لعبة الجاسوسية في الجامعة الأمريكية.. قضية السبانيولو نموذجاً

بصمات أمريكا موجودة في معظم بلدان العالم ومنها لبنان. استثمارات في الإعلام والسياسة والثقافة والتربية والإقتصاد، تُبرز الوجه الأمريكي "الجميل" و"الناعم"، ليس لسواد عيوننا، بل من أجل ترسيخ هيمنة العم سام وإيجاد الأرضية الكفيلة بالتلاعب بنا.

كان المؤرخ كمال الصليبي، رحمه الله، يُردّد أمامنا في بعض الأمسيات البيروتية أنّه في سنة 1968، عندما كان أستاذاً زائراً في جامعة هارفرد، تعرّف على فيبي مارّ (Phoebe Marr) المتخصّصة في تاريخ العراق والتي كانت تدرّس عن الإسلام وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة الدفاع الوطني المرتبطة بوزارة الدفاع الأمريكيّة. كان الصليبي يُلقّبها بـ”جاسوستي الصغيرة” (my little spy). وكانت هي تنفي أي علاقة لها بالمخابرات الأمريكيّة. في يوم من الأيّام، عندما بادرها الصليبي بتحيّته المعهودة، ردّت عليه بشيء من الإنفعال: “صحيح، أنا عندي علاقة بالـ CIA، وحتى أكّدلك هالشي، نحنا كنّا وراء قضيّة السبانيولو”.

قضيّة السبانيولو (Spagnolo Affair) حصلت في 18 آذار/مارس 1966. باختصار، نشرت “جريدة الشعب” البيروتية في صباح هذا النهار (يوم جمعة) مقالة تقول فيها الآتي: “الجامعة الامريكيّة في بيروت تخرق الوحدة الوطنيّة، وتلقّن طلابها “شتيمة” النبي محمّد عليه السلام.. و”الافتراء” على الدين الاسلامي الحنيف، بصورة سافرة ومقصودة في اغلب الظن..”. في منتصف ذلك النهار، وزّعت آلاف المنشورات في مساجد بيروت وطرابلس وصيدا تتضمّن ترجمة لمقتطفات من مقالة كتبها توماس الأقويني (Thomas Aquinas) ينتقد فيها الإسلام والنبي محمّد. فقامت الدنيا على الجامعة الأمريكيّة ولم تقعد، إلى أن حضر مفتّشان من شرطة بيروت إلى حرمها برأس بيروت لإلقاء القبض على توماس الأقويني، قبل أن يكتشفوا أنّ الرجل مات في العام 1274. عمّ الغضب بين مسلمي لبنان، ولكن من أجل تهدئة الوضع، قررت إدارة الجامعة الأمريكية (كان رئيسها حينذاك صموئيل كيركوود Samuel Kirkwood) تقديم المغلوب على أمره جون سبانيولو (John Spagnolo) كبش فداء، وكان في أول سنة له أستاذاً مساعداً في الجامعة، فاعتقله الأمن العام اللبناني ورحّله في اليوم التالي.

ولد سبانيولو في مدينة القدس. والده خوان سبانيولو ودي لوتشيانو (Juan Spagnolo y de Luciano) الذي كان نائباً لقنصل إسبانيا في القدس بين سنتي 1930 و1933، وإنتقل منها إلى بيروت مع عائلته. بعد الدراسة في الجامعة الأمريكيّة، غادر جون لبنان إلى جامعة أوكسفورد في بريطانيا حيث حصل على درجة الدكتوراه عن أطروحته “الصراع العثماني-الفرنسي على جبل لبنان” تحت إشراف الأستاذ ألبرت حوراني. وبعد ترحيله من البلد الوحيد الذي عرفه وأحبّه كوطن، انتهى به الأمر في مدينة فانكوفر (كندا)، في جامعة سيمون فرايزر (Simon Fraser University) حيثّ درّس التاريخ العثماني حتّى تقاعده ومن ثم توفي عام 2016.

اتّخذت الـ CIA من موضوع حسّاس يُدَرّس في جامعة أمريكية في بلد عربي شرق أوسطي (وضع أفكار الأقويني ومن شابهه تحت المجهر) مدخلاً لإختبار بيئة يمكن السيطرة عليها. وكان هدف الـ CIA، بالشراكة مع إدارة الجامعة الأمريكيّة في ذلك الوقت، هو جسّ نبض جمهور المسلمين في لبنان ومعرفة كيف وإلى أي مدى يمكن اللعب بعواطفه الدينيّة وصولاً إلى تقليب العالم العربي والإسلامي ضدّ ما يسمى “المدّ الشيوعي”. وبسبب تلك الحادثة، منعت الجامعة الأمريكيّة تعليم أيّ مادة لها علاقة مباشرة بالدين.

وزّعت آلاف المنشورات في مساجد بيروت وطرابلس وصيدا تتضمّن ترجمة لمقتطفات من مقالة كتبها توماس الأقويني ينتقد فيها الإسلام والنبي محمّد. فقامت الدنيا على الجامعة الأمريكيّة ولم تقعد، إلى أن حضر مفتّشان من شرطة بيروت إلى حرمها برأس بيروت لإلقاء القبض على توماس الأقويني، قبل أن يكتشفوا أنّ الرجل مات في العام 1274

نعرف الكثير عن تمويل أمريكا للتطرّف والإرهاب الإسلامي منذ خمسينيات القرن الماضي (أنظر كتاب الصحافي روبرت درايفوس (Robert Dreyfus) “لعبة الشيطان: كيف قامت الولايات المتّحدة بصناعة الإسلام المتطرّف”(1)، وكتاب الصحافي ماكس بلومنثال (Max Blumenthal) “إدارة التوحّش: كيف قامت الأجهزة الأمنيّة في أمريكا بدعم قيام القاعدة وداعش ودونالد ترامب”(2). وتفضح الوثائق السريّة لوزارة الخارجيّة البريطانيّة دور بريطانيا في إختراع قضايا في خمسينيات وستّينيات القرن الماضي من أجل التأثير على المسلمين في المجتمع العربي وتقليبهم ضدّ حكّامهم (الوثائق الأمريكيّة في هذا الموضوع تحديداً غير متوفّرة بعد ويمكن للمرء أن يقيس على التجربة البريطانيّة كون العلاقة بين أجهزة مخابراتها والـ CIA عميقة جداً، والأخيرة استعملت الكثير من تكتيكات المخابرات البريطانيّة).

تعرض وثائق حكومية بريطانيّة أزيلت عنها السريّة في الأعوام الماضية كيفية استخدام الإنكليز للإسلام من أجل شنّ “حرب ثقافيّة” ضدّ الفكر الشيوعي في العالمين العربي والإسلامي. مثلاً، يكشف الصحافي البريطاني إيان كوبِن (Ian Cobain) في مقالة له (3) كيف قامت وزارة الخارجيّة البريطانيّة بتمويل دائرة استخباراتيّة تعرف بالـ IRD (Information Research Department) كان دورها كتابة وتوزيع منشورات وكتب عن الإسلام في العالم الإسلامي، بينها “زرع” مقالات في مجلّات (منها مجلّات لجامعة الأزهر) وتمويل خطب جمعة هدفت إلى تقليب المجتمع المتدّين ضدّ الشيوعيّة، وخلق نوع من “النخوة” الدينيّة والتزمّت الديني في العالم العربي ليقف حائطاً ضد كل مشروع نضالي تحرري ضدّ الإستعمار الغربي.

إقرأ على موقع 180  مشهدا سريلانكا وبريطانيا.. أزمة مركز وأطراف

ليس لدينا بعد وثائق مماثلة عن طريقة عمل المخابرات الأمريكيّة في بلداننا يشابه تلك التي أبرزتها الحكومة البريطانيّة. لكن قضيّة إسبانيولو تدخل في هذا الإطار. ويمكن أن نعرف عن الأدوار التي لعبها البعض من أجل دحرجة أحجار الدومينو. أحدهم رئيس الجامعة الأمريكيّة كيركوود المعروف عنه علاقته الوثيقة بالمخابرات الأمريكيّة والتقارير الدوريّة التي كان يرسلها عن لبنان والعالم العربي، وخطبه التي كان يلقيها في المحافل السياسيّة عند كل زيارة للولايات المتّحدة (بعضها متوفّر في أرشيف وزارة الخارجيّة والكونغرس). ويكشف أرشيف الجامعة أيضاً المعلومات المضللة التي كان يروّجها كيركوود أمام أساتذة الجامعة أثناء قضيّة سبانيولو، والتي يبدو منها أنّ هدفه كان التُضحية بأحد منهم إختاره سلفاً من أجل إنهاء القضيّة من دون أن يدري الأساتذة بذلك.

وثمة روايات عديدة عن دور بيروت كمركز ثقل للـ CIA في المنطقة. على سبيل المثال لا الحصر، أرسل الكولونيل المتقاعد شارلز هوسلر (Charles W. Hostler) إلى الجامعة الأمريكية عام 1953 تحت غطاء دراسة الماجستير في برنامج الشرق الأوسط في الجامعة. قبل ذلك، أرسلته المخابرات الأمريكيّة عام 1949 إلى تركيّا من أجل تدريب الجيش التركي على بناء ردع جوّي ضدّ السوفيات. وهوسلر كان صلة الوصل بين رئيس سوريا في ذلك الوقت أديب الشيشكلي والـ CIA. ونعرف عنه أيضاً وعن بعض أدواره من التقارير التي رفعتها السفارتان الفرنسيّتان في سوريا ولبنان وأكثرها يعبّر عن الغضب الفرنسي من نشاط المخابرات الأمريكيّة ونفوذها في ما كانت تعتبره فرنسا “مجالها الحيوي”.

تبرّع هوسلر قبل سنوات من وفاته بمبلغ كبير إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت من أجل تشييد مبنى بإسمه: “مركز شارلز هوسلر للنشاط الطلابي”، ولا ندري إذا كان هذا الغيض من فيض هو نتيجة ندمه على ما قام به أثناء عمله الجاسوسي في لبنان

ومن مركزه في بيروت، أدار هوسلر شبكة تجسّسية، وبعد أن أنهى دراسته في الجامعة، منحته وكالة المخابرات المركزية “غطاءً” جديداً بتعيينه مديراً تنفيذيّاً ووكيلاً لشركة ماكدونيل دوغلاس (McDonnell Douglas) للطيران والسلاح، وهو دور ساعده في بناء شبكة علاقات ماليّة وسياسيّة في لبنان والعالم العربي، وتحصيل عمولات ضخمة من بيع الطائرات الحربيّة وتجهيزاتها إلى بعض البلدان العربيّة (عيّن في فترة لاحقة سفيراً لأمريكا في البحرين بين عامي 1989 و1993).

ومن طريف الأمور أنّ هوسلر تبرّع قبل سنوات من وفاته بمبلغ كبير إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت من أجل تشييد مبنى بإسمه: “مركز شارلز هوسلر للنشاط الطلابي” (Charles W. Hostler Student Center)، ولا ندري إذا كان هذا الغيض من فيض هو نتيجة ندمه على ما قام به أثناء عمله الجاسوسي في لبنان أم من أجل أن يخلّد ذكراه وكأنّه يقول: “جئت، رأيت.. وانتصرت”.

في الخلاصة، لا تؤمن أمريكا أنّ صراعها مع العالم له نهاية. تخرج من الباب لتعود من الشبّاك، تخرج بوجه وتدخل بوجه آخر، لأنّ بقاء هيمنتها على العالم يتطلّب أن لا تقوم قيامة لأحد، لأن ذلك برأيها هو بداية سقوطها. فنجدها تستثمر في الحراكات والانقلابات، وفي كلّ ربيع وخريف، ليبقى ملكوتها فوق رقابنا إلى أبد الآبدين.

(*) ملاحظة على هامش النص: حسناً أن معظم أساتذة الجامعة الأمريكيّة في بيروت وتلامذتها كانوا واعين لاستخدام الـ CIA لهذا الصرح التربوي العريق من أجل مد شبكة مصالح استخباراتيّة فيها وعبرها، فناضلوا ضدّ ذلك وجعلوا من جامعتهم صرحاً أكاديميّاً نموذجياً في الشرق الأوسط.

  1. Robert Dreyfus, Devil’s Game: How the United States Helped Unleash Fundamentalist Islam (New York: Owl Books, 2005).
  2. Max Blumenthal, The Management of Savagery: How America’s National Security State Fueled the Rise of Al Qaeda, ISIS, and Donald Trump (London: Verso, 2019).
  3. Ian Cobain, ‘Religious operations’: How British propagandists used Islam to wage cultural Cold War, Middle East Eye (28 February 2020) – https://www.middleeasteye.net/big-story/religious-operations-how-british-propagandists-used-islam-wage-cultural-cold-war.
Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  من يُعيد لبنان أكثر من خمسين عاماً إلى الوراء؟