لم يمر تصريح نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي عن افلاس الدولة ومصرف لبنان مرور الكرام. ولم تنفع توضيحاته لتصريحه المزعوم العفوية، كما لم يفلح موقف رئيس الحكومة الموارب في توضيح تصريحات نائبه غير المفوّه.
تملك الدولة استثمارات ممكنة حتى 100 مليار دولار في مضاعفات الاستثمار المجدي. ويشمل ذلك عقارات مساحتها تتجاوز المليار متر مربع وأصولاً ومؤسسات ومرافق وقطاعات عامة كثيرة، فضلاً عن ذهب بنحو 20 مليار دولار. والأهم من ذلك أنها تملك “القلم”. قلم التوقيع على طرح مزادات وتراخيص وامتيازات تدر عشرات المليارات من الدولارات في قطاعات النفط والغاز والكهرباء والماء والاتصالات والمرافق السياحية والمناطق الصناعية وغيرها من القطاعات الخدمية والانتاجية.. إذا أرادت الدولة ذلك وأدارته بحوكمة رشيدة وشفافية مطلقة.
أين المشكلة إذاً؟
المشكلة في كيفية إدارة هذه الدولة التي يريدون لها ان تفلس كلٌ حسب غايته من الافلاس!
ففي وزارة المالية ثقب أسود اسمه عجز الموازنة. عجز تاريخي متراكم ومتفاقم أوصل البلاد الى حافة الهاوية، وكان فتيلاً أساسياً من فتائل الانفجار أو الانهيار المالي والمصرفي الأخطر في التاريخ الحديث. وزارة عاجزة، عن سابق اصرار وتصميم، عن استيفاء كل ما للدولة من ضرائب ورسوم حتى تحوّل التهرب الضريبي والجمركي الى قاعدة، والاستثناء هو جباية ما تيسر من الفقراء قبل الأغنياء وبنسبة 75% مقابل 25% في المتوسط العام خلال 3 عقود من الزمن. فتبوأ لبنان، بفضل إدارة تلك الوزارة العقيمة، موقعاً غير مشرف بين أسوأ 20 دولة في العالم من حيث سوء توزيع الثروة وقبح تركزها بيد قلة قليلة من أثرياء وسياسيين وعائلات اقطاعية وتجار محتكرين ومصرفيين جشعين، ومن لفّ لفهم من النافذين والطفيليين المتكئين على مغانم وحصص منظومة الفساد.
في ادارة الاملاك العامة ثقب أسود سياسي مافيوي يغطي تعديات على الاملاك البحرية وغير البحرية. فالبحرية منها، على سبيل المثال، مساحتها نحو 5 ملايين متر مربع، تشغلها أكثر من ألف مؤسسة معظمها غير مرخصة أو مخالفة بالتعدي السافر، ولا تساوي الرسوم المجباة منها 1% قياساً باستثمارات مماثلة على شواطئ اقليمية أو دولية مدارة بفاعلية جباية قصوى.
ادارة هؤلاء للبلاد باتت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: خصخصة الأرباح وتأميم الخسائر. لا يُفرّطون بأي مكسب من مكاسبهم ويسعون للمزيد، أما الخسائر فيدفعها المجتمع من ودائعه المتبخرة وقدرته الشرائية المتهاودة في نظام كليبتوقراطي (حكم الفاسدين) بنكوقراطي (حكم المصرفيين) اوليغارشي (حكم القلة النافذة)
في مصرف لبنان ثقب أسود إلتهم أو شفط 86 مليار دولار من المصارف بالترغيب والترهيب، وتنكر لها. فاذا بها تتنكر للمودعين في أكبر عملية “بونزي” احتيالية تاريخية، وفق توصيف رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والصحافة الدولية المتخصصة.
في وزارة الكهرباء ثقب أسود ابتلع عشرات المليارات وصولاً إلى الظلام الدامس (24/24). ثقب أسود تستغله مافيات المحروقات والمولدات المحمية من سياسيين وميليشيات وقوى أمر واقع تحت شعار تأمين البديل المؤقت للناس، فاذا بالمؤقت دائم بفعل فاعل منذ زمن الحرب الأهلية الى يومنا هذا.
في وزارة الاتصالات ثقب أسود أوصل القطاع الى شبه الافلاس، بعدما كان يدر أكثر من مليار دولار على الخزينة العامة سنوياً. فاذا به مهدد بالتوقف لمجرد غلاء المازوت لزوم تشغيل المحطات. قطاع متخم بالتوظيف الحزبي والطائفي، ومترع بالمحسوبيات والزبائنية شأنه في هذا البلاء التحاصصي والحشو الوظيفي شأن معظم قطاعات الدولة.
في مرفأ بيروت ثقب أسود تمخض عنه أحد أكبر الانفجارات في العالم. ولجنة مؤقتة تديره منذ 32 سنة، فتحول المؤقت الى دائم راسخ بفعل التوزيع الطائفي لادارات المرافق العامة، على أساس أن المطار لطائفة والمرفأ لأخرى (إلخ) في تقاسم للمغانم المذهبية أولاً وأخيراً، ولا عزاء لزيادة الايرادات العامة.
في قطاع المياه ثقب أسود هو الأخطر على صعيد المنطقة. فلبنان الأغنى اقليمياً بمياهه وبما لا يقاس، يشتري أهله مياه الشرب والإستخدام خلال معظم أشهر السنة (حتى في فصل الشتاء في العاصمة مثلاً)، بينما تهدر مياهنا إما بواسطة الآبار الارتوازية الخاصة أو الينابيع التي تشفط مياهها شفطاً استنزافياً على هوى “متسلبطين” أو حماتهم من زبانية السلطة والمحتمين بزعمائها لنهب خيرات عامة لحسابات خاصة.. أو تتحول أنهارنا إلى مجاري للصرف الصحي، كما هو الحال في الليطاني والقرعون، أو تهدر في البحر إذا بقي منها شيء.
في التعليم ثقب أسود جعل التعليم الرسمي في أدنى الدرك، ودمّر الجامعة اللبنانية المدارة طائفياً لا أكاديمياً، فوصلت الى حضيض تضييع العام الدراسي على ابناء الفقراء من دون أن يرف جفن لادارتها وعمدائها وموظفيها المحميين ممن وظفهم وفق التوزيع الطائفي والمذهبي. بينما الجامعات الخاصة تتدبر أمرها بـ”الفرش” دولار من جيوب الميسورين الحريصين على تعليم ابنائهم، وعلى قاعدة أن من رخص لتلك الجامعات حسب المناطق والطوائف يقاسمها النقود أو النفوذ او يتبادل معها منافع أخرى. أما وظيفة الصَهر الوطني فليست على جدول أعمال أحد، في زمن الزبائنية والإستزلام.
في الصحة العامة ثقب أسود يقبع في ظلماته أكثر من نصف السكان بلا أي تغطية صحية. وتترعرع فيه مافيات دواء ومستشفيات خاصة تبتز الدولة برضى حكامها ومشاركتهم في العمولات أو الخدمات، تاركين المواطنين الفقراء رهائن السياسيين اذا ارادوا استشفاء على حساب وزارة الصحة التي تحولت الى وكر جذب للأصوات الانتخابية، ناهيك عن مستشفيات ومستوصفات حكومية رُصدت لها مليارات الدولارات قبل أن تصبح أسيرة التوظيف السياسي والحزبي والطائفي ومعظمها تفتقد لمجالس إدارات وصارت مهددة بالإقفال.
في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ثقب أسود تبخرت فيه 7 مليارات من الدولارات من أموال تعويضات نهاية الخدمة وصناديق أخرى، والنتيجة أن الضمان لا يغطي الآن 10 الى 20% من فاتورة استشفاء المضمونين ونهاية خدمتهم. فتحول هؤلاء الى متسولين على قارعة اشاوس النظام وجلاوزة المنظومة.
في النقل العام ثقب أسود تملأه مافيات تمنع قيام نقل مشترك لائق لمحدودي الدخل تاركة اياهم نهباً لأسعار السيارات وصيانتها، وكلفة المحروقات التي ارتفعت 1700% في أقل من سنتين.
في الاسكان ثقب أسود استفاد من قروضه المدعومة الأثرياء أكثر من الفقراء. مصّوا القروض مصاً حتى توقف “النظام” بالسكتة القلبية منذ ما قبل اندلاع الأزمة المالية في خريف 2019.
في وزارة الاقتصاد ثقب أسود تسرح فيه وتمرح الاحتكارات والمافيات في ظل التواطؤات من هنا وانعدام الرقابة الفاعلة من هناك، ولا عزاء للمستهلك الرازح تحت وطأة تضخم زاد على 800% في أقل من 3 سنوات، وحبل الغلاء على جرار الازمة الممتدة فصولاً. تضخم مبرر في جزء منه بتراجع سعر الصرف. وفي جزء آخر مفتعل بعشوائيات التسعير ومافيات التخزين وجشع تجار نهمين لا يقيمون اي اعتبار لوزارة الاقتصاد لأسباب يعرفها المعنيون قبل غيرهم.
في التعليم ثقب أسود جعل التعليم الرسمي في أدنى الدرك، ودمّر الجامعة اللبنانية المدارة طائفياً لا أكاديمياً، فوصلت الى حضيض تضييع العام الدراسي على ابناء الفقراء من دون أن يرف جفن لادارتها وعمدائها وموظفيها المحميين ممن وظفهم وفق التوزيع الطائفي والمذهبي. بينما الجامعات الخاصة تتدبر أمرها بـ”الفرش” دولار من جيوب الميسورين
في قطاع النفط ثقب أسود يتظلل بظلامه تجار المحروقات بحمايات سياسية لا بل بمشاركة بعضهم علناً في عدد من شركاته على حساب عموم المواطنين. نفوذ هؤلاء جعلهم محظيين إلى اليوم لدى مصرف لبنان بالحصول منه على 80% من حاجتهم للدولار لاستيراد البنزين برغم شح العملات الصعبة.
في قطاع الأسمنت ثقب أسود تملأه مساهمات لسياسيين ونافذين يفرضون أجنداتهم البيئية والتسعيرية والاحتكارية على الدولة والمواطنين على السواء.
ما سبق غيض من فيض الافلاس الاخلاقي الحقيقي لهذه المنظومة. والأنكى ان احزابها، على تناقضات بعضها مع البعض الآخر، لا تتورع عن التحالف انتخابياً للعودة مجدداً الى الحكم وترسيخ تقاسم تلك الادارات والوزارات التي اخترعوا لها اسماء سيادية وميثاقية وخدماتية وخلافه من المسميات لزوم الحصص على أسس الأحجام والنفوذ والتوازي في صيغ المحاصصة وأشكالها.
ادارة هؤلاء للبلاد باتت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: خصخصة الأرباح وتأميم الخسائر. لا يُفرّطون بأي مكسب من مكاسبهم ويسعون للمزيد، أما الخسائر فيدفعها المجتمع من ودائعه المتبخرة وقدرته الشرائية المتهاودة في نظام كليبتوقراطي (حكم الفاسدين) بنكوقراطي (حكم المصرفيين) اوليغارشي (حكم القلة النافذة) قل نظيره في العالم، الا في مجاهل افريقيا التي يعبث فيها دكتاتوريون من القرون الوسطى. اذا كان هذا حالنا والناخبون راضون فعليهم ان يعلموا ان العصور الوسطى استمرت من القرن الخامس الى القرن الخامس عشر. وما مائة سنة من عمر هذا الكيان الهش الهجين الا بداية عصور ظلام طويلة قادمة لا محالة.