“رحلة الفرصة الأخيرة”.. تأمّلات في الشقاء اللبناني!

لا اغتباط يضاهي اغتباط المرشّحين للانتخابات النيابيّة المقبلة في لبنان. لنقلْ اغتباط معظمهم. فلقد منحتهم تغطية الإعلام لمأساة قارب الموت الطرابلسي، فرصة القفز على "الحدث". أو ما نسمّيه في لغة الإعلام الـ scoop. فها هم يهرعون، سلطةً ومعارضين و"تغييريّين"، للاستثمار في موت الغرقى.

ليس هناك أهمّ من الموت للاستثمار في لبنان. استثمار مادي. أو استثمار معنوي. والمفارقة، أنّ فاتورة هذا الاستثمار مكلفة؛ ليس على المستثمِر. بل على المستثمَر في موته. هو شيء من الّلامعقول. يتحوّل في لبناننا إلى ممارسة يوميّة. أعني الموت وسبل استثماره.

وسط التصحّر الإنساني والأخلاقي الشامل الذي يحكم على حُكّامنا وشعبنا بالصمت. دوّى، ليل السبت الفائت، صراخٌ جَزِعٌ من رهبة الصمت والموت. هو الصراخ الشرعي المفقود، في الحقيقة. أي، الصوت اللبناني الصارخ الذي ضاع طويلاً في ثنايا الوطن. والذي اختنق داخل قارب كان يقوده انتحاري. ويقود الجميع معه إلى الضياع والموت. فصراخ مَن يصارع في البحر، لا يشبه أيّ صراخ. إنّه مميّز جدّاً. تشعر وأنت تسمعه، أنّ القلوب بلغت الحناجر. كان الصراخ اللبناني يأتي مع ريح الشمال الحزين. من قبالة جزيرة الفنار- رمتين في طرابلس (في شمال لبنان). ما الأمر؟

دفعة جديدة من اللبنانيّين حاولت الهرب. فبعض الرحيل لا يحتاج إلى حقائب. يحتاج، فقط، إلى أقدام. “غرباء تعبوا من هذه الدنيا والموت تأخّر”، كما يقول شاعر العراق مظفّر النوّاب. انطلقوا بعد الإفطار من منطقة الميناء، نحو اليونان أو قبرص أو تركيا أو إيطاليا. لا فرق. لكنّ رحلتهم انتهت، قبل أن توصلهم إلى برّ الأمان. ذابت آمالهم، سريعاً، في الملح. إذْ بعد نحو الساعتيْن، وقع المحظور. لقد أحبط الجيش اللبناني رحلتهم إلى المجهول. فدوريّاته ترصد وتتعقّب، منذ فترة، هذا النوع من رحلات الهجرة (التي تزايدت في السنتيْن الأخيرتيْن). لكن، يبدو أنّ تعامله مع قارب الموت الطرابلسي جاء مختلفاً وملتبساً، هذه المرّة، بحسب شهادات الناجين. لننتظر نتائج التحقيق الذي لم يُؤتِ، يوماً، ثماره في لبنان. لعلّ وعسى.

تراهم أصبحوا مستعدّين ليغامروا بكلّ شيء ويتركوه. ليرحلوا. يبيعون أرضهم وأرزاقهم وبيوتهم وممتلكاتهم وحُلي نسائهم وألعاب صغارهم وسيّاراتهم و.. كلّ شيء. ليرحلوا. يجازفون بأرواحهم وبحياة أولادهم و.. بأيّ شيء. ليرحلوا. المهمّ أن يرحلوا

منذ العام 2013، زادت تدفّقات المهاجرين العرب إلى أوروبا، وبشكلٍ ملحوظ. واعتباراً من الـ 2019، صار لبنان في قلب ظاهرة “الهجرة السرّيّة” هذه، إلى الغرب. بل صار بلداً مصدّراً لقوارب الموت والهاربين من وطنٍ لم يعلّم شعبه إلاّ الخوف. الخوف منه. والخوف عليه. بلد، ولكثرة ما اكتظّ بالظلم والصراعات والأزمات والمآسي والإجرام، صار يلفظ أبناءه مع لهاث أنفاسه. لذا تراهم أصبحوا مستعدّين ليغامروا بكلّ شيء ويتركوه. ليرحلوا. يبيعون أرضهم وأرزاقهم وبيوتهم وممتلكاتهم وحُلي نسائهم وألعاب صغارهم وسيّاراتهم و.. كلّ شيء. ليرحلوا. يجازفون بأرواحهم وبحياة أولادهم و.. بأيّ شيء. ليرحلوا. المهمّ أن يرحلوا. هم واعون، غالباً، للمخاطر المحدقة بسفرهم. وبأنّ معظم مَن غامر بالأمس مثلما يغامرون اليوم، ابتلعتهم الأمواج. وبأنّ القوارب التي تقلّهم تُصنَّع محليّاً وتفتقر لأدنى شروط السلامة. عبثاً المحاولة معهم. هم يصرّون على أنّ رحلتهم هذه، هي “رحلة الفرصة الأخيرة”. وأكثر.

يعبر المهاجرون في قوارب الموت إلى حيث ينشدون الحياة، من دون جوازات سفر. وغالباً ما يركبون البحر، أيضاً، من دون أوراق ثبوتيّة شخصيّة. هم يعتقدون، أنّهم بتمويه هويّاتهم وبأن يكونوا “لا أحد”، إنّما يصعّبون، حيث يحطّون، عمليّة التعرّف إلى أصولهم. وبالتالي يصعّبون، في حال القبض عليهم، إمكانيّة إعادتهم إلى بلدانهم الأصليّة. فإلى أين سيعودون؟ لقد فرّوا من نار الجهنّم اللبنانيّة إلى جنّات الصقيع الأوروبيّة. أو هكذا اعتقدوا. اعتلوا ظهر قاربٍ صغير حسبوه خشبة خلاصهم. أو جسرهم للعبور من الجحيم إلى النعيم. أو هكذا أملوا. قادتهم أحلامهم الكبيرة نحو “جنّة موعودة”. وكأنّ أواصر أوثق في “المقلب الآخر للحياة” تشدّهم إلى هناك. لكنّهم سرعان ما وجدوا أنفسهم على الشاطئ الذي انطلقوا منه. وبعض أرواح أحبابهم طفت على سطح الماء.

عادوا كما أبحروا. محبطين ويائسين. يتناوصون على الحياة من خلف الأبواب المشقوقة. رجعوا إلى بلادٍ تتهاوى على رؤوس ناسها. وإلى واقع انهياراتٍ اقتصاديّة وماليّة ضربت أرقاماً قياسيّة عالميّة. وإلى “كنف” طبقةٍ سياسيّةٍ حاكمة تعتبر لبنان نادياً للهواة. أو معهداً لتدريب أزلامها. عادوا إلى “عهدة” حُكّام، لم يعد أصغر مسؤول في أصغر جمهوريّة موز في العالم يرضى أن يأتمنهم على صندوق بطانيّات أو على شحنة حليب للأطفال! رجعوا إلى “دنيا” سياسيّين لا ينفكّون يفرّخون المافيا تلو الأخرى. أَلَم تسمعوا، يا أصدقاء، أنّ شخصيّاتٍ ورؤوساً كبيرة جدّاً في الدولة هي التي أسّست مافيا لتنظيم رحلات الموت عبر بحرنا؟ على الأرجح سمعتم.

راقبوا كيف تعمل مافيا مهرّبي “المهاجرين غير الشرعيّين” في بلادنا! عذراً. أحبّ، قبل ذلك، الإشارة إلى هذا التوصيف السمج: “المهاجرين غير الشرعيّين”. على أساس أنّ القابعين في مقاعد الحُكم والسلطة عندنا يرشحون زيتاً وشرعيّة! برأيي، اسم “الحراقة”، الذي يُطلقه أهل شمال أفريقيا على هذا الصنف من المهاجرين، أرحم بكثير! أعود إلى مافيا تهريب المهاجرين. تتعامل الشخصيّات والرؤوس الكبيرة، آنفة الذكر، مع المرشّحين للهجرة غير النظاميّة وفق أسلوب المافيا ذاته. فهناك وسطاء ينشطون بينها وبين المهاجرين ويشكّلون منظومة شائكة. يُسمّونهم في بعض الدول العربيّة “خلايا الدعم”.

قادتهم أحلامهم الكبيرة نحو “جنّة موعودة”. وكأنّ أواصر أوثق في “المقلب الآخر للحياة” تشدّهم إلى هناك. لكنّهم سرعان ما وجدوا أنفسهم على الشاطئ الذي انطلقوا منه. وبعض أرواح أحبابهم طفت على سطح الماء

فعمليّة التهريب، لا تقتصر على مجرّد اتفاقٍ بين طرفيْن. بل تمتدّ على مراحل. تبدأ من مرحلة الإعلام (للمرشّحين للهجرة). ثمّ مرحلة التوجيه. ثمّ مرحلة جمع الأموال وتقديمها لصاحب القارب (الذي لا يمكن للمهاجر الاتصال به مباشرةً). وأخيراً تأتي مرحلة توفير وسيلة النقل تلك. وتتفاوت المبالغ، تبعاً لنوعها. أي، تُترَك للمرشّح للهجرة “حريّة الاختيار”. والسعر يختلف، بحسب “ماذا يختار”. فيرتفع، عندما يكون القارب “مأموناً” أكثر. والعكس صحيح. ويمكن للمهاجر اختيار قاربٍ نظامي (هو الأغلى بالطبع). أو قاربٍ مطّاطي. أو قاربٍ خشبي. وبعد؟

إقرأ على موقع 180  الأوهام المنتفخة، الجدران المتكسرة.. والخيمة الباقية

“يا نِحْنا يا هنّي بهالبلد..”. هذا ما قاله أحد الناجين من الغرق في طرابلس بالأمس، عندما سأله مراسلٌ تلفزيوني عن شعوره. وهذا الناجي، لم يكن بحاجة للقول مَن يعني بـ”هِنّي”! فأعداء المجتمع والحياة والشعب في لبنان معروفون. لهم وجوه. وتاريخ. وصورهم تملأ الفضاء العامّ في البلاد. نعم. وفي زمن القيامة يصبح من المهمّ التأكيد، أنْ لا قيامة للبنان وناسه قبل أن يتركه السفّاحون الذين يحكمونه. ولا قيامة للبنان وناسه قبل أن تستيقظ شعوبه الغارقة في سباتٍ يشبه الموت.

فكلّ هذا الموت الذي نعوم عليه، واللبنانيّون صامتون. لا شيء يُسمَع سوى الخواء. وكأنّ تكثيف الصور القاسية على الشاشات، قد حوّلنا، نحن المشاهدين اللبنانيّين، إلى آلاتٍ غير مبالية بالقتل. وكأنّ تكديس لقطات الاختناق والقسوة، قد حوّل الضحايا إلى مجرّد أرقام. والدماء إلى مشهدٍ معتاد تآلفنا معه. مشهد لا يستدعي الغضب أو النقمة. هل هو انعدام الشعور؟ أم إنّه الإنذار الأخير بأنّ الموت قد بسط سيطرته الكاملة علينا؟

كلمة أخيرة. أعلنت الجهات الرسميّة الحداد العامّ في لبنان على أرواح الضحايا. والله تُحسَب لهم. تُحسَب لوقاحتهم. وقاحة “يللي بيقتل القتيل وبيمشي بجنازته”! كان الأبّ بيار، الشخصيّة الأكثر شهرةً في المجتمع الفرنسي لسنواتٍ طويلة، يقول الآتي: “لا يعرف رجال السياسة المأساة، إلاّ من خلال الإحصائيّات. ونحن لا نبكي أبداً أمام الأرقام!”. مَن أكثر من “راعي المشرَّدين والمهمَّشين” في فرنسا (كما لُقِّب)، قد اختبر المآسي المتأتيّة عن رجال السياسة؟ إقتضى التساؤل.

 

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الحريري والتدقيق الجنائي مَنْ يُطيِّر مَنْ؟