ثمة إعتقاد لدى فئة من اللبنانيين بأن الإنتخابات النيابية هذه السنة ستكون آخر انتخابات يلتئم نصابها بنكهة “الطائف”، لا سيما في ضوء عجز تلك التسوية المؤقتة عن الإستجابة إلى تطلعات اللبنانيين وحقهم في تطوير نظامهم السياسي ليصبح أكثر عدالة وملامسة لهواجسهم وقضاياهم المتنافرة. وبطبيعة الحال كلنا نعلم أن العديد من محاولات إنعاش إتفاق الطائف، قبل إتفاق الدوحة 2008 وبعده، سواء أكانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، لم تعْفِه من الترنّح على رأس “مَن” و”ما” فيه، وهذا ربما يُفسّر ما نشهده من اهتمام غير مسبوق بهذه الانتخابات ونتائجها، وكأنها ستزيح “الغمّة” عن الأمة، وتنقل لبنان من جحيمه الحالي إلى جنته السعيدة!
ومع اقتراب اليوم الموعود، تتقلص فترة السماح التي منحها “الأوصياء الدوليون” لممثليهم في لبنان، فالمسرح بات جاهزاً للـ BING BANG اللبناني، بعد تأجيل المفاجآت لما بعد “العرس الانتخابي” الذي استحال عصاً بيد المتخاصمين لاستخدامها في حروبهم القادمة على لبنان، والتي قد تأخذ أشكالاً دراماتيكية في ظل ما نشهد من جنون محلي ودولي، ما يجعل الرهان على نتائج الانتخابات النيابية نوعاً من المقامرة الجديدة وشكلاً جديداً لتعبئة الوقت بانتظار التسويات الكبرى في الإقليم، وهنا يصبح السؤال مشروعاً حول فولكلورية الانتخابات النيابية في “وطن الجنون” ومكانتها في عِدَّة “السَلبَطة” المتجددة على بقايا “شعب الفينيق” وقدرتها على التغيير المرتقب لجهة ما ستفرزه من أكثرية في مجلس النواب في ظل مسار حكم “قلق” يدور منذ التأسيس في جدلية “الأزمة – التسوية”.
نحن نعيش أزمة مركبة غير مسبوقة في تاريخ نظامنا اللبناني المعاصر، لم يعُد فيه ترقيع اتفاق الطائف مجدياً ونافعاً، بفعل عوامل عديدة، أبرزها إتساع الفوالق بين الطوائف لحسابات محلية وإقليمية؛ غياب الناظر الإقليمي الذي شكل عنصر تهدئة زجرية في بنية النظام بين 1990 ـ 2005؛ حدة الإستقطابات الإقليمية والدولية؛ الأزمة السورية؛ الإنتقال من نظام دولي إلى آخر
إن من يراجع المسار التطوري للمجتمع اللبناني في تاريخه الحديث والمعاصر يجد أنه كان عرضة للاهتزاز السياسي والأمني الدائم؛ وبالتالي تحكمت به جدلية الأزمة – التسوية. أزمة تتكىء في تصاعدها على تصدع في البنية الاجتماعية – السياسية الداخلية نتيجة اختلالات في التوازنات والشراكات المحلية بين الطوائف ورموزها وحصول متغيرات إقليمية ودولية، حيث تجيد “أمة التجار” استيراد التبعية السياسية باعتبارها واحدة من أكثر التجارات ربحاً في لبنان (1958 الصراع بين القطبين وتجلياته في الإقليم، الصراع بين الناصرية وحلف بغداد ثم الحرب اللبنانية وما تخللها من حروب). وفي كل مرة كانت تنتهي الأزمة بتسوية يُرادُ منها إعادة توزيع السلطة على الطوائف باعتبارها الثابت الوحيد القوي الذي على أساسه يعاد تشكيل السلطات وانصبتها في النظام الطائفي اللبناني، بعد أن يتم تدوير مسبباتها لا معالجتها معالجة جذرية، ما يبقي دورية الازمات في لبنان ثابتة من ثوابت نظامه السياسي إلى جانب الطائفية المتجذرة البنيان.. ويبقى الشعب اللبناني بنسخه المتعددة يُردّد:
“يا دارة دوري فينا ضلّي دوري فينا/ تَ ينسوا أساميهن وننسى أسامينا”.
ومن يُدقق في تاريخ الانتخابات النيابية بعد الاستقلال اللبناني يمكنه الخروج بالملاحظات الآتية:
أولاً؛ إنّ القوانين الانتخابية كانت مخرجات لإرادة القوي في السلطة، ولم تكن معبراً لتصحيح خلل تمثيلي أو بنيوي في النظام اللبناني.
ثانياً؛ إنّ الخارج بدوله المهيمنة دوليا وإقليميا كان حاضرا على الدوام قبل الطائف من خلال رئيس الجمهورية بصلاحياته الواسعة وبعد الطائف من خلال الوصاية السورية وبعد 2005 حتى يومنا هذا، من خلال تدخل السفارات والقناصل.
ثالثاً؛ إنّ الانتخابات النيابية كانت على الدوام مطية بيد الأقوى سياسياً، فقبل الطائف كان رئيس الجمهورية “ملكاً دستورياً” بيده حكم البلاد من خلال الأجهزة والقوانين الانتخابية، هكذا عهدنا الرئيس بشارة الخوري في انتخابات 1949 التي أمّن مجلسها التمديد له وبعد الحركة الدستورية التي دفعته للاستقالة ومجيء “فتى العروبة الاغرّ” كميل شمعون بعدما انقلب على رفاق دربه واجترح قانوناً انتخابياً على قياسه، فجَنْدَل خصومه (سقط في الانتخابات كلٌ من صائب سلام وأحمد الأسعد وكمال جنبلاط)، فحملوا لواء الثورة ضده واسقطوه عام 1958، ثم جاء لواء الجمهورية فؤاد شهاب ورفع شعار “لا غالب ولا مغلوب” بعد ان استعاره من صائب سلام، فأمسك العصا من الوسط بـ”قانون الستين” الذي ظلّ ملازما لاسمه، ثمّ جاءت النوبة بعد الطائف لتصبح القوانين الانتخابية على صلة بالاخ الأكبر شاغل كرسي عنجر، يُحدّد قانون الانتخاب والنواب قبل الانتخاب، والجَمْعُ الرئاسي “الترويكا” (الأصح الرباعي) يلتزم الوصية ولا يحيد قيد أنملة عنها.. وبعد 2005 عرف لبنان قانوني الأكثري والنسبي في ثلاث دورات انتخابية، عززت الانقسام السياسي والتوتر المذهبي على وقع أحداث دموية، فلم تنفع قوى 14 آذار أكثريتها بعد 2005 و2009 في إقصاء خصومها والحكم منفردة، برغم الزخم الطائفي الكبير الذي شكله مقتل الرئيس رفيق الحريري، ولم تستطع قوى 8 آذار من حكم البلد بمعزل عن شركائها، برغم حيازتها الأكثرية في انتخابات 2018!
هل ستكون الانتخابات النيابية 2022 بداية المخرج من الأزمة الوطنية التي نعيشها أم ستؤدي إلى تعقيد الأزمة أكثر؟
رابعاً؛ إنّ الانتخابات النيابية كما تدل الوقائع التاريخية كانت تجسيدا لتسويات مختلفة وتعبيرا عن أزمات متعددة، فانتخابات العام 1992 (وما سبقها من “تعيينات” نيابية) كانت بداية التجسيد السياسي للنسخة السورية من اتفاق الطائف.. وانتخابات 2005 أعقبت “التحالف الرباعي” على وقع جريمة اغتيال رفيق الحريري.. وانتخابات 2009 كانت بقانونها وتحالفاتها ثمرة تسوية إتفاق الدوحة بعد أحداث 7 أيار/مايو 2008.. وانتخابات 2018 جاءت ثمرة تسوية رئاسية (2016) أعقبت تمديد المجلس النيابي لنفسه ثلاث مرات وتأجيل انتخابات رئاسة الجمهورية لسنتين، بينما نجد أن الانتخابات قبيل الطائف كانت ممرا إلى أزمات متعددة كما حدث عام 1947 مع بشارة الخوري وأدت في ما بعد إلى إسقاطه دستوريا، وانتخابات 1957 التي شكلت ضربة قاضية لحكم كميل شمعون وعجلّت الثورة ضدّه، وانتخابات 1972 التي حصلت تحت تأثير النزاع الداخلي الشديد (سياسيا وإجتماعياً) وتمهيد الطريق أمام صلح كمب ديفيد في عهد سليمان فرنجية؛ ما أدّى إلى إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).
خامساً؛ إنّ الانتخابات النيابية كانت معروفة النتائج مسبقا نتيجة القوانين الانتخابية المتعددة التي عرفها اللبنانيون منذ الانتداب حتى يومنا هذا، فما يجمع تلك القوانين أنها كانت عرضة للتعديل على الدوام، ولم تكن يوما على أساس وطني لا طائفي، بل زادت دوائرها الانتخابية من 5 دوائر عام 1922 إلى 27 دائرة عام 1957 بدل أن تتقلص ويصبح لبنان دائرة انتخابية واحدة ينتخب فيه النائب على أساس وطني لا طائفي، بناء على البرنامج وليس الأماني.
سادساً؛ إنّ التسويات اللبنانية على أساس الشراكة الطائفية ليست بالأمر الجديد، فنظام القائمقامية 1843 كان عبارة عن تسوية لشراكة ثنائية بين الموارنة والدروز في جبل لبنان ، ثم جاءت المتصرفية لتؤسس لشراكة متعددة على اساس هيمنة فريق على بقية الطوائف، لتتطور مع لبنان الكبير ويعاد شيء من التوازن لها مع تسوية الاستقلال والميثاق الوطني، بشراكة مارونية – سنية بأرجحية مارونية ثم أتى اتفاق الطائف ليُثبّت شراكة إسلامية ـ مسيحية بأرجحية إسلامية..
اليوم، نحن نعيش أزمة مركبة غير مسبوقة في تاريخ نظامنا اللبناني المعاصر، لم يعُد فيه ترقيع اتفاق الطائف مجدياً ونافعاً، بفعل عوامل عديدة، أبرزها إتساع الفوالق بين الطوائف لحسابات محلية وإقليمية؛ غياب الناظر الإقليمي الذي شكل عنصر تهدئة زجرية في بنية النظام بين 1990 ـ 2005؛ حدة الإستقطابات الإقليمية والدولية؛ الأزمة السورية؛ الإنتقال من نظام دولي إلى نظام آخر إلخ..
لذلك، نعود للسؤال ـ الأحجية: هل ستكون الانتخابات النيابية 2022 بداية المخرج من الأزمة الوطنية التي نعيشها أم ستؤدي إلى تعقيد الأزمة أكثر؟
رُبّ متفائل يُعوّل على تغيير “ما” وتسوية “ما”، يقول: نعم؛ وربّ آخر يُردّد أكثر العبارات تشاؤما قائلاً: “المياه كلّها بلون الغرق”!
لا أدري.