رئاسة البرلمان اللبناني.. الممكن والمستحيل!
sسياسة الاستشارات النيابية في بعبدا ( عباس سلمان )

مهما تعددت القراءات السياسية المرتبطة بالإنتخابات النيابية اللبنانية، أو بنسبة الإقبال على صناديق الإقتراع، أو بقانون الإنتخاب المعمول به منذ عام 2018، فإن القراءة الأكثر حكمة وعقلانية تقتضي التسليم بنتيجة الحدث الإنتخابي واعتباره مرآة عاكسة لخيارات اللبنانيين.

هذه القراءة التسليمية بالواقع الإنتخابي، قد يقابلها واحدة على الأقل تنزع عن الأولى شرعية الحدث، ومثل هذه القراءة تفضي بطريقة أو بأخرى إلى انتزاع الشرعية عن مصدر السلطات في لبنان، أي المجلس النيابي، ومن دون شرعية الأخير لا يمكن أن تتشكل حكومة، إذ قبل تسمية رئيسها لا بد من استشارات نيابية ملزمة بنتائجها، وبعد تشكيلها لا تأخذ دستوريتها إلا بعد نيل الثقة النيابية، وعلى ذلك تغدو شرعية الحكومة مستمدة من شرعية مجلس النواب.

ما ينطبق على منافذ تشكيل الحكومة، ينطبق على منافذ انتخاب رئيس الجمهورية، فمجلس النواب، هو الباب الشرعي للرئاسة الأولى، وفي حال جرى إقفال هذا الباب بذريعة عدم شرعيته، فالأمر يؤول إلى خلو سدة الرئاسة، وبناء عليه، فإن التشكيك بشرعية العملية الإنتخابية، ينسحب على إسقاط الشرعية عن أهم مؤسسات الدولة ومعالمها، وهذا ما لا يشتهيه من تبقى من عقلاء في لبنان.

ما الغرض من إثارة هذه الإشكالية؟

الغرض من ذلك قرع الأجراس حيال خطورة الخلاصات التحليلية المغالية في أحكامها إزاء تدني الإقبال على المشاركة الإنتخابية (وهذه حقيقة أكيدة) للتشكيك بشرعية المجلس النيابي الجديد. صحيح أن تراجع هذه النسبة ينطوي على اشمئزاز من العمل السياسي وعلى انخفاض الثقة بين القطاع الأوسع من اللبنانيين وبين غالبية أهل السياسة، إلا أن الربط بين العزوف عن الإنتخابات وبين خلع الشرعية عن المؤسسات الوطنية، لا ينتج إلا عدما ومجهولا وفراغا قاتلا.

عموما، غالبية الناس تنفر من أهل السلطة، وقديما قال الشاعر إبن الوردي (1292ـ 1349):

إن نصــفَ النــاس أعـداء لمن/ ولي الأحـكام هذا إن عـدل.

ثمة شرط أن يكون رئيس المجلس نائبا، ووفق الأعراف شيعيا، وطالما أن الثنائي “الشيعي” نال 27 مقعدا مخصصا للطائفة، ويتوافق في الوقت نفسه على تجديد ولاية الرئيس بري، فأية واقعية يمكن الحديث عنها حين ترفع قوى او شخصيات سياسية مطلب خوض معركة انتخابية حول رئاسة المجلس النيابي؟

بعد تلك التحليلات المغالية، يأتي دور المطالب غير الواقعية والتي ينجم عن إطلاقها شظايا استفزاز ـ عن قصد او عن غير قصد ـ تطال كتلة ناخبة كبرى، ومن هذه المطالب او الشروط، عدم انتخاب الرئيس نبيه بري لولاية جديدة على رأس المجلس النيابي الجديد، وفي هذا المطلب بعض التوسع وبعض الرجوع إلى الماضي القريب :

في آخر انتخابات عامة عرفها لبنان قبل الحرب الملعونة في عام 1975، أي في عام 1972، كان ثمة مجموعة من الخيارات امام القوى السياسية لإنتخاب رئيس لمجلس النواب، وتنوعت تلك الخيارات بين شخصيات ثلاث هي كامل الأسعد وعادل عسيران وصبري حمادي، وذهب حزبا “الكتائب” برئاسة بيار الجميل و”الأحرار” بزعامة كميل شمعون إلى توسيع دائرة الخيارات لتشمل كاظم الخليل ومحمود عمار.

عن تلك المرحلة، تتحدث صحيفة “الأنوار” فتقول في عددها الصادر في الخامس والعشرين من نيسان/ابريل 1972 “عجّل فوز الرئيس صبري حمادي وأعضاء قائمته في بعلبك ـ الهرمل، وفوز الرئيس عادل عسيران والسيد كاظم الخليل في الجنوب، بفتح معركة رئاسة المجلس، وبرز اهتمام الأوساط السياسية والنيابية بمعركة الرئاسة الثانية بعد فرط الإئتلاف بين الرئيس الأسعد والسيد كاظم الخليل وتجدد الصراع بين رئيس المجلس ونواب حزب الوطنيين الأحرار”.

 وقالت “الأنوار” في التاسع والعشرين من نيسان/ابريل من السنة المسبوقة الذكر “ظهرت امس بوادر معركة بين الرئيسين كامل الأسعد وصائب سلام، ويتوقع انفجارها بعد الإنتقال إلى مرحلة انتخاب رئيس المجلس النيابي الجديد”، وأكثر من ذلك، ذهب النائب البعثي الراحل عبد المجيد الرافعي إلى ترشيح النائب المنتخب حديثا آنذاك علي الخليل استنادا إلى “الأنوار” أيضا في الثاني عشر من أيار/مايو 1972.

غني عن الإطالة إن رئاسة المجلس النيابي آنذاك عادت وآلت إلى الرئيس كامل الأسعد، ولكن قبل اكتمال التوافق عليه وانتخابه، كان ثمة شخصيات تقابله وقد تنافسه وتحوز على مطرقة الرئاسة الثانية لو توفرت لديها شبكة التحالفات والتوافقات السياسية، إلا أن ذلك لم يحدث، فكان قصب السبق والفوز لـ”دار الطيبة”، فانعقدت على أبوابها راية الرئاسة المجلسية.

في الحالة الراهنة يتقدم إلى الواجهة سؤال لا نظير له: ما الخيارات المتاحة لدى من يرفع مطلب “التغيير” في رئاسة المجلس أو يدعو إلى خوض غمار سباق تنافسي حولها؟ وهنا ثمة تفصيل من غير إسهاب في الشرح ولا في القول:

يصح السباق التنافسي وتصح المعركة الإنتخابية حول رئيس الجمهورية أو حول تسمية رئيس الحكومة من خارج الدوائر النيابية او الوزارية، وبمعنى أوضح، المجال مفتوح أمام أي شخصية سياسية مارونية طامحة إلى الرئاسة الأولى، وكذلك الحال حيال شخصية سنية يحدوها الأمل بترؤس مجلس الوزراء، وأما بالنسبة لرئاسة المجلس النيابي، فثمة شرط أن يكون رئيس المجلس نائبا، ووفق الأعراف شيعيا، وطالما أن الثنائي “الشيعي” نال 27 مقعدا مخصصا للطائفة، ويتوافق في الوقت نفسه على تجديد ولاية الرئيس بري، فأية واقعية يمكن الحديث عنها حين ترفع قوى او شخصيات سياسية مطلب خوض معركة انتخابية حول رئاسة المجلس النيابي؟

إقرأ على موقع 180  ثلاثية كمال خلف الطويل.. عبد الناصر و"الدولة المفقودة"!

كيف يمكن ذلك؟ من أين يؤتى ببديل؟

من أين يُسقط منافس؟ من يخترعه ومن يتخيله؟

هنا عودة إلى الشعر الذي يتحدث عن فكرة مجردة من الفكرة وعن دعوة لا تحوز على معنى ولا دلالة ولا فعل، يقول الشاعر العربي القديم:

كمن يحدو وليس له بعير/ ومن يرعى وليس له سوام

ومن يُسقي وقهوته سراب/ ومن يدعو وليس له طعام.

في استطلاعات رأي عدة أجرتها مراكز أبحاث رصينة، محلية وأجنبية، منها “الدولية للمعلومات” التي أبكرت في التحذير من ارتفاع نسبة البطالة في لبنان (26 ـ 5 ـ 2020) جاء أن الهموم المعيشية باتت تقلق أكثر من ثلاثة أرباع اللبنانيين، وغدت الطبابة شغلهم الشاغل، وكذلك فرص العمل الضائعة، وإذا كانت هذه الإستبيانات تحاكي وفق القواعد العلمية ما يقض مضاجع اللبنانيين وما يُحرّك مواجعهم، فإن استمرار الواقع الإنهياري وما يرافقه من مؤشرات جهنمية ليست محصورة باستئناف ارتفاع سعر الدولار الأميركي وانخفاض الليرة اللبنانية، وإنما تصل إلى احتمال دخول دول العالم الثالث في أتون أزمة غذائية كبرى جراء الحرب الروسية في اوكرانيا، يصبح السؤال حينذاك عن اولوية الحاجات اللبنانية وأي واحدة منها الأكثر إلحاحا وعجالة وضرورة: قضية الرغيف أولا أو قضايا تنطلق من زواياها شعارات حادة وانقسامية تخرق السقوف، ولا تأبه إذا خرقت السماء أيضا؟

ألا يمكن أن تشكل عناوين الغذاء والدواء والكهرباء وحتى الهواء الملوث، مدخلا لمراجعة سياسية عامة يقول مطلعها: خطاب ما بعد الإنتخابات النيابية يختلف عن خطاب ما قبل الإنتخابات؟

بعض هذه الشعارات يعيد تقليب سجلات الماضي المؤلم، ومنها على سبيل المثال ما جاء في افتتاحية صحيفة “العمل” في الثامن من تشرين الاول/ اكتوبر 1966 وكانت تنطق بلسان حزب “الكتائب اللبنانية” وقالت إن “ماركس على الأبواب” وحذرت من مخاطر الشيوعية الحمراء على لبنان، وفي اليوم التالي ردت عليها صحيفة “لسان الحال” فقالت “إن ماركس داخل الحدود، يتجسّد في الفقر وفي البطالة والتشرد”.

اوليس هذا هو الواقع اللبناني الآن، حيث الإنزلاق من قاع إلى قاع منذ ثلاث سنوات، ومن دون أفق للإمساك بطوق النجاة؟ واستطرادا: ألا يمكن أن تشكل عناوين الغذاء والدواء والكهرباء وحتى الهواء الملوث، مدخلا لمراجعة سياسية عامة يقول مطلعها: خطاب ما بعد الإنتخابات النيابية يختلف عن خطاب ما قبل الإنتخابات؟

أخيراً؛ في استعادة النموذج اللبناني:

في الأول من أيار/مايو 1964، كتب كامل مروة افتتاحيته الشهيرة في صحيفة “الحياة” فقال:

“في الوقت الذي تداس فيه الدساتير حولنا بالأحذية (…)، يحق لهذا البلد أن يفاخر بالموقف النبيل الذي يقفه الرئيس (فؤاد) شهاب حيال الدستور، إذ يرفض التجديد، على طبق من ذهب، حفاظاً على قدسية الدستور، وحين ترى الدساتير تُسحب أو تُنشر كشباك الخفافيش، أو في شباكها، يبدو تمسك الرئيس شهاب بحرفية النص الدستوري وروحيته، درسا للمواطنين، بل للشرق العربي كله”.

خلاصة القول، من حق اللبنانيين أن يفتخروا بأن انتخاباتهم النيابية (بعيوبها وعوراتها) لم يسقط فيها قتيل واحد.

من حقهم أن يفتخروا بديموقراطيتهم، ومن حقهم ألا يجوعوا أيضاً.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  رون بن يشاي: هذه هي خطة نصرالله!