بدت المسألة أبعد من أوكرانيا. هي بدأت في الولايات المتحدة ويُفترض أن تنتهي هناك. صحيح أن قرار الحرب إتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعدما سَدّت واشنطن في وجهه كل السبل للحصول على ضمانات أمنية في أوروبا الشرقية وفي أوكرانيا تحديداً، بيد أن وقف الحرب يتوقف على واشنطن وليس على كييف.
وحتى الآن، لا توحي مواقف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بأنها تميل إلى وقف الحرب في وقت قريب. بايدن تحدث قبل يومين عن حرب قد تمتد لسنوات. بالنسبة لأميركا، بات وقف الحرب مرهوناً بتدمير الإقتصاد الروسي مع نية مضمرة بتغيير النظام. لا يمكن أن تطلق أميركا صفارة النهاية للحرب طالما لا تلوح في الأفق “هزيمة إستراتيجية” لروسيا تحدثت عنها نائبة وزير الخارجية الاميركي فيكتوريا نولاند. أما إستعادة الروبل القيمة التي كان عليها في مقابل الدولار قبل الحرب الأوكرانية، فليس نبأ ساراً بالنسبة إلى البيت الأبيض، ويعني أن مفعول العقوبات الغربية الساحقة لم يبدأ بعد.
بعد جولة إسطنبول، شعرت واشنطن أن فولوديمير زيلينسكي (وربما بتشجيع ضمني من فرنسا وألمانيا) ذهب بعيداً في التنازلات لوقف الحرب ضد بلاده، فكان لا بد من إعادته إلى قواعد اللعبة الأميركية و”تصحيح” المسار. فإذا به بعد مجريات مدينة بوتشا يجاهر بطموحه جعل أوكرانيا “إسرائيل كبيرة” في أوروبا، ويحمل على زعماء الإتحاد الأوروبي لأنه يعتبرهم “مترددين”، في مواجهة روسيا، ويوبخهم على “تفضيل مصالحهم الإقتصادية على الدم المراق في بوتشا”. ولا ينسى دوماً التذكير بـ”شجاعة” رئيس الوزراء البولندي ماتيوس موارفيتسكي.
لوهلة، يبدو أن بوتشا كانت ضرورية لمحو “إيجابية” إسطنبول وإطلاق المرحلة الثانية من مسيرة خنق روسيا وعزلها ديبلوماسياً وإقتصادياً – من كان يتذكر إبنتي بوتين وسيرغي لافروف لولا العقوبات الأميركية والبريطانية التي فرضت عليهن قبل أيام؟
وبرغم رمزية تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، هي رسالة ذات مغزى أرادت أميركا توجيهها إلى الكرملين. إذ أنها المرة الثانية التي يتخذ فيها مثل هذا الإجراء في تاريخ المنظمة الدولية. المرة الأولى كانت ضد ليبيا بعد إندلاع الإنتفاضة على معمر القذافي عام 2011.
المسار الأميركي يمكن أن يستمر، إلا إذا تمكن الجيش الروسي من إستعادة زمام المبادرة عسكرياً على الأقل في الشرق الأوكراني والسيطرة على الدونباس وفتح ممر بري مع شبه جزيرة القرم. عندها يمكن لبوتين أن يوقف الحرب بإعلان تحقيق هدف رئيسي من أهداف “العملية العسكرية الخاصة”، ألا وهو حماية السكان الروس في دونيتسك ولوغانسك
وماذا يعني طرد الدول الأوروبية مئات الديبلوماسيين في غضون ساعات، وتحويل روسيا إلى دولة منبوذة في العالم الغربي، ومحاولة إحراج الدول التي لا تزال تقف في المنطقة الرمادية، ولا سيما الصين والهند؟
تُضاعف الولايات المتحدة ضغطها العسكري غير المباشر على روسيا، ربما حتى آخر أوكراني. وفي هذا السياق، يُعيد الكونغرس الأميركي الحياة إلى قانون “الإعارة والتأجير” الذي سنّه إبان الحرب العالمية الثانية لمساعدة بريطانيا والإتحاد السوفياتي على الوقوف في وجه ألمانيا النازية، ويعد البنتاغون بتزويد كييف بأحدث المُسيرات الأميركية من طراز “سويتش بلايد”، ووزير الخارجية انطوني بلينكن يقول إن بلاده ستغرق أوكرانيا بصواريخ “جافلين” المضادة للدروع، لتبلغ نسبتها عشرة أضعاف ما يوجد من دبابات روسية في أوكرانيا، هذا ناهيك عن تزويد الجيش الأوكراني بالمزيد من المعلومات الإستخباراتية لمواجهة الجيش الروسي في الشرق الأوكراني، مما يلقي الضوء على السهولة التي تم فيها إصطياد ما يصل إلى سبعة جنرالات روس في وقت قياسي من زمن الحرب. وتلوّح اميركا أيضاً بإحتمال قبول عضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي. وأثمر الضغط الأميركي على سلوفاكيا تبرع بريتسلافا لكييف، بما تملكه من بطاريات صواريخ أرض-جو “إس-300” مقابل الحصول على صواريخ “باتريوت” الأميركية!
الدعم العسكري الأميركي إلى إزدياد مع نقل الجيش الروسي المعركة إلى الشرق الأوكراني، بغية حرمان بوتين من “إستراتيجية الخروج” من الحرب والتوصل إلى إتفاق مع كييف.
وعلى عكس ما يتوخاه الأوروبيون، الذين يدفعون تكاليف إقتصادية باهظة للحرب، تُعد أميركا لحرب طويلة في أوكرانيا، بغرض إنزال هزيمة كاملة بروسيا وعدم الإكتفاء بسياسة “الإحتواء”. هذه الهزيمة تراها واشنطن خطوة ضرورية لردع الصين أيضاً واستمرار النظام العالمي القائم حالياً وضمان بقاء القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً والتربع على عرش الأحادية العالمية. لماذا إختارت أميركا تحديث نظام “باتريوت” في تايوان في هذا التوقيت؟ الصين تفهم المغزى ولا تريد التصعيد ضد أميركا.
بعض المعلقين في الغرب يرون أن الهزيمة العسكرية الروسية في أوكرانيا، ستشجع بايدن على فرض “سلام قرطاجي” على روسيا أو شيئاً شبيهاً بما حدث في قاعة المرايا بقصر فرساي عام 1919عندما أرغم الحلفاء ألمانيا على توقيع الإستسلام ودفع تعويضات الحرب وإقتسام أراضيها بين الدول المجاورة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، لكن الكاتب في صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية إدوارد لوس يحذر من “أن التحدي الذي يواجه بايدن أكبر من ذاك الذي واجهه سلفه وودرو ويلسون. وبخلاف ألمانيا عام 1919، فإن روسيا تمتلك أسلحة نووية ولا يمكن حملها على الإستسلام”. وفضلاً عن ذلك، لم تكن قاعة المرايا بقصر فرساي نهاية الحروب وإنما البداية لما هو أفظع وأشد هولاً. فهل يستفيق بايدن من هكذا وهم أو يتسبب بخراب العالم؟
أميركا نفسها تعي جيداً أنها غير قادرة على إرغام روسيا على الإستسلام، برغم “الخسائر الكبيرة” التي تتكبدها في أوكرانيا، على ما أقر الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف. لكن صانعي القرار في واشنطن، يعتبرون أن هذه الخسائر قد تهيء المناخات المناسبة لقيام معارضة قوية ضد بوتين في الداخل تؤدي إلى عزله من السلطة، وتكرار تجربة سلوبودان ميلوسيفيتش في صربيا.
حملة التجييش التي تقودها أميركا ضد روسيا وقيادتها، تؤكد عدم إسقاط أميركا هذا السيناريو من حساباتها. إنها حملة تتجاوز التكتيك إلى الإستراتيجي. والصحافة الغربية، ولا سيما منها البريطانية، لا تكف عن ضرب أمثلة تاريخية: ماذا حل بالقيصر نيكولا الثاني عندما شنّ حرباً على اليابان عام 1905 وهزم فيها. تلك الهزيمة أسست لتقديمه تنازلات في ما بعد للحكومة المؤقتة برئاسة ألكسندر كيرينسكي عام 1917 قبل أشهر من قيام ثورة البلاشفة التي أطاحت القيصر عن عرشه. وأن الهزيمة في أفغانستان قد أسّست لتفكك الإتحاد السوفياتي.
وللتدليل على جسامة الخطأ الذي إرتكبه بوتين بغزوه أوكرانيا، تنقل المؤرخة الأميركية المتخصصة في الشؤون الروسية جوي نيومير عن رئيس جهاز الإستخبارات السوفياتية “كي جي بي” السابق يوري أندروبوف الذي عُيّنَ أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1982، أنه بعد أفغانستان “تم إستهلاك رصيد التدخلات الأجنبية”.
هذا المسار الأميركي يمكن أن يستمر، إلا إذا تمكن الجيش الروسي من إستعادة زمام المبادرة عسكرياً على الأقل في الشرق الأوكراني والسيطرة على الدونباس وفتح ممر بري مع شبه جزيرة القرم. عندها يمكن لبوتين أن يوقف الحرب بإعلان تحقيق هدف رئيسي من أهداف “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، ألا وهو حماية السكان الروس في منطقتي دونيتسك ولوغانسك الإنفصاليتين.
وتعني السيطرة على الدونباس تحييد نخبة الجيش الأوكراني، كما أنها تخلق معادلاً إستراتيجياً للإخفاق في تطويق كييف وتشرينهيف وخاركيف. كما أنها قد ترغم الولايات المتحدة على الدخول في مفاوضات جدية لوقف الحرب، وتفادي تحويلها حرب إستنزاف طويلة.
هكذا تبقى الأنظار مسمرة على الجبهة وخرائطها المتحركة لأنها هي التي ستُحدّد لحظة التفاوض الحقيقي. وبحسب السياق التصاعدي للحرب، وما يرافقها من عقوبات وحروب إعلامية ونفسية ورفع في سقوف الأهداف، لا يمكن منذ الآن وضع مدة إفتراضية لوقف القتال، الذي لم يفصح عن كل فصوله بعد.