير تقليدية، ما سيتسبب في ندرة نسبية في بعض المواد في السوق السورية، وارتفاع إضافي في المستوى العام للأسعار، جراء الارتفاع الكبير في الأسعار عالمياً، في تكاليف النقل والتأمين، وأسعار المشتقات النفطية وحوامل الطاقة والمواد الغذائية، ويبقى الأخطر، هو أن تتجه الولايات المتحدة نحو زيادة الضغط على روسيا، عن طريق تسخين الملف السوري عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وإعادة خلط الأوراق، وخلق خالة من الفوضى ونشر الإرهاب.
سادساً؛ السيناريوهات والاحتمالات
إن نتائج الميدان والوقائع العسكرية، والمعطيات السياسية والدبلوماسية، والأخطر من كل ما تقدم برودة الأعصاب الأمريكية، وقدرة الولايات المتحدة على خلط الأوراق، وتدوير الزوايا، وخلق التشابكات الهيكلية، والتناقضات الإستراتيجية، وأكثر من ذلك الرهانات الإستراتيجية الأمريكية، التي كنا قد أشرنا إليها في ما تقدم، كل ذلك يؤكد بأن الحرب ستستمر بمستويات مركبة، وبأدوات مختلفة لوقت طويل. لأن تراجعاً روسياً انقلابياً ودراماتيكياً، لن يحصل وغير وارد على الإطلاق، لأنه سيضع القيادة الروسية، وعلى رأسها بوتين في مواجهة كبرى في الداخل، يدرك الرئيس الروسي بقوة مخاطرها على الدولة الروسية. كما أن التراجع الروسي سيشجع أمريكا لممارسة المزيد من الاستباحة للأمن القومي الروسي. والولايات المتحدة بالمقابل، لن تتراجع، لطالما أنها استطاعت أن تنسج تحالفات وتفاهمات إستراتيجية غير مكلفة لها، لطالما أن أوروبا والصين، وكل القوى الأخرى في العالم هي التي ستمول وستدفع الثمن وتُستنزف، ما يشكل اللحظة/الفرصة التاريخية للولايات المتحدة، لإعادة تشكيل فائض القوة وتوزيع أوزانها وبالتالي إعادة تعريف الأدوار إقليمياً ودولياً، وهذا لا يرقى بكل الأحوال، لمرتبة تشكيل نظام عالمي جديد، كما يظن البعض أو يُقدّر، (وهو ما تحلم به جميع الدول الفقيرة)، لأن تشكيل نظام عالمي جديد، يتطلب بناء قيم ومرجعيات ومفاهيم، ومبادئ وبنى غير متوفرة حتى اللحظة الراهنة، ولا يوجد إرهاصات لذلك.
في كل الأحوال، قد لا يكون الحسم العسكري لروسيا يسيراً، وسيكون مكلفاً مادياً وبشرياً للطرفين (روسيا وأوكرانيا)، ولجميع الدول القريبة والبعيدة، ما قد ينتج في لحظة ما، رأياً دولياً عاماً ضاغطاً لإيقاف الحرب، وفتح ساحات البازار السياسي والاقتصادي، وهنا يمكن أن تتجه الولايات المتحدة، نحو التفكير ببناء توازن عسكري قلق، في وضع سلبي للطرفين، يترافق مع الاستمرار في تطبيق إستراتيجية عقوبات اقتصادية محكمة، إلى جانب توجه أمريكا نحو تفعيل حراك سياسي ودبلوماسي تعبوي نشط ومكثف، وفتح كوريدورات خلفية للحرب، وساحات أخرى لإنهاك الروس، وهو السيناريو الأقرب للاعتماد والتطبيق من قبل الإدارة الأمريكية (كما نقدر).
سابعاً؛ حربٌ مفتاحية
تُصنف الحرب الدائرة في أوكرانيا، كحربٍ مفتاحيه بالمعنى الإستراتيجي، إذ أنها تسببت في خلط الأوراق بطريقة شائكة ومعقدة، وجعلت المشهد مفتوحاً على احتمالات مختلفة، بطريقة قد تؤسس لخلق تمفصلات جديدة في بنية العلاقات الدولية، كما أنها ستنتج تحالفات بسيطة وأخرى مركبة، يشوبها الكثير من التناقض واللبس والهشاشة، وفرض حالة من التوتر وعدم الاستقرار المديد، وإعادة تعريف للوظائف الجيوسياسية والاقتصادية للأقاليم والدول. ما يعني أن نتائج الحرب ومنعكساتها، ستبقى تتراوح، بين مستوى العمل لإعادة توزيع فائض القوة، وتعريف الأدوار الإقليمية والدولية، وهو ما تعمل عليه وتسعى له الولايات المتحدة الأمريكية، وبين الرغبة القوية لدى جميع القوى المتضررة حول العالم، من العنجهية الأطلسية والنفوذ الأمريكي (تحديداً روسيا والصين، وحلفائهم حول العالم) لبناء نظامٍ عالمي جديد.