هل تنسحب أميركا من الشرق الأوسط؟

تدور تساؤلات حول احتمال الانسحاب الأميركي، ولو الجزئي، من التزامات واشنطن العسكرية (المبالغ فيها أحياناً) في منطقة الشرق الأوسط، على وقع الحرب الدائرة في أوكرانيا والعديد من المستجدات الدولية.

أول هذه التساؤلات ينطلق من مدى حاجة وضرورة وأهمية نفط الخليج بالنسبة للولايات المتحدة، ومن خلاله كيفية إحكام سيطرتها على المنطقة من خلال جملة إجراءات في طليعتها التواجد العسكري. ومن أولويات الولايات المتحدة الأميركية حماية إسرائيل بوصفها أحد أبرز قواعد نفوذها الإقليمي، فضلاً عما تدرجه كل من واشنطن وتل ابيب تحت عنوان “الملف الإيراني” (نووي ونفوذ). يُضاف إلى ذلك سؤال الوضع المالي والاقتصادي للولايات المتحدة في مرحلة ما بعد إنتشار جائحة كورونا. زدْ إليه ما إستجلبته الحرب الأوكرانية من أزمات على قطاعات الطاقة والغذاء والاقتصاد في العالم عموماً، فضلاً عن إرتفاع أرقام الدين الأميركي العام، بالإضافة إلى الموقف الصيني الرمادي من الحرب الأوكرانية.

ومن نافل القول أن واشنطن تعلم علم اليقين أن “حربها الكبرى” ـ برغم أنها مؤجلة حالياً وحتى إشعار آخر ـ إذا وقعت، لن تكون مع روسيا دفاعاً عن أوكرانيا أو أوروبا، بل في مواجهة الصين، الندّ الإقتصادي الحقيقي.

ارتفعت وتيرة هذه التساؤلات منذ إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن توجه واشنطن لسحب قواتها المسلحة من أفغانستان (في نيسان/أبريل 2001)، وهو الانسحاب الذي أنجز بطريقة مُذلّة عبر الشاشات في آخر يوم من آب/أغسطس 2021، بعد أكثر من عقدين على “إقامة عسكرية غير مُجدية”.

ماذا عن نفط دول الخليج؟

ثمة إعتقاد سائد أنه يأتي في درجة متقدّمة على سلّم الأولويات الأميركية في المنطقة، وهذا ينبغي أن يدفع واشنطن إلى سحب مسألة الخروج من المنطقة، من أجندتها، سواء من اجل أن تضمن إستمرار هيمنتها على هذه الثروة الاستراتيجية، أو في سبيل مواصلة بذل الحماية الكافية لقاعدتها الأساسية في المنطقة المتمثلة بالكيان الإسرائيلي. إلا أن هذا الاعتقاد يحتاج إلى شيء من التمحيص لتشخيص ماهية وحقيقة المصالح التى تجعل من هذا الوجود العسكرى ضرورة أميركية وما هي حقيقة أهمية نفط الخليج لضمان أمن الطاقة فى الولايات المتحدة؟

لعل مواجهة هذه التساؤلات تتطلّب النظر في الأمر على مستويين: مستوى الحاجة الأميركية الفعلية لهذه الطاقة، ومدى حاجة الكيان الإسرائيلي للوجود العسكري الأميركي المباشر ضماناً لأمنه، في ظل التنامي الواضح للقوة الإيرانية وأذرعتها.

على مستوى الحاجة الأميركية الفعلية للطاقة من الخليج، تنبغي الإشارة أساساً إلى ما أنجزته الولايات المتحدة بفعل ما بات معروفاً بـ”ثورة” النفط الصخري. هذا الفتح  كسر احتكار دول أوبك حق تحديد أسعار وكميات النفط المتاحة في الأسواق العالمية، وأتاح للولايات المتحدة أن تتقدم في مجال الإنتاج على كلٍ من السعودية وروسيا، وأن تصبح أكبر منتج للنفط في العالم. وبهذا انخفضت أسعار النفط لتصل إلى نصف مستواها خلال العقد الماضي.

التواجد العسكري حماية للكيان هو ضرورة أميركية ــ إسرائيلية من شأنها أن تدفع واشنطن إلى الإبقاء على قواها العسكرية في الإقليم

لكن من الخطأ الاعتماد على هذا المُعطى للاستنتاج بأن كميات النفط القادمة من الشرق الأوسط، لم تعد حيوية بالنسبة للأميركيين، كما كانت غالباً في السابق وقبل تدشين عهد النفط الصخري. فالحرب الأوكرانية عطّشت الأسواق العالمية، ومعها الأميركية، للطاقة. ثم إن الولايات المتحدة ما تزال، وعلى الرغم من كل ما تستخلصه من النفط الصخري، ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم. وهذا يشير إلى تضخم حاجتها وازديادها، وبالتالي فليس صحيحاً القول إنها باتت بغنى تام عن بترول الشرق الأوسط، وأنه بات بإمكانها التخلّي عنه. معنى ذلك أن واشنطن ليست في وارد الانسحاب من المنطقة نتيجة لهذا المعطى.

يأتي سبب آخر مفترض ربما يضطر واشنطن إلى المحافظة على تواجدها العسكري في المنطقة، وهو الحفاظ على أمن الكيان الإسرائيلي. يمكن القول في هذا الصدد إن الكيان تمكن على مدار عقود سبقت من بناء قوة عسكرية وخبرات ميدانية لا يُستهان بها، كما نجح بمساعدة واشنطن في بناء آلة عسكرية متقدّمة وفعالة يستطيع من خلالها مواجهة مخاطر الحروب التي ينوي شنّها، من دون الحاجة اللازمة إلى الدعم الأميركي المباشر. هذا هو الشائع وما يجري تسويقه. إلا أن هذه الصورة التي ربما كانت قائمة منذ عقود، لكنها اهتزت وضمرت في ظلّ ما تعرّض له الكيان عام 2006 في حرب لبنان الثانية، فضلاً عن تطور حيثية المقاومة الفلسطينية في غزة. والمعنى هنا أيضاً ان التواجد العسكري حماية للكيان هو ضرورة أميركية ــ إسرائيلية من شأنها أن تدفع واشنطن إلى الإبقاء على قواها العسكرية في الشرق الأوسط.

ثم هناك إيران، “بُعبع” الكيان وصُداع الولايات المتحدة.. مع ما تشكله من خطر قائم على اطماع الكيان المحتل، بالنظر إلى قوتها العسكرية وكفاءة أذرعتها في المنطقة، فضلاً عن التقدم الباهر الذي حققته في ميدان العلوم النووية تحديداً، وصولاً إلى ملفّها النووي الذي ما انفك يشغل واشنطن ومعظم الغرب بذريعة اتهامها بخوض سباق التسلح النووي، على الرغم من النفي الإيراني لأي نوايا من هذا القبيل. وهذا الوضع من شأنه أيضاً جعل واشنطن معنية بعدم الإنسحاب عسكرياً من المنطقة.

السبب المالي ليس كافياً لدفع واشنطن إلى التفكير جدّياً بالانسحاب من الشرق الأوسط

ماذا عن الوضع الإقتصادي والمالي الأميركي؟

إقرأ على موقع 180  بايدن الفلسطيني.. فيه شيء من ترامب؟

تتوجب  الإشارة إلى حقيقة تتصل بجائحة كورونا، التي لم تمر بسلام على اقتصاد الداخل الأميركي، كما على كل الإقتصاد العالمي. فقد اضطرت الولايات المتحدة إلى رصد مبالغ هائلة على جبهات التصدي للمرض وإسعاف المواطن الأميركي في جميع أنحاء البلاد بما يقيه شرّ العوز، أو حتى الخروج من منزله وإمكانية التعرّض للإصابة.. وبعد الكورونا جاءت الأزمة الغذائية والنفطية والاقتصادية التي اجتاحت العالم والولايات المتحدة بالطبع، بفعل حرب أوكرانيا، وما رافقها من تضخّم وكساد عام حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها.. ما تسبب بارتفاع رقم الدين الأميركي إلى حدود غير مسبوقة (حوالى 27 تريليون دولار). هذا الرقم، وبرغم ضخامته، لا يشكّل خطراً على اقتصاد بحجم الاقتصاد الأميركي، في حين أن الأموال التي يجري إنفاقها على تواجد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وإن كانت أموالاً طائلة، إلا أنه ليس من المتعسّر على الاقتصاد الأميركي تحملها. وما ناله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من العرش السعودي أمام كاميرات الإعلام، يُعطي فكرة عمّا يمكن أن يكون. والمعنى أن السبب المالي ليس كافياً لدفع واشنطن إلى التفكير جدّياً بالانسحاب من الشرق الأوسط.

وطالما أن واشنطن وضعت بشكل مُسبق، حدوداً مأمونة للدور الذي تؤديه بصدد الحرب الدائرة في أوكرانيا، فقصرته على المال والعتاد والكلام، فهذا لا يشكل كلفة عالية من شأنها هزّ الاقتصاد الأميركي.

ثم إنه لا ينبغي تجاهل أن كلاً من روسيا والصين هما باستمرار “على أتم الاستعداد” لسدّ أي فراغ أميركي في الشرق الأوسط، وبالتالي فأي انسحاب عسكري أميركي من المنطقة سيجد على الفور من يسّده من ذوي العيون الموروبة أو من أصحاب الوجوه الناصعة البياض. ثم إن روسيا متواجدة أساساً ولها قواعدها الثابتة (في سوريا)، كما أن للصين مقدرة معروفة على استجلاب دول المنطقة بأدواتها المالية والتجارية، وعبر فوائضها النقدية، وهي أثبتت قدرتها على ذلك وسط جائحة كورونا، واظهرت موهبة في إقامة التواصل مع دول المنطقة وشعوبها، ودعمهم ماليا وطبيا، من دون إثارة أي حساسيات.

هذا بالإضافة إلى أن واشنطن في حال الانسحاب، لن تكون عودتها متيسرة بسهولة حين تستدعي الحاجة إلى مثل تلك العودة. لذلك، يمكن القول إن أميركا باقية في منطقتنا حتى إشعار آخر.

Print Friendly, PDF & Email
محمود محمد بري

كاتب لبناني

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "الغارديان": سقوط البشير يؤسس للإنقلابات في السودان!