“مصر جديدة”.. وسياسة جديدة للمؤسسة العسكرية

لم تعد القاهرة مدينة. صارت مجموعة من المدن. مدن لا تتشابه إلا بالهوية الإنسانية. أبناء مصر الطيبون سواء علا كعبهم أم إستوى مع الأرض، كما هو حال معظم فقراء هذا البلد.

أن يزور المرء القاهرة بعد سنوات من الغياب، يستطيع أن يلمس الفرق بين ما هي عليه اليوم وما كانت عليه قبل بضعة سنوات. “العشوائيات” وهي المساكن الشعبية التي كانت مبنية على أراضي الدولة حلّت محلها أحياء محترمة للسكان الفقراء أنفسهم، كما بدأت تظهر شبكة من الطرقات السريعة والجسور الملفتة للنظر، ناهيك عن ورش بناء لا تنتهي في مختلف انحاء المدينة. كما يلفت نظر الزائر بروز الحضور الواضح للكنائس التي لم تكن تظهر على ما هي عليه اليوم مع الصلبان المضاءة ليلا في أعالي قبابها.

أمام هذا التغير في المشهد القاهري، يتساءل الزائر عن السر الكامن وراء كل هذه التطورات في البنى التحتية ليأتي الجواب عند العارفين بأمور المدينة وشجونها “إنه الجيش” الذي بالإمكان وصفه انه يمثل الدولة العميقة في مصر منذ منتصف القرن الماضي.

ان حضور الجيش في الحياة الاقتصادية المصرية لا يقل ابداً عن حضوره في الحياة السياسية العامة في البلاد، فمنذ ثورة الضباط الاحرار عام 1952 تولى السلطة ضباط من الجيش بدءاً بالجنرال محمد نجيب، اول رئيس بعد الإطاحة بالملك فاروق وتلاه البكباشي جمال عبد الناصر ثم الفريق محمد أنور السادات ومن بعده الفريق حسني مبارك. وهنا لا بد من التوقف قليلا لان مبارك كان اول رئيس يطاح به بثورة شعبية واسعة تركت مصر على مدى أكثر من عامين في حالة من عدم الاستقرار وانتجت وصول القيادي في حركة “الاخوان المسلمين” محمد مرسي كأول رئيس مدني للبلاد بالاقتراع الشعبي، وليصبح مرسي اخر رئيس مدني خلال نصف قرن ونيف بعد الإطاحة به بعد عام واحد من توليه السلطة عبر حركة شعبية ضخمة وتظاهرات مليونية انتهت بسجن مرسي ومجيء الفريق عبد الفتاح السيسي الى السلطة.

ولكل رئيس انتجته المؤسسة العسكرية دور مرسوم من هذه المؤسسة، بدءاً من حكم محمد نجيب الذي استمر عامين فقط وبالكاد يتذكره المصريون اليوم، إلى عبد الناصر الذي تمكن من استقطاب أوسع شريحة اجتماعية عبر برامجه للإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين وتأميم قناة السويس، ما اضفى مشروعية شعبية كبيرة على انقلاب الضباط الاحرار، وكان الدور الوطني المناط بالرئيس حينها هو مواجهة اثار الهزيمة العسكرية والنفسية التي مني بها العرب في حرب العام 1948 ومصر في مقدمتهم، لذلك لا يعود مستغربا التوجه السياسي المصري حينها نحو الفكر القومي الجامع الذي نادى به عبد الناصر من المحيط الى الخليج. وجاء العدوان الثلاثي والوحدة مع سوريا ليتوجا هذا التوجه الذي كان يخاطب مشاعر الجماهير العربية. غير ان هزيمة العام 1967 شكلت ضربة قاسية لهذه التجربة لا سيما بعد فشل الوحدة مع سوريا، فعادت مصر الى التقوقع في شأنها الوطني وفي مقدمته استعادة ارضها المحتلة في سيناء بدل المطالبة بكل الأراضي العربية المحتلة من فلسطين الى الجولان الى جنوب لبنان وتم ذلك عبر حرب أكتوبر عام 1973 التي انتهت الى مزيد من تقوقع مصر إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 التي زادت عزلة مصر وتقوقعها.

ان متابعة ما يفعله السيسي في مصر يدل على ان مصر تتجه الى تغيير استراتيجي كبير، فتجربة السنوات القليلة بين سقوط مبارك وسقوط مرسي أظهرت ان غياب الدور المصري في المنطقة وصل الى مرحلة من الخلل هزلت معه الأمور لدرجة ان امارة قطر باتت تتولى قيادة مصر في عهد مرسي

امام هذا الواقع قتل الرئيس أنور السادات على يد جنود في الجيش من حركة “الاخوان المسلمين” عام 1981 ليتولى السلطة بعده نائبه حسني مبارك لمدة قاربت الثلاثين عاما كان خلالها يعمل على انهاء دور “الاخوان المسلمين” واستعادة علاقة مصر مع العالم العربي لكن طول بقاءه في السلطة حوّل إدارة البلاد الى نوع من الركود السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وما حكم عليه بالسقوط فعليا، على الأقل لدى المؤسسة العسكرية، هو محاولته توريث السلطة لابنه جمال (وهو رجل اعمال وليس إبن المؤسسة العسكرية كوالده) ومعه فريق من رجال الاعمال المتغولين في امتلاك المقدرات الاقتصادية لمصر عبر عمليات خصخصة مغطاة من عائلة الرئيس مبارك شخصيا، فكانت محاولة التوريث تلك كأنها محاولة انقلاب ضد سلطة الجيش ودولته العميقة، فجاءت الانتفاضة الشعبية في 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 التي رفض الجيش التدخل لقمعها وترك مبارك ليصبح فريسة “الاخوان المسلمين”، الحزب الأقوى في مصر في ذلك الحين. سقط مبارك وادخل السجن وتولى بعده محمود مرسي رئاسة الجمهورية عبر انتخابات يحكى ان الجيش لعب دورا فيها لجهة إنجاح مرسي كي ينهي اسطورة “الاخوان” في مصر. وهذا ما حصل، فقد راكم “الاخوان” الكثير من الأخطاء في ادارتهم للبلاد وتغولهم في السلطة ومحاولة فرض الشريعة الإسلامية كنمط حياة في كل الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا سيما في قطاع السياحة الذي يشكل ما يقارب ال25 بالمئة من الدخل القومي المصري والذي كاد مرسي ان ينهيه بالقوانين الإسلامية التي حاول فرضها عليه. فجاءت الانتفاضة العارمة ضد مرسي في يونيو/حزيران عام 2013 التي شهدت فيها البلاد تظاهرات غير مسبوقة في تاريخ مصر. اطيح بمرسي وجاء بعده عبد الفتاح السيسي من صفوف الجيش الى سدة الرئاسة بانتخابات شعبية لم يكن باستطاعة أي مرشح ان ينافسه فيها طالما ان “حزبه” هو الحزب الأكبر في البلاد، و”حزبه” بطبيعة الحال هو الجيش الذي يملك معظم المقدرات الاقتصادية للبلاد من صناعة الحديد الى المزارع والخبز ومحطات الوقود وابار الغاز الى الكثير من المؤسسات الإنتاجية الضخمة.

إقرأ على موقع 180  مؤتمر الأستانة

ان متابعة ما يفعله السيسي في مصر يدل على ان مصر تتجه الى تغيير استراتيجي كبير، فتجربة السنوات القليلة بين سقوط مبارك وسقوط مرسي أظهرت ان غياب الدور المصري في المنطقة وصل الى مرحلة من الخلل هزلت معه الأمور لدرجة ان امارة قطر باتت تتولى قيادة مصر في عهد مرسي.

وفي ظل وجود ثلاث قوى إقليمية في الشرق الأوسط، هي ايران وتركيا و”إسرائيل”، وكي تحتل مصر موقعها بين هذه القوى العظمى تحتاج اول ما تحتاج الى بناء دولة قوية اقتصاديا وتتمتع بلحمة اجتماعية قوية، من هنا بدأ التوجه الى العمل على معالجة الشأن الاقتصادي أولا فكان قرار بناء “العاصمة الإدارية” التي تبعد عن القاهرة حوالي 65 كيلومترا وتضم عند الانتهاء من انجاز كل مشاريعها خلال العام الجاري او الذي يلي على ابعد حد كل المؤسسات الحكومية من وزارات ومحاكم وادارات عامة مما يخفف الضغط السكاني على القاهرة ويخفف من زحمة السير الخانقة التي تشهدها البلاد وسيكون هناك خط مترو معلق يصل القاهرتين ببعضهما البعض ناهيك عن شبكة الطرق السريعة والجسور التي انجز الجزء الأكبر منها. وفي موضوع إزالة “العشوائيات” بحسب أبناء القاهرة فقد خير سكانها بين امرين اما اخذ بدل مالي عن مسكنهم او اخذ سكن في مبان شعبية حديثة بنتها الدولة بطريقة إنسانية لائقة. وهذا ما حصل وما زال يحصل حتى اليوم. وعندما تسأل أبناء القاهرة عن مصدر تمويل كل هذه المشاريع التي تنفذ يأتيك الجواب واضحا من صندوق “تحيا مصر” بإدارة الجيش وبمساهمة من كبار المتمولين المصريين.. وما اكثرهم!

عند زيارة القاهرة اليوم يشعر الزائر وكأن مصر تسابق الزمن من اجل استعادة موقعها الإقليمي الذي كان لها قبل اكثر من خمسة عقود ومعركتها لاستعادة هذا الموقع تبدأ هذه المرة من الداخل المصري عبر اقتصاد قوي يتطلب إدارة حديثة لذلك كان التحول الرقمي في الإدارة العامة الذي حد كثيرا من الفساد الإداري الذي كان مستشريا بصورة مخيفة، وبحسب احد أصحاب المدارس الخاصة فقد جاءته مصلحة الضرائب وقالت له انه في السنوات الثماني الماضية لم يكن يدفع ما يتوجب عليه فعليا من ضرائب وفق ما تظهره الأرقام في حواسيبها وعرضت ان تسامحه عن مخالفات السنوات الخمس الأولى والاكتفاء بدفع السنوات الثلاث الأخيرة والا يذهب الى السجن ومثله مع الكثير من أصحاب الاعمال الصغيرة والكبيرة، وهذا ما رفع من واردات الدولة بشكل كبير.

هذه الفورة الإقتصادية التي يسميها البعض “فقاعة”، لا تنفي وجود مخاطر مترتبة بشكل أساسي عن الديون المصرية بالمقارنة مع العوائد المحتملة البعيدة الأجل، فضلا عن المبالغة في الإنفاق على التسليح الخارجي، وهو الأمر الذي إستوجب إجراءات داخلية من جهة والإستعانة بدول الخليج (الإمارات ثم السعودية) من جهة ثانية، تحصيناً لإحتياطي العملات الصعبة في البنك المركزي المصري.

12 مليون مسيحي

يقول أستاذ جامعي مصري إن ظاهرة ازدياد المعالم الكنسية في القاهرة هدفها طمأنة المسيحيين في البلاد، الذين يفوق عددهم 12 مليون نسمة (سكان مصر حوالي 110 مليون) من اجل تعزيز الوحدة الوطنية التي بدورها تعزز الاطمئنان للاستثمار في البلاد من كل شرائح المجتمع.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  السعودية تبتعد عن أميركا.. وبيرنز يحتج على إطلاق سراح معتقلي "حماس"!