الاستقطاب السياسي والإيديولوجي أمر حتمي في أي بلد، إلا أن حالة الانقسامات باتت جد واضحة في تركيا خلال السنوات الأخيرة. ليس السياسيون والأحزاب وحدهم، بالواقع، من ينقسمون بشكل حاد على أسس أيديولوجية وسياسية، ولكن أيضاً المجتمع التركي. عندما يتعلق الأمر بأفكار الشعب التركي حول قضايا معينة، سواء أكانت محلية أو أجنبية، فليس من الصعب التنبؤ بآرائهم بناءً على انتماءاتهم السياسية وتفضيلاتهم الدينية والأيديولوجية.
البرامج الانتخابية لشغل السدّة الرئاسية تشي ببُعد فكري وإيديولوجي يُهدّد دور تركيا وهويتها بشكل كامل. المرشح الأبرز، الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان، لم يقدّم في برنامجه الانتخابي تصوره للنظام السياسي الجديد الذي يُفضّله، وذلك لأن النظام الرئاسي الحالي كان قد أقره سابقاً، وهو يحكم الآن في ظله.
في المقابل، يتقدّم مرشح المعارضة الأبرز، كمال كيليتشدار أوغلو، إلى الانتخابات الرئاسة ببرنامج واضح، وفي رأس أولوياته “تغيير نظام الحكم في تركيا إلى نظام برلماني”، وهو ما يوافقه عليه مرشح رئاسي آخر هو سنان أوغان الذي أعلن عن نيته “إلغاء النظام الرئاسي الحالي والعودة إلى النظام البرلماني السابق”. أما المرشح الرابع، محرم إنجه، فرأيه ملتبس حتى الآن في شأن النظام السياسي الذي يُفضّله.
يختلف المرشحون الأربعة حول الكثير من القضايا الأخرى، وخاصة حول موضوع اللاجئين، وإدارة الشأن الاقتصادي والعلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي. إلا أن الخلاف الجوهري فيما بينهم هو حول هوية النظام السياسي الأنسب، ودور الدولة، وهويتها الدينية أم العلمانية، كما علاقاتها بمحيطها وسياستها الخارجية.
الانتخابات الرئاسية المقبلة هي بين فكرين وإيديولوجيتين أكثر مما هي بين شخصين. هي، بالواقع، بين إردوغان و”أتاتورك” أكثر مما هي بين الأول وكيليتشدار أوغلو. إن ترشيح هذا الأخير، ما هو إلا محاولة لإعادة “الأصل إلى أصله”، ومحاولة أخيرة لإنقاذ “تركيا الأتاتوركية” من التغييرات الجمّة التي أحدثها حكم إردوغان طوال السنوات العشرين الماضية
ففي برنامجه السياسي، يرى إردوغان أن تحسين الحالة الاقتصادية يكون عبر “التحوّل إلى اقتصاد أكثر حرية وانتاجاً، وتنفيذ مشاريع ضخمة ذات طابع تجاري وانتاجي وسياحي.. كما التركيز على الصناعات الدفاعية والعسكرية”. إضافة إلى ذلك، يرى أنه من الأولويات المحافظة على شكل النظام السياسي كما هو، والإبقاء على هوية تركيا مدنية تمزج بين الأفكار العلمانية غير الحادة وبين أهمية البُعد الديني والقيمي في حياة الأفراد والجماعات. عملياً، يمكن القول إن برنامج إردوغان الانتخابي هو دعوة لإبقاء الأمور على حالها، والمحافظة على الوضع القائم الذي صاغه على مدى سنوات مسيرته السياسية التي انقلب فيها على ما آمن به مصطفى كمال “أتاتورك” وأرساه في تركيا منذ العام 1923.
من ناحية أخرى، لرئيس حزب “الشعب الجمهوري” ومرشح المعارضة الأساسي كمال كيليتشدار أوغلو آراء مختلفة حد التناقض مع رئيس البلاد. فبالإضافة إلى أنه يرى ضرورة لإعادة النظام السياسي إلى ما كان عليه في الماضي (برلماني)، يرى أن تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي أمر يحمل طابع الأولوية، كما أنه يجب “تدعيم العلمانية داخل الدولة والمجتمع”. فكيليتشدار أوغلو علماني “أتاتوركي” يرى أن التغييرات التي أرساها إردوغان تتناقض مع فِكر باني الجمهورية، وبالتالي يجب إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، أي تعزيز دور الدولة في الشأن الاقتصادي، وتطبيق العلمانية بشكل شامل أكان في الدولة أم في المجتمع، والتوجه غرباً دون الاكتراث بما يحصل في الشرق.
الانتخابات الرئاسية المقبلة هي بين فكرين وإيديولوجيتين أكثر مما هي بين شخصين. هي، بالواقع، بين إردوغان و”أتاتورك” أكثر مما هي بين الأول وكيليتشدار أوغلو. إن ترشيح هذا الأخير، وهو الذي جمع حوله كل الأحزاب والشخصيات الناقمة على هوية الدولة الجديدة ونظامها الرئاسي واقتصادها المنفتح، ما هو إلا محاولة لإعادة “الأصل إلى أصله”، ومحاولة أخيرة لإنقاذ “تركيا الأتاتوركية” من التغييرات الجمّة التي أحدثها حكم إردوغان طوال السنوات العشرين الماضية.
في المقابل، يسعى إردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) إلى إبقاء الأمور على حالها، واستكمال الانقلاب البطيء، على “الأتاتوركية” بما تمثله من تدخل واسع للدولة في الحياة الاقتصادية؛ من تجسيد للنظام البرلماني؛ من إنشداد للتوجه نحو الغرب، ومن إبعاد للشأن الديني بشكل كامل عن الشأن العام.
ضمن هذا الخط الفاصل بين هذين الفكرين تدور الانتخابات الرئاسية والنيابية في تركيا، وهي انتخابات ستقرر مصير تركيا لسنوات خمس إضافية فتؤكد على فوز “الإردوغانية” على “الأتاتوركية” لمرة واحدة وأخيرة، أو تعيد لـ”الأتاتوركية” بعض بريقها الباهت في الوقت الحالي.
حالات الاستقطاب السياسية والإيديولوجية في البلاد تمتد لتشمل الأفراد والنقابات والجمعيات والمؤسسات والفئات الإجتماعية. ليست الانتخابات في تركيا، اليوم، بين إصلاحي وفاسد، ولا هي بين مرشح غني وآخر فقير، ولا بين إبن مدينة وإبن ريف، إنما هي بين علماني وإسلامي، “أتاتوركي” و”إردوغاني”، كما بين طرف يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وطرف آخر يريد المحافظة على ما بناه وعلى هوية الدولة الحالية ونظامها السياسي.
وتجدر الإشارة إلى أن حظوظ المرشحين الرئاسيين سنان أوغان ومحرم إنجه هي صعبة جداً في إحداث أي فرق في الانتخابات. فيما تبقى المعركة الرئاسية الأساسية بين إردوغان المدعوم من حزب “العدالة والتنمية” الذي يرأسه وحزب “الحركة القومية” من جهة، وبين كيليتشدار أوغلو المدعوم من حزب “الشعب الجمهوري” العلماني وخمسة أحزاب معارِضة أخرى من جهة ثانية. فيما على الفائز الحصول على أكثر من 50 بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وإلا تلاقى المرشح الأول والثاني في جولة انتخابية ثانية تحسم هوية الفائز الذي يحصل على أصوات أكثر، وهو الأمر المرجح حصوله في 14 أيار/مايو المقبل.
يذكر أن اللجنة العليا للانتخابات التركية أعلنت أن عدد من يحق لهم الانتخاب في الاستحقاق الرئاسي والبرلماني، يبلغ 64 مليونا و113 ألفا و941 ناخبا، بينهم حوالي خمسة ملايين يحق لهم للمرة الأولى المشاركة في الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية.